على وقْع هواجس توسُّع الحرب في المنطقة، يجتمع قطبا الإقليم البارزان، إيران وتركيا، ولهما قضايا مشتركة كثيرة تستدعي مثل هذا اللقاء. فهناك إطلالةٌ سياسيةٌ وجغرافية للبلدين على منطقة القوقاز التي لم تنعُم بالهدوء بعد، وقضايا أخرى في العراق وفي سورية. تركيا وإيران عضوان في لقاء أستانا الذي لم يزل يبحث عن حلولٍ في سورية، وتأتي أحداث غزّة ويمتد الصراع وهو مرشّح للتصاعد، ليلتقي الرئيسان، أردوغان ورئيسي، بعد سلسلة ضربات قوات التحالف على مواقع الحوثيين.
تنتمي تركيا جغرافياً وعسكرياً إلى أوروبا مع تمايز سياسي عنها، فهي ما زالت تدين الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزّة بلهجة قاسية شديدة الوضوح، ولكنها تحتفظ بعلاقات دبلوماسية وتجارية مع إسرائيل، ولطالما مثّلت تركيا جبهةً أطلسيةً متقدّمة في وجه السوفييت سابقاً، وفي وجه الروس حالياً، أما إيران التي تتزعّم تحالفاً يسمّى محور المقاومة، ويضم مجموعة من المليشيات الموزّعة في اليمن وسورية والعراق ولبنان، فستبحث مع تركيا عن نقاطٍ يمكن التحكّم بها بشكل ثنائي للإبقاء على المنطقة في حالةٍ أقرب إلى الهدوء، ولا سيما مع قدرة البلدين الكبيرة ووجودهما الإقليمي الواسع.
تتقارب الثقافتان الفارسية والتركية وتتباعدان، وتوجد قواسم لغوية وتقاليدية عديدة، وحدود مشتركة بطول يزيد على خمسمائة كيلو متر، ورغم التباين المذهبي إلا أن معظم السلالات العائلية التي حكمت إيران بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر تنتمي إلى العنصر التركي، وقد تأسّس نظام الحكم الإقليمي القديم في إيران وتركيا على التنافس العسكري بين قبيلتين تركيتين، الصفويين والعثمانيين، وحاول كل منهما التوسّع في أراضي الآخر. وشهد الإقليم الذي تشرف عليه الدولتان حروباً عديدة لعب فيها الغرب بتحالفاته المتغيّرة دوراً في تسمية المنتصر والخاسر. حاولت الدولتان خلال عقود طويلة من القرن الماضي التقرّب من الغرب، مع المحافظة على مشاعر قومية قوية، وانتهت إيران إلى دولة دينية تحكمها سلسلة من رجال الدين مع انكفاءٍ إلى الإقليم بمشاعر وسلوك تصادمي مع الغرب، بينما مرّت تركيا بفتراتٍ أدارت فيها ظهرها بشكل كامل للإقليم، وركّزت على المشهد الغربي، في محاولة إثبات للغرب بأنها جزءٌ منه، ومن حقّها الوجود ضمن كتلته السياسية، وأن لا يقتصر وجودها على الجانب العسكري، ولكنها وجدت نفسها مضطرّة إلى التعامل مع الجنوب والشرق، رغم احتفاظها بمشاعر انتماء نحو الشمال الأوروبي.
بهذا الإرث الذي يحمله كل من رئيسي وأردوغان، جرى اللقاء بينهما الأربعاء الماضي، وكان من المقرّر أن يزور رئيسي تركيا في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، فتأجّلت الزيارة وجُدولت في الرابع من هذا الشهر، ثم تأجّلت ثانية ليقوم بها رئيسي أخيراً بعد 20 يوماً، ولكن على خلفية التشابك الإقليمي الذي تتورّط فيه إيران بشكل كبير، وبعد القصف الذي جرى تبادله بين إيران وباكستان، سارع البلدان إلى احتواء الموقف، كما أسرع رئيسي إلى أنقرة للقاء أردوغان. أظهرت ردود الفعل الإيرانية خلال فترة الحرب على غزّة صعوبة إدارتها طرق الرد، ووجدت طهران نفسها تتحرّك على جبهات عدة، ولديها صعوبة في التحكّم بها بشكل كامل، وخصوصاً مع ردود الفعل الأميركية والإسرائيلية في البحر الأحمر وجنوب لبنان. يلجأ رئيسي إلى تركيا، ويوقّع اتفاقيات كثيرة، مُظهراً وجهاً اقتصادياً وانفتاحاً سياسياً، فإيران ترغب في إبقاء الحرب ضمن نطاقها الحالي، وهي تدرك أنها غير قادرة على الوجود العسكري على جبهات عديدة متورّطة فيها بالفعل، ومن البوابة التركية ذات العلاقات الأطلسية، تحاول إيران أن تُظهر رغبتها في إبقاء الحرب محصورة، وهي تختار شريكاً تاريخياً كان مناسباً ليلعب دور المنافس، وهو في الوقت نفسه مناسب الآن، للاعتبارات التاريخية نفسها، للعب دور مهدئ، وقد ينجح هذا المسعى نظراً إلى رغبة أميركا وشركائها في عدم التوسّع أكثر.