الأتراك و”متلازمة سيفر”.. من 1920 حتى تصريحات أردوغان بشأن الحرب في غزة

الأتراك و”متلازمة سيفر”.. من 1920 حتى تصريحات أردوغان بشأن الحرب في غزة

معاهدة سيفر التي وقعتها الإمبراطورية العثمانية والتحالف المنتصر في الحرب العالمية الأولى، في العام 1920، اعتبرت في الوعي العام في تركيا إهانة كبيرة، ذات تأثير مستمر على سياسة تركيا الخارجية. ورغم أن “عار سيفر” محي عقب اتفاق لوزان في العام 1923، الذي عدل وحل محل معاهدة سيفر، فقد تولد في تركيا ما يسميه الباحثون “متلازمة سيفر” المتعلقة بخوف تركيا من نوايا قوى أجنبية للمس بها، من خلال استغلال جهات في الدولة أو في مناطق تضر بها.
جذور “متلازمة سيفر”
معاهدة سيفر التي وقعت في 1920 بين الإمبراطورية العثمانية وتحالف دول الاتفاق في الحرب العالمية الأولى، كانت ضربة قاسية للأتراك، رغم أن الحركة الوطنية في تركيا نجحت في إلغائها بعد ثلاث سنوات تقريباً بالانتصار على الأرض والتوقيع على اتفاق جديد، لكن تأثير ذكرى معاهدة سيفر على العقلية التركية خلال القرن العشرين وحتى الآن، تأثير كبير. ثمة تأثيرات كثيرة لمتلازمة سيفر، في سياسة تركيا الداخلية وسياستها الخارجية، وضمن ذلك العلاقات بين تركيا وإسرائيل.
من العوامل الرئيسية لمعاهدة سيفر، قرار العثمانيين في 1914 بالمحاربة إلى جانب ألمانيا والنمسا – هنغاريا. أثناء الحرب، نجح الجيش العثماني في صد البريطانيين والفرنسيين في الدردنيل، واستغلال الثورة البلشفية لصالحه في القوقاز. ولكنه مني في ساحات أخرى بهزائم قاسية، لا سيما في الشرق الأوسط، أدت إلى انهيار المنظومة العسكرية والسياسية للإمبراطورية. اتفاق وقف إطلاق النار الذي وقع بين ممثلي الإمبراطورية والمنتصرين في الحرب في العام 1918 عكس هذا الواقع وتداعيات قرار الإمبراطورية عقد تحالف مع الجانب المهزوم في الحرب. وضمن أمور أخرى، أوجد ظروفاً لاحتلال أجزاء من الإمبراطورية العثمانية من قبل البريطانيين والفرنسيين واليونانيين.
عكست معاهدة سيفر أيضاً علاقات القوى السلبية من ناحية العثمانيين، كانت شروطها قاسية للإمبراطورية. فقد حصلت فرنسا وبريطانيا على الولايات العربية التي كانت جزءاً من الإمبراطورية. ونصت المعاهدة على إقامة دولة كبيرة للأرمن ومنطقة مستقلة ذاتياً للأكراد شرقي الأناضول وغربيه. في الشرق، حصلت اليونان على مناطق في الجزء الأوروبي التركي وفي الشاطئ الغربي، حول مدينة سميرنا (أزمير الآن). وفي المناطق الأخرى، التي كان متوقعاً تطبيق صيغة مصغرة للإمبراطورية العثمانية فيها، فإن الحكم العثماني كان محدوداً. مثلاً، المضائق بين البحرين الأسود والمتوسط اعتبرت منطقة دولية منزوعة السلاح، وحصلت فرنسا وبريطانيا وإيطاليا على مناطق نفوذ واسعة في الأناضول.
معاهدة سيفر لم تؤثر على الوضع على الأرض بشكل كبير. من جهة، بدأ فوراً احتلال أجزاء من تركيا على يد قوات أجنبية بعد وقف إطلاق النار، وأكدت معاهدة سيفر الواقع الفعلي في وثيقة دولية. من جهة أخرى، الحكومة العثمانية التي وقعت على هذه المعاهدة، كانت لها صلاحيات محدودة، وصعد أمامها بعد غزو جيوش أجنبية للأراضي العثمانية حركة وطنية قادها مصطفى كمال. وهي حركة طرحت نفسها باعتبارها القوة السياسية التركية الحصرية، ورفضت الاعتراف بشرعية سيفر. بعد عدة انتصارات ضد الجيوش المحتلة في تركيا، ألغت الحكومة التركية الوطنية معاهدة سيفر على الأرض ووقعت في العام 1923 على اتفاق عدل، واستبدال معاهدة سيفر، ورسم معظم الحدود التركية كما هي الآن – اتفاق لوزان.
منذ السنوات الأولى للجمهورية التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، شكلت معاهدة سيفر في الرواية الرسمية في تركيا نقطة الحضيض التي وصلت إليها الإمبراطورية العثمانية، والحاجة إلى الصمود التركي القوي أمام نوايا الدول الإمبريالية ضدها. مع مرور السنين، فإن ما سمي “متلازمة سيفر” تبلور مع خصائص أدق. “متلازمة سيفر” خوف قائم لدى القيادة وفي الساحة السياسية بتركيا من تعاون الدول الغربية العظمى مع لاعبين إقليميين، داخل تركيا وخارجها، للقضاء على دولة تركيا.
الحرب الباردة وسنوات التسعينيات
إن ربط القضايا الداخلية والخارجية من خلال متلازمة سيفر، زاد من تشدد مواقف النخب في تركيا تجاه الأعداء الداخليين، الإسلام السياسي أو الأقليات العرقية، التي عرضت بأنها متعاونة مع القوى الأجنبية وتطمح إلى الإضرار بتركيا. أما من حيث السياسة الخارجية، فقد تم التعبير عن متلازمة سيفر بقضايا مختلفة بعد الحرب العالمية الثانية: النزاع في قبرص بين الأكثرية اليونانية والأقلية التركية، الذي أصبح القضية الأهم والأكثر إثارة للمشاعر في سياسة تركيا الخارجية، هو نزاع تم تفسيره بوجود تحالفات ضد أنقرة. والنشاطات الأمريكية في هذا السياق أظهرت تخوفات تقليدية لدى تركيا. في العام 1964، عندما عانت الأقلية التركية من هجمات الطائفة اليونانية في جزيرة قبرص وأنقرة، فحصت غزو قبرص، وأرسل الرئيس الأمريكي لندون جونسون، لرئيس الحكومة التركية رسالة تهديد منع خطط تركيا. بعد عقد، عندما غزت تركيا شمالي قبرص، الأمر الذي اعتبرته “عملية سلام”، فرضت واشنطن على أنقرة حظر تزويدها بالسلاح. السلوك الأمريكي في موضوع قبرص أقنع الرأي العام في تركيا بأن الإدارة الأمريكية تؤيد أعداء تركيا شرقي البحر المتوسط. وأزمة إيميا (كارداك) في بحر إيجة في 1996 ومعارضة تركيا لشراء منظومة صواريخ “اس 300” الروسية من قبل قبرص في الأزمة في 1997 – 1998 أوضحت من ناحية أنقرة أن العلاقة مع اليونان واليونانيين في قبرص متوترة، بل وقد تسيء قوات أجنبية استخدامها ضد تركيا.
متلازمة سيفر أثرت على رد تركيا حول موقف الغرب في قضية إرهاب الأرمن، والأكثر من ذلك حول إرهاب الأكراد. في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات في القرن الماضي، ضربت منظمات أرمنية إرهابية أهدافاً لتركيا، بخاصة دبلوماسيون أتراك في أرجاء العالم، وطالبت بأن تعترف أنقرة بإبادة الشعب الأرمني، انتقاماً لذلك. الحكومة، والرأي العام في تركيا، التي شعرت في حينه أنها تتعرض للهجوم، ردت بسلبية على حقيقة أن حكومات كثيرة في الغرب قررت الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن. وقد أثبت هذا التوقيت لجهات سياسية كثيرة في تركيا وجود علاقة بين الحركات الإرهابية والحكومات الأجنبية بهدف المس بشرعية الدولة التركية.
شبيهاً بذلك، الدعم الذي حصلت عليه الحركة السرية الكردية، بي.كي.كي، سواء من نظام الأسد الأب في التسعينيات الذي سمح للمخربين الأكراد بالحصول على ملجأ لهم في سوريا، أو من جانب حركات سياسية كثيرة في أوروبا التي اعتبرت الـ بي.كي.كي حركة تحرر، اعتبرته تركيا إثباتاً على وجود تعاون خطير بين أعداء تركيا في فترة جبى فيها النزاع مع إرهاب الأكراد ثمناً باهظاً من المجتمع التركي. إضافة إلى ذلك، فإن اختباء رئيس بي.كي.كي ضمن أماكن أخرى، في منزل السفير اليوناني في كينيا قبل اعتقاله على يد سلطات الأمن التركية، رآها الأتراك علامة أخرى على محاولة المس بسلامة تركيا الجغرافية. هذه الحالات شكلت ذخراً أيضاً للمعارضين لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، التي شكلت موضوعاً رئيسياً في الحوار السياسي في تسعينيات القرن الماضي. المعارضون الذين كانوا في طرفي الطيف السياسي في أنقرة، عرضوا انضمام تركيا للاتحاد كجزء من خطة شاملة لإضعافها.
حرب الخليج الأولى وحرب الخليج الثانية اعتبرتا عوامل للمس بتركيا، التي لم تجدها أنقرة رداً كافياً من جانب شركائها في حلف الناتو. هذه الحروب تسببت بخسائر اقتصادية لتركيا، وخلقت بنية أساسية لاستقلال ذاتي للأكراد في شمال العراق. ورغم أن تركيا طورت علاقات عمل وثيقة مع الحكم الذاتي الكردي في شمال العراق مع مرور السنين، وبالذات مع الحزب الديمقراطي الكردي (كي.دي.بي)، لكن ما زال هناك تخوف من نوايا الاستقلال لهذا الكيان التي ستعرض تركيا للخطر. في جميع هذه القضايا، شكلت “متلازمة سيفر” العامل المؤسس في رد تركيا. وذكر زعماء أكراد طوال سنين معاهدة سيفر من أجل إدانة دول أو منظمات عُرضت كجهات تضر بمصالح تركيا، ومن أجل مهاجمة أعداء في الداخل، الأمر الذي استخدم أيضاً كطريقة لتجنيد الدعم في الرأي العام التركي، الذي ما زالت فيه ذكرى سيفر حية. في حالة الأكراد والأرمن، فإن الكثير من المحللين في تركيا مدوا خطاً مباشراً بين الوضع في الثمانينيات والتسعينيات وبين الخطط القائمة في معاهدة سيفر الأصلية ومع الاتهامات ضد الغرب بمحاولته الدفع قدماً بـ “سيفر جديد”.
عهد أردوغان
بعد تولي رجب طيب أردوغان منصب رئيس الحكومة في 2003 برز تغير معين، كان يمكن تفسيره كجزء من رغبة أردوغان في وضع نفسه ضد نخبة كمال أتاتورك التقليدية، بما في ذلك الجيش، الذي كانت فيه “متلازمة سيفر” عاملاً مؤثراً جداً. نفذت تركيا عدة إصلاحات ليبرالية في محاولة للقبول بها كعضوة في الاتحاد الأوروبي، وبدأ أردوغان بعملية سلام مع الأكراد في تركيا وحتى مع الأرمن.
ولكن هذه المحاولة حصلت على ضربات شديدة حتى في المراحل الأولى؛ فحادثة تغطية رؤوس الجنود الأتراك الذين كانوا في مهمة خاصة شمالي العراق في تموز 2003 على يد جنود أمريكيين، سجلت في وعي الجمهور التركي كإهانة، وجدت تعبيرها لاحقاً في الثقافة الشعبية. وثمة ضربة أخرى، وهي المصادقة على خطة “أمان” لإعادة الوحدة في قبرص في 2004 من خلال استفتاء شعبي بالجزء اليوناني لقبرص (مقابل الجزء التركي الذي صوت مع) وقبول جمهورية قبرص كعضوة في الاتحاد الأوروبي رغم أن النزاع على مصير الجزيرة لم يُحل بعد. إلى جانب قضية قبرص، كان في الاتحاد الأوروبي معارضة شديدة لقبول تركيا في هذه المنظمة، وصرح زعماء بارزون مثل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي نيقولا ساركوزي، في صالح “شراكة خاصة” لتركيا مع الاتحاد الأوروبي، ولكنها شراكة لا تشكل العضوية الكاملة. الحرب في العراق والهزة العربية التي بدأت في 2011 أضافت عوامل توتر للعلاقات بين تركيا والولايات المتحدة، وجهود الوساطة التي قادها أردوغان أمام الأكراد وصلت إلى طريق مسدود.
إسرائيل ومتلازمة سيفر
على خلفية مكانتها في الشرق الأوسط وعلاقاتها الوثيقة مع الولايات المتحدة إلى جانب نظريات المؤامرة حول تأثير سري لليهود، فقد وجد ذلك صداه أيضاً في تركيا، واحتمالية ملاءمة “متلازمة سيفر” مع تعامل تركيا مع دولة إسرائيل، كانت دائماً مرتفعة. لذا، رأت إسرائيل أن التحدي الاستراتيجي هو تجنب وضعها في مجموعة اللاعبين التي تظهر فيها البارانويا التركية.
حاولت إسرائيل في تاريخ العلاقات بين إسرائيل وتركيا، أن تعرض نفسها أنها الدولة الأكثر صداقة لتركيا في المنطقة، وبالتالي استغلال متلازمة سيفر لصالحها.
لكن ثمة عوامل في متلازمة سيفر تؤثر سلباً على العلاقات بين تركيا وإسرائيل، وبدأ الشعور بهذا في العقدين الأخيرين.
خلال حرب “السيوف الحديدية” [طوفان الأقصى]، كان من بين الانتقادات التي أسمعت بخصوص سلوك إسرائيل في الحرب، أن تحدث أردوغان عن نوايا إسرائيل التوسعية. وحتى إن جهات أخرى في تركيا قالت إن إسرائيل تطمح إلى احتلال أجزاء من تركيا.
يمكن فهم هذا الانتقاد على أساس متلازمة سيفر، لكن الأحداث في المنطقة لا ينظر إليها على أنها أحداث صدفية، بل أيضاً وكأنها موجهة ضد تركيا. ورغم دعم أمريكا لإسرائيل وإرسال حاملات الطائرات إلى المنطقة أثناء الحرب في قطاع غزة، لم ينظر إليها كعامل ردع، بل كمشجع على الاستفزاز أمام روسيا وإيران، وأنها ستضر بتركيا وتمكن إسرائيل من القيام بكل ما تشاء في قطاع.