تنافس إسرائيليّ إيرانيّ على التفجير الإقليميّ

تنافس إسرائيليّ إيرانيّ على التفجير الإقليميّ

إذا أردنا أن نعرف ما الذي يدور في غزة ومن حولها علينا أن نعرف ما الذي يجري في الهند وخططها والمشاريع التي تعدّ لها في المنطقة؟ تساؤل على طريقة غوّار الطوشه وحسني البورظان ربّما.
لماذا استهدفت طهران باكستان والعراق وسوريا في وقت واحد؟ ولماذا قرّرت تحريك ورقة الحوثيين من جديد في البحر الأحمر؟ وأين ذهب سيناريو التحضير الإيراني لفتح جبهة جنوب لبنان في مواجهة إسرائيل للتخفيف عن غزة؟ جواب مغاير ذو طابع استراتيجي يشير إليه الكاتب والأكاديمي التركي سليمان سيفي أوغون وهو يربط بين ما يجري وبين صراع ملفّات الممرّات التجارية الدولية والإقليمية، وتحديداً الخطّ العراقي والخطّ الهندي. أوغون ساعدها فعلاً على الوصول إلى بعض الاستنتاجات:
1- طهران منزعجة من الخطّ العراقي الذي يمنح بغداد الاستقلالية السياسية والاقتصادية الإقليمية ويقوّي وضعها أكثر بعد الترحيب التركي الواسع بالمشروع العراقي.
2- وإيران تريد أيضاً أن تحمي حصّتها في الخطّ الهندي الذي يستبعدها إقليمياً لمصلحة إسرائيل وقبرص واليونان.
3- كان من المفترض أن تبحث طهران هذه المسائل مع أنقرة لإيجاد مخرج مشترك، لكنّها ذهبت إلى استهداف إربيل شريك تركيا دفاعاً عن السليمانية حليفة طهران.
4- في مكان آخر تقول طهران إنّها منفتحة على الصين وخطّها التجاري وتنسّق معها تحت سقف تكتّل البريكس الذي يجمعهما مع اللاعب الروسي، وتردّد أنّها لا تعارض التحاق باكستان بهذا التكتّل أيضاً ما دامت بكين وموسكو تدعمان الفكرة.
5- ثمّ تجري مناورات حربية مشتركة مع إسلام أباد قبل أسبوعين لتأكيد حسن النوايا ورفع مستوى المجاورة. لكنّها تقرّر بعد أيام الذهاب باتجاه معاكس واستهداف أراضي جارتها، وهو ما لم تفعله منذ سنوات طويلة.

تبنّت إسرائيل لعقود سياسة القطع والضمّ والهضم في المنطقة. بالمقابل روّجت إيران لمقولة توحيد الساحات والجبهات

6- هناك رسائل إيرانية ذات طابع اقتصادي تجاري يراد تمريرها لأكثر من طرف، للغرب وأرمينيا وإسرائيل شركاء المشروع الهندي الذي قد لا يواجَه باعتراضات نيودلهي على الشراكة الإيرانية إذا ما بدّلت طهران من مواقفها وسياساتها في الإقليم وأرضت واشنطن وتل أبيب.
7- فهل وصلت طهران إلى قناعة بأنّ الخطّ الصيني لن يعطيها استراتيجياً ما تريده بقدر ما قد يوفّره الخطّ الهندي؟
8- أرباح إيران ينبغي أن لا تُحسب تجارياً فقط، بل سياسياً وأمنيّاً وجغرافيّاً أيضاً. رسالة لبغداد بأنّها جاهزة لتوتير العلاقات معها. ورسالة لموسكو ودمشق بأنّهما يتحمّلان مسؤولية استهداف ضبّاطها في العاصمة السورية قبل أيام. ورسائل إلى الخليج بأنّها جاهزة للإمساك بحبل الحوثي إذا ما كان أحدهم يبحث عن التفاوض معها حول هذه الورقة، ورسالة لإسرائيل بأنّ أولويّات طهران هي مصالحها حتى لو كانت غزة بيت القصيد.

ماذا عن واشنطن؟
يبقى السؤال الوحيد والأخير: هل تقتنع واشنطن بسيناريو من هذا النوع وتقرّر دعمه للتقريب بين طهران وتل أبيب؟
قرّرت إسرائيل شنّ حرب شاملة ومدمّرة ضدّ قطاع غزة قبل 15 أسبوعاً، وما زالت متواصلة حتى اليوم. وسعت تل أبيب في نطاق الجبهات ومحاولات نقل التوتّر إلى مناطق جديدة إلى تعقيد المشهد إقليمياً وامتصاص الأعباء والضغوطات السياسية التي تتعرّض لها، وإبعاد الأنظار عن سبب الأزمة الحقيقي، وهو اغتصاب الأراضي العربية وحرب الإبادة التي ترتكبها ضدّ الشعب الفلسطيني.
تتعامل الكثير من الدول العربية والإسلامية بدقّة وحذر مع ما يجري لقطع الطريق على أهداف إسرائيل ومخطّطاتها. الجناح الإيراني في الإقليم اعتمد أسلوباً مغايراً في النهج يتضمّن الكثير من نقاط التشابه مع التحرّك الإسرائيلي الإقليمي. لا يريد الدخول في المواجهة المباشرة على الرغم من تهديداته اليومية وتعدّد الفرص الجغرافيّة وتقاطع الساحات مع إسرائيل، لكنّه لا يريد ترك الملفّ – الفرصة يسقط من يده ويسير باتجاهٍ يتعارض مع مصالحه وحساباته. قرّرت إيران تحت ذريعة الدفاع عن أمنها القومي ومصالحها الإقليمية ومواجهة المخطّطات الصهيونية الردّ على إسرائيل بعيداً عن الجبهات الأقرب التي تقع تحت نفوذها في جنوبي لبنان وسوريا، والانتقال إلى إربيل في شمال العراق وإدلب في شمال سوريا والأراضي الباكستانية وحوض البحر الأحمر، انتقاماً من “مراكز التجسّس ومواقع الجماعات الإرهابية وتصفية الحسابات مع إسرائيل في باب المندب”.
تبنّت إسرائيل لعقود سياسة القطع والضمّ والهضم في المنطقة. بالمقابل روّجت إيران لمقولة توحيد الساحات والجبهات. نقاط الالتقاء الإسرائيلي الإيراني الإقليمي دفعت الأمور باتجاه معادلة “الانخراط الدفاعي” في سياسات الطرفين على حساب “الصبر الاستراتيجي” الإيراني و”لا تقتربوا كي لا تصيبوا” الإسرائيلي.

لا يبدأ أصل الحكاية مع قرار طهران رفع مستوى التحدّي، بل يبدأ من فشل الإدارة الأميركية بتنفيذ وعودها في ردع إسرائيل إقليمياً وإقناع دول المنطقة بقيمة وأهميّة ما تقوم به من أجل التهدئة والسلم.
كان التنافس الإسرائيلي الإيراني في السنوات الأخيرة حول من يلعب دور الشرطي الإقليمي. يعقّد التصعيد الأخير الأمور أكثر فأكثر. من المفترض أن تكون واشنطن هي من يحسم تبادل الرسائل الإيرانية الإسرائيلية الأخيرة. فكيف ستتصرّف؟ وهل تترك تل أبيب وطهران تشعلان المنطقة أم تحرّك ورقة عرض استراتيجي بديل مغرٍ للجانبين: التهدئة وتقاسم ما يمكن الوصول إليه؟
لا مؤشّرات حقيقية تذهب باتجاه تبنّي السيناريو الثاني أو نجاحه. لكن لا مؤشّرات حقيقية أخرى تقول إنّ تصلّب الجماعات المحسوبة على إيران في لبنان والعراق واليمن وتمسّكها بخيار التصعيد لا يبتعد كثيراً عن التشدّد الإسرائيلي في مواصلة العمليات العسكرية على أكثر من جبهة، حتى لو كانت النتيجة المزيد من الشحن والتعبئة والاصطفافات الإقليمية. الكرة في ملعب واشنطن لحسم المسار في السباق بين التصعيد والتهدئة قبل أن يفلت زمام الأمور من يدها.
استهدفت إيران في هجمات بالصواريخ الباليستية والمسيّرات أراضي 3 دول إسلامية هي سوريا والعراق وباكستان دفعة واحدة بهدف محاسبة من يهدّد أمنها ومصالحها في الإقليم. فُسّر عرض العضلات الإيراني في الغرب على أنّه تصعيد ضدّ واشنطن وتل أبيب في المنطقة. لكنّه فُهم في الشرق على أنّه محاولة تمرير رسائل لدول الإقليم بعدم إهمال حصّة ومصالح ونفوذ إيران في أيّ مسار تفاوضي.

الأسد يُغمض عينيه
لم يتوقّف النظام في دمشق كثيراً عند الاعتداءات الإيرانية على الأراضي السورية بعكس بغداد التي أعلنت أن “لا أساس للمزاعم الإيرانية”. هي هجمات دفاعية – هجومية حسب دمشق، ولذلك اكتفت بطلب تحرّك مجلس الأمن الدولي في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية وحدها.
التصعيد الإيراني له دوافعه السياسية والأمنيّة والاقتصادية في طهران، لكنّه غير مبرّر في بغداد وإسلام أباد وإدلب وإربيل ومنطقة حوض البحر الأحمر. مشكلة طهران الكبرى بعد مهاجمة هذه الدول هي إسقاط ورقة مواجهتها لإسرائيل واعتداءاتها على دول المنطقة من يدها، بعدما قرّرت تقليد تل أبيب في طريقة الردّ وحدودها الجغرافيّة.
الردّ الباكستاني في العمق الإيراني الحصين منذ عقود خيّب آمال طهران في الرهان على منظوماتها الدفاعية التي اختُرقت بسهولة وبساطة. وخيّب آمالها أكثر بعدما كانت تلعب ورقة إبقاء المواجهات مع خصومها وأعدائها في الحدائق الخلفيّة. هل تكون باكستان بعملها هذا فتحت علبة الباندورا أمام تل أبيب لاستهداف الداخل الإيراني تحت ذرائع كثيرة لا تحتاج أساساً إلى تقديمها أم تسهّل دفع واشنطن نحو الطاولة الإقليمية التي تريدها طهران؟
قرّرت إيران تبديل سياستها أو خارطة تحالفاتها وطرح مسار جديد في خياراتها الإقليمية، فتحرّكت باتجاه العراق وسوريا وباكستان والبحر الأحمر دفعة واحدة. الهدف قد يكون إقناع واشنطن بمراجعة مواقفها نحوها والضغط على تل أبيب لقبول العرض الإيراني الذي لا يجوز التفريط به. هناك من سيدفع الثمن من شركائها المحليين لتسهيل ولادة المخطّط الجديد، فعلى من سيقع الخيار؟