على أعتاب الذكرى الخامسة للثورة التونسية، يحق لنا، بعد أن بدأت تتوفر لدينا مسافة زمنية وتراكمية مقبولة نسبيا، أن نفكر هذا الحدث ونتعقله على ضوء المُنجَز منه والمعطَّل.
تعتبر الثورة التونسية رائدة الثورات العربية الراهنة، لأسباب ثلاثة:
كونها أولا: استفتحت موجة الغضب الشعبي العربي، بعد عقود من الأحكام التسلطية والقمعية والدموية التي عانت منها الشعوب العربية.
ثانيا: اتسمت هذه الثورة بطابع سلمي غير دموي أو مسلح وغير استئصالي، حتى وصفها الغربيون بـ «ثورة الياسمين»، اذ لم تقدها أحزاب أو إيديولوجيات، بل نواتات شبابية متعلمة ويافعة، ثارت بعفوية على واقع لم يعد يتسع لطموحاتها وذكائها .
ثالثا: كانت بالفعل استثناء في تجربة الانتقال الديمقراطي، بالنظر إلى المآلات الكارثية للثورات العربية في كل من مصر واليمن وليبيا وسوريا والبحرين.
لقد تم الانتقال بالفعل من حالة الوضع المؤقت، الذي يقع بين فترتين: العهد البائد والعهد الجديد، إلى مرحلة استقرار مؤسسات الدولة. ولم يتسن ذلك، الا عبر صيرورة متسارعة من البناء الديمقراطي نوجزها كما يلي: انتخاب المجلس التأسيسي في 23 تشرين الأول/اكتوبر2011 الذي كُلف بكتابة دستور الجمهورية الثانية. وبالتوازي، أفرزت هذه الانتخابات هيئة قيادة توافقية متكونة من ثلاثة مكونات: إسلاميين وعلمانيين ووسطيين، عُرفت بالترويكا.
ورغم شفافية العملية الانتخابية في كل مراحلها، وعلى الرغم من نجاح التجربة التونسية اليافعة في انجاز مراحل الانتقال الديمقراطي العسيرة، إلا أن واقع الحال، لا يمكن أن يُخفي عن أنظارنا براعة وتقنيات هذا «الانقلاب الهادئ» الذي حققته مكونات الثورة المضادة، بصفة تكاد تكون ساحقة، وغير قابلة للتشكيك، باعتبار أن ما أُنجز، هو ما أراده الشعب من خلال آلية الاقتراع الديمقراطية.
هنا تحديدا، يتجلى أمام أبصارنا التمفصل الغريب والتداخل الهجين بين مطالب الثورة في القطع مع آليات الاستبداد وتحقيق العدالة الانتقالية وضمان الحريات، والمؤتمنين على انجاز هذه المطالب من أحزاب ونقابات وجمعيات مدنية وشخصيات أهلية مستقلة.
فهل يكون هذا التداخل الهجين بين رموز النظام القديم ومطالب الثورة، أو بكل بساطة بين العهد البائد-الذي لا يزال يدير مراحل الثورة وصيرورات الانتقال الديمقراطي- والعهد الثوري المتجه إلى المستقبل والحالم بالديمقراطية المُحررة، هو أبرز مفارقات الثورة التونسية وهي تلج سنتها الخامسة ؟
الثورة التونسية لم تكن رائدة في استفتاح موجة الربيع العربي فحسب، بل وخاصة في السماح لرموز النظام البائد بقيادة مراحل التحول الديمقراطي.
وبالفعل لم يكن الانتقال السياسي في تونس عنيفا ضد أنصار النظام السابق، وإنما حافظ على نوع من الاستمرارية داخل أجهزة الدولة التي كان يحتكرها فعليا هذا الحزب الحاكم السابق(التجمع الدستوري الديمقراطي). استمرارية كانت واضحة من خلال تولي فؤاد المبزع رئيس برلمان بن علي منصب رئاسة الجمهورية، وأيضا تولي شخصيات تجمعية معروفة لمناصب مهمة على النحو الذي مثله الباجي قايد السبسي رئيس الحكومة التي ستقود البلاد نحو انتخابات المجلس التأسيسي. وقد تمكنت بعض القوى الحزبية المنحدرة من حزب التجمع المنحل من إعادة التشكل مستفيدة من فوضى الأحزاب التي عرفها المشهد السياسي بعد الثورة. حتى أنها تمكنت من المشاركة في انتخابات المجلس التأسيسي وفازت ببعض المقاعد فيه.
إن سرعة التشكل وإعادة هيكلة ذاتها التي سارعت إليها قوى الثورة المضادة المتناسلة عن حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل، تعود إلى عاملين أساسيين:
أولهما: أن الثورة التونسية لم تعمد إلى فعل استئصالي عنيف ضد أساطين النظام السابق، بل حرصت على أن تسير ضمن عملية انتقال ديمقراطي سلمي يقوم على الانتخابات ومنطق التحالفات والتجاذبات السياسية، مما سمح للقوى المنتسبة للحكم السابق أن تعيد التموقع في الخارطة السياسية الجديدة.
ثانيهما: استفادت قوى الثورة المضادة من التجاذب السياسي الحاد بين الإسلاميين والعلمانيين خاصة بعد انتخابات 23 تشرين الأول/أكتوبر 2011، ونجحت في خلق حالة من الارتباك العام في البلاد، ساعدها على تشكيل ائتلاف حزبي يحمل «الاتحاد من اجل تونس» ضم كلا من حركة نداء تونس (بزعامة الباجي قايد السبسي) وأحزابا أخرى يسارية وليبرالية، وسيكون لمنطق التحالفات التي تستهدف الإطاحة بحكومة الترويكا دورها في بناء ما سيعرف لاحقا بجبهة إنقاذ تونس ( ربما تأسيا بالنموذج المصري من حيث إستراتيجية التسمية والممارسة ) التي ستقود تحركات في الشارع واعتصامات متواصلة (أبرزها اعتصام الرحيل صائفة 2013). وهو ما سيسفر لاحقا عن تغيرات متسارعة في المشهد السياسي كشفت عن جملة من النقاط لعل أهمها: «المرونة» المصطنعة التي أبدتها حركة النهضة من حيث قبولها الحوار مع الجميع بما فيه الطرف الذي يمثل القوى المنتمية للنظام السابق بوصفه رأس حربة الثورة المضادة: حزب نداء تونس الحاكم اليوم.
الأمر الثاني عمدت القوى الحزبية المنحدرة من النظام السابق إلى التخلي عن حلفائها من اليسار(الجبهة الشعبية)، وهو أمر تجلى في انسحاب نداء تونس من الاتحاد من اجل تونس وتخليه عن فكرة خوض الانتخابات في قوائم موحدة مع بعض المجموعات اليسارية الصغيرة. بل والأدهى من كل هذا تلك الصفقة السرية التي عقدها الشيخان: الباجي قايد السبسي(زعيم نداء تونس-سليل التجمع المُنْحل) وراشد الغنوشي( زعيم حركة النهضة الإسلامية) في باريس2013، وبموجبها اتفق اليمين الديني واليمين الليبرالي على اقتسام السلطة بالتراضي في المحطة الانتخابية المقبلة.
بعد انتخابات 2014 تأكد نهائيا استقرار مؤسسات النظام البائد ولكن في حُلة جديدة: دستور الجمهورية الثانية وهيئات رقابة دستورية على غرار المحكمة الدستورية المنتظرة والهيئة العليا للانتخابات والمجلس الأعلى للقضاء والهيئة العليا للإعلام، الخ.
كل هذه المظاهر باتت توحي بنجاح النموذج التونسي وتخطيه عقبات التحول الديمقراطي، بما في ذلك مخاطر الإرهاب الأصولي المُحدقة بالبلاد، ومخاطر الطائفية الجهوية المتنامية في الجنوب التونسي، فضلا عن تصاعد الحركات المطلبية بشكل يقترب من العصيان المدني في بعض الأحيان.
بيد أن الواقع وخاصة المستقبل القريب، لا يعطينا ضمانات كافية للدفاع عن هذه الأطروحة: «نجاح الانتقال الديمقراطي بمحامل النظام البائد»، لأن مثل هكذا نجاح يحتاج إلى ما يلي:
• القطع نهائيا مع نظام الفساد النوفمبري( نسبة إلى انقلاب 1987 الذي قاده زين العابدين بن علي المخلوع) المستشري في أجهزة الدولة العميقة. لكن عملية التطهير المنتظرة لم تُنجز إلى حد الآن، لأن المُؤتمنين على التحول الديمقراطي الصوري، هم جزء من منظومة الفساد القديم.
• محاسبة رموز الفساد والإفساد وقتلة شهداء الثورة. وهو ما لم يُنجز بعدَ مسلسل المحاكمات الصورية التي تواصلت ثلاث سنوات، انتهت في نهاية المطاف إلى الإفراج عن قتلة الثورة وتبرئتهم من المحكمة العسكرية.
• تطبيق أحكام العدالة الانتقالية وفق مبدأ: «المحاسبة قبل المصالحة». لكن قوى الثورة المضادة عطلت هذا المسار عبر إتلاف وثائق الإدانة وحرق المحاكم، وتهديد القضاة الشرفاء، والدفع إلى عقد صفقة مصالحة مع رجال الأعمال المتورطين في جرائم الفساد المالي( وهو ما دعا له الرئيس التونسي الحالي في آخر ظهور إعلامي له على قناة نسمة).
• تلبية مطالب الثورة في تحقيق العدالة الجهوية وضمان الشغل للشباب المتعلم، وإصلاح المجالات الحيوية: التعليم والصحة والنقل. لكن قوى الثورة المضادة تواصل سياسة التمييز السلبي بين الجهات، بل تعمد إلى إثارة النعرات الجهوية والقبلية بين الشمال والجنوب من خلال أجهزة إعلامها الموالية.
إزاء هذه الأعطاب البنيوية المرافقة لعملية الانتقال الديمقراطي في تونس، لا بد لنا من وضع الهواجس التالية:
1. هل بإمكان رموز النظام القديم ومؤسساته وقوانينه وتقاليده الراسخة في القدم-وبحجة استمرار الدولة- أن تقود عمليات التحول الديمقراطي نحو غاياته الأخيرة؟
2.في ظل تفاقم تأزم الوضع الاقتصادي والاجتماعي التونسي بعيد الثورة(ارتفاع معدلات البطالة-التضخم المالي المفزع-غلاء الأسعار الجنوني-تهريب البضائع خارج الحدود والتهرب الجبائي، الخ) سيفشل التحول الديمقراطي ويرتد الوضع على أعقابه. ولذلك يتعين أن نسأل عن كيفية تلازم المسارات التنموية(العدالة الاجتماعية أو الجانب الاقتصادي) مع المسار السياسي (الحقوق والحريات الدستورية).
د.مصطفى بن تمسك
صحيفة القدس العربي