من القبيلة إلى “الأمة”
لم يكن في عقائد العرب الوثنية تصور حول الإنسان الأول المصنوع من طين، ولا أسطورة خاصة عن خلق العالم، بل كان ذلك ثقافة وافدة، لم تدخل ضمن المعارف الكونية الجمعية القابلة للتناقل جيلاً بعد آخر. كان حدث الولادة الأساس الذي نهض عليه المعتقد القبلي، واستمرت الحجارة رمزاً لتقديسه، ولتمجيد الأجداد المؤسسين للقبيلة، وعنت كلمة “رب” في الأصل سيد الأسرة أو القبيلة أو المالك. انتهى الماضي عند الجد الأول، مانح القبيلة اسمها، وتحولت الأحجار إلى موضوعات للتقديس والعبادة. وعمل الشعر الذي صمد أمام النسيان في غياب التقليد الكتابي دوراً في نشر المفاهيم الاجتماعية والتصورات الثقافية العامة وتكوينها، وبالتالي، تطوير وعي ذاتي للمجتمع القبلي.
كانت الأحداث الأكثر أهمية في حياة القبيلة سجلها التاريخي الخاص، وعادلت الفترة ما بين حجّين إلى كعبة مكة، سنة قمرية كاملة. استبدل الإسلام الخلق بالولادة، ومثّل النبي إبراهيم جداً مشتركاً، أكثر بعداً وعمومية، من الجد القبلي الخاص، ومن خلال آدم، ارتبط تاريخ العرب بتاريخ البشرية العام. اكتسب التصور عن الماضي وحدته العضوية، لاسيما حين أصبح حدث هجرة النبي إلى المدينة، منذ عهد عمر بن الخطاب، نقطة حساب جمعية للزمن. وفي عصر التدوين، سيبدأ ظهور أولى المدونات التاريخية باللغة العربية التي تروي التاريخ العربي، وفق تسلسل زمني، وكانت إحدى تجليات الوعي التاريخي للعرب، الموجه دينياً، بإعلان الله خالقاً للإنسان الأول. وكان آدم جذراً، اشتقت منه شجرة نسب سلالية موحدة لكل العرب. بهذا الوعي، سيواجه العرب عدواً مشتركا لتحقيق سيادة الأمة. وكانت “الإسلامية” الفكرة التي ألهمت الحضارة العربية.
لم يدن القرآن التشتت السلالي “وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا”، بل كان الأهم هو تشكيل جماعة المؤمنين، بوصفها المضمون الحقيقي لمفهوم الأمة: “أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه”. وسيواصل الغزو، ذو الطابع المحلي، ممارسة دوره الاقتصادي في فضاء أرحب بقيمته المعدلة، ليصبح قتالاً في سبيل الله. وتوسعت جماعة المؤمنين مع الفتوحات التي كانت تعبيراً عن شمولية الفكرة الحضارية. كان العرب مادة الإسلام بتعبير عمر بن الخطاب، ولم يفرّق الأعاجم بين المسلمين والعرب. وكان تحدّث اللغة العربية رمز الانتماء إلى الجماعة المؤمنة، وأصبح الداخلون فيها من غير العرب عنصراً مكوناً. لكن، في المقابل، الانتقال إلى استعمال لغة جديدة يعني الانتقال من منظومة ثقافية قيمية إلى أخرى، أو إعادة بناء المنظومة التقليدية في ضوء رموز اللغة الجديدة.
جدل الدين والسياسة
استطاع النبي محمد، كأول قائد سياسي مدعوم بالوحي، أن يؤسس لتلك النقلة النوعية من القبيلة
إلى “الأمة”، وشكل موته فراغاً مفاجئاً، واختباراً لمدى الاندماج في الجماعة المؤمنة التي لم تنجز بعد تحولات المرحلة الانتقالية. تمت السيطرة على ما بدا انشقاقاً يهدد وحدة الجماعة المؤمنة، وإن عاد ليظهر مضخماً، في ظل الصراع الأيديولوجي والسياسي اللاحق. وتم انتقال السلطة، بعد النبي، بأشكال مختلفة، لم تكن غريبة عن تقاليد العرب، بما فيها التوريث، وتمثّل الجديد على هذا الصعيد في البيعة التي أصبحت لاحقاً تقليداً شكلياً.
مع الخلفاء الراشدين، استمر الطابع الثيوقراطي للحكومة، لكن الوضعي سيمارس دوره أيضاً، فعدل الخليفة الثاني نظام الغنائم الإسلامي، راسماً خطوطاً عريضة لاقتصاد ريعي قائم على الفتوحات العسكرية، ومعه ستجري عسكرة المجتمع على قدم وساق. سُجّل المشاركون في اقتصاد الفتح في سجلات ديوان الجند، وبرزوا مواطنين بامتيازات كاملة، على حساب غيرهم، وتعاظمت أهمية المدن المعسكرات، وتشكلت طبقة أرستقراطية عسكرية عربية بامتيازات واسعة، سوف تلعب أدواراً مفصلية في المراحل المقبلة.
لم يعد الفيء يقتسم بين الفاتحين وحدهم، وفق التشريع الأصلي، بل أصبح يذهب إلى بيت مال المسلمين الذي تحكم في عطاءات الفاتحين وحصصهم. كانت سياسة عمر بن الخطاب هذه سبباً لتذمر مستمر من المقاتلة الذين شكل أغلبيتهم أهل الأمصار. ومع تزايد تراكم الثروة في يد الأرستقراطية القرشية التقليدية، في عهد عثمان، وتنامي الاستياء الشعبي، استغل المقاتلة، في العراق ومصر، النقمة الشعبية لإطاحته، بتحريض من بعض كبار الصحابة. وبعد استباحة المكانة الرمزية للمدينة (يثرب)، سيتنافس كل من العراق والشام على تصدر المشهدين السياسي والعسكري.
مع الأمويين، سيتراجع دور الفقه ورجال الدين لينحصر في القضاء، ولم يعد الهدف توسيع أمة المؤمنين بإدخال شعوب جديدة، بل إخضاعهم، فكانت الجزية ضريبة أساسية دُفِعَت، بغض النظر عن الدخول في الإسلام. وفي أحيان عدة، لم تسقط عمن أسلم. ولم يتدخل الفاتحون في الشؤون الدينية للأعاجم، بل شاركوهم أعيادهم أيضاً. ولم تجر محاولات إعادة الاعتبار للمثل الأعلى الإسلامي إلا في عهد عمر بن عبد العزيز الذي توجه إلى الإصلاح الداخلي على حساب الفتوحات. وعلى الرغم مما في ذلك من مخاطر اقتصادية، أصرّ على إيجاد قواسم مشتركة مع المعارضة التي توسلت قيم جماعة المؤمنين الأولى. ولم تكن المسألة تتعلق فقط بخصائص الشخصية الورعة لعمر بن عبد العزيز، بل أيضا بإدراكه السياسي.
استمرت انتفاضات أهل العراق ضد السيطرة الشامية، ولم تستطع سياسة المحاباة بين القبائل العربية، واللعب على التوازنات، الحفاظ على “شعرة معاوية”. أما “الدولة” فهي الاسم الذي أطلقه العباسيون على حكومتهم التي اعتمدت على جهاز ضخم من الموظفين، نافست الأرستقراطية العربية التقليدية، واتخذت طابعاً ثيوقراطياً. كان العباسيون أقل تساهلاً حيال الاختلافات الدينية، وبدا أنهم أعادوا الاعتبار إلى الشريعة.
رفض الفقهاء الرعاية الرسمية من الدولة من دون التزامها بالشريعة، وسلك بعضهم نوعاً من
المعارضة القانونية، فانعزلوا عن مركز الخلافة في مكة والمدينة. لكن الوضع سيتغير مع العباسيين، فمع استمرار التعارض بين ذرائعية السياسة ومعيارية الأحكام الشرعية، سيقبل الفقهاء التعاون مع الدولة، بوصفها راعية للدين، وستتردد الأحكام السلطانية، أحد المباحث الفقهية، ما بين السياسة العملية والمبادئ الشرعية، وحاولت كتب فنون الحكم والإدارة التي كتبها بيروقراطيو الدولة التوفيق بين السياسة العملية ومبادئ العدل. أما الفلسفة، فاستمدت مباحثها السياسية من اليوتوبيا الأفلاطونية، وكانت محكومة بالنظرة المعيارية المطلبية.
كانت طاعة أولي الأمر مشروطة، “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”. لكن، لم تُرْسَم قاعدة شرعية محددة لمباشرة حق العصيان. وبينما كانت المؤلفات السياسية قد خضعت لإشراف مباشر أو غير مباشر من السلطة، لم تطور حركات المعارضة التي بدأت حركات احتجاج اجتماعية وسياسية، فكراً سياسياً. وعلى عكس ما قدمه التأويل العقلي في حقلي الفلسفة وعلم الكلام من نتائج معرفية، كان التأويل، لدى المعارضة، وسيلةً لحشد المؤيدين وضمان ولاء الأتباع، عبر تبرير المواقف السياسية أيديولوجياً دينياً. وكان ذلك يعني تحول المعارضة السياسية إلى فرقة.
من الفرقة إلى الطائفة
إلى جانب الرخاء الكبير في الدولة العباسية، كان هناك شقاء عظيم، ومزيد من التفاوت الطبقي، ولم تعد الشريعة الجامدة، والتزمت السلفي المدعوم من الدولة، يقدمان أي أمل للمحرومين والمضطهدين، ومنذ العصر العباسي الأول، جرت محاولات إعادة إحياء التراث الديني والفلسفي للشعوب غير العربية، واصطبغت مذاهب كالمزدكية والزرادشتية، بصبغة إسلامية، وعلى الرغم من النزعة القومية، تمسكت الحركات الاحتجاجية “الشعوبية” بمطلب العدالة الاجتماعية. وحاول هؤلاء الاستقلال بولاياتهم التقليدية.
تمكن البويهيون الذين اعتنقوا المذهب الشيعي من السيطرة على بغداد عام 946م. لكن اختفاء الإمام الثاني عشر قبل سبعين عاماً من هذا التاريخ، اضطرّهم إلى الإبقاء على الخليفة العباسي تحت سيطرتهم. وفي القرن الحادي عشر، غزا السلاجقة الأتراك العالم الإسلامي، وأقاموا إمبراطورية عسكرية جديدة، أطاحت الأرستقراطيتين العربية والفارسية، حاولت تحقيق الاستقرار بالعسكر، والتشدد الفكري، وإحكام القبضة على الحياة العامة.
كانت الحضارة العربية الإسلامية مدينية، واستمرت المدن العربية الرئيسية في الإنتاج
الحضاري، واستطاعت أن تكون بمنأى عن الاضطرابات العنيفة، لكن البلابل السياسية في القرنين العاشر والحادي عشر، والصراع على السلطة بين الأمراء في العصر السلجوقي، اجتاحت المدن، وعملت ثورات “الرعاع” و”العيّارين” كما وصفها كتّاب ذلك العصر، والنزاعات الطائفية الشيعية- السنية، على تقوية جماعات الأقرباء والنسب من السكان وانعزالها، فظهرت الأحياء المنغلقة ذات الأبواب، وانقسمت مدنٌ، كبغداد في القرن الثاني عشر إلى سبعة أحياء معزولة، واستمرت مزيد من الجماعات الإثنية والدينية في التحصّن في الجبال الوعرة والمناطق النائية، وكان ذلك إيذاناً بتحول الفرق إلى طوائف.
“الإسلامية” المعاصرة
فقدت المدن العربية التي أنهكتها الحروب الزعامة التجارية في حوض البحر المتوسط، لصالح المدن الإيطالية، وخرّبت بغداد والبصرة، أكبر مدينتين عربيتين، على يد المغول، وتأثرت معها سلباً أجزاء واسعة من سورية، ولم يستطع النهوض الاقتصادي المحدود للمماليك في القرنين 14 و15 الميلاديين تحقيق التقدم. بانهيار المدينة العربية، توقف الإنتاج الحضاري، وأصبح العرب أمة خارج التاريخ.
استمر جدل السياسي والديني، ومعه استمرت الدعوة والبيعة رافعة للدويلات التي ظهرت منذ أواخر العهد العباسي، والمنافسة لحكومة بغداد، وبدا أنها سقطت أسيرة العصبيات، وحبيسة دور خلدوني (نسبة إلى ابن خلدون) عبر أجيال ثلاث، من نشوء وازدهار ثم انحطاط. أما الدول الأوروبية فخطّت تاريخها الخاص، بعد مسار لم يخلُ من تعرجات وارتدادات، لتحقق نمواً مضطرداً، بعد أن وجدت في الليبرالية فكرتها الحضارية التي انتهت بها إلى الدولة الحديثة التي استبدلت علاقات المواطنة في مجتمع مدني، بعلاقات القرابة والقبيلة في مجتمع أهلي.
جل ما أنجزه العرب في تاريخهم المعاصر هو الدولة الوطنية (القُطرية) التي عجزت عن تحقيق الاندماج والمواطنة، وتناقضت، منذ البداية، مع المشاريع الأيديولوجية الكبرى (الإسلامي والقومي والليبرالي والاشتراكي)، بنزعتها الكلية القومية. فشل تلك المشاريع في تحقيق الحد الأدنى من الشعارات، وتغييب المشروع الثقافي القادر على بلورة الفكرة الحضارية المعاصرة، الملهمة لروح الأمة، لصالح هيمنة الأيديولوجي، السياسي والديني، جعلت من التاريخ العربي يبدو كأنه يدور في حلقة مفرغة.
ولا تزال الإحيائية الإسلامية تصر على الاستمرار في القفز فوق حقائق التاريخ، ومنطقه الذي يبرهن أنه إذا كان من المتعذر استلهام فكرةٍ قامت عليها حضارة أخرى، فإنه يتعذر على أمة إحياء فكرة نهضت عليها في إحدى لحظاتها التاريخية. ارتبطت “الإسلامية”، في لحظتها التاريخية، بمستوى معين من التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، واستنفدت تاريخياً منذ قرون، ولا يمكن بعثها في صورتها الجوهرية. وكل محاولة في هذا الاتجاه لن تحظى بأكثر من تكرار مشوه خال من الروح. والنماذج المعاصرة لـ “دولة الخلافة” تؤكد ذلك.