في بلاد ما بين النهرين (دجلة والفرات)، شُيدت عند نهريه أكبر وأقدم الحضارات في تاريخ البشرية، قد يصعب تصديق حقيقة أن يعاني أهل العراق أزمة جفاف وشح الموارد المائية، وتظهر ملامح تلك الأزمة مع بداية كل صيف، ينتج منها نزوح لسكان عرب الأهوار الذين يعتمدون على المياه كلياً في المدن، ناهيك عن تهديد السلم الأهلي والصراع المائي في المناطق الزراعية نتيجة قلة المياه التي تصل إلى تلك الأراضي.
بعد عام 2003، لم تنجح الحكومات المتعاقبة في إدارة الموارد المائية في البلاد، مما أسفر عن تفاقم الأزمة المائية، وعلى رغم المفاوضات التي خاضها العراق مع دول المنبع (تركيا وإيران) لزيادة الإطلاقات المائية، لكن خبراء المياه أكدوا أن ضعف المفاوض العراقي وعدم وجود إرادة سياسية حقيقية، أدّيا إلى عدم تأمين حصة البلاد وتقاسم عادل للمياه.
قبل أيام، ظهر وزير الموارد المائية عون ذياب في مقابلة متلفزة، محذراً من احتمالية حصول نزاعات بين المدن العراقية بسبب شح المياه، لافتاً إلى تشييد تركيا عدداً من السدود على مسار نهري دجلة والفرات، مما أثر في الإطلاقات المائية، وكذلك الاحترار إذ يعتبر العراق من أكثر البلدان التي تسجل ارتفاعاً في درجات الحرارة لتتجاوز 55 درجة.
نزوح وصراعات
ووفقاً لمسح جديد أجراه المجلس النرويجي للاجئين فإن 60 في المئة من المزارعين يزرعون مساحة أراضي أقل بسبب الجفاف الشديد، كما فاقمت الظروف التوترات الاجتماعية وزادت من أخطار النزوح الثانوي.
في صيف 2018 تعرض أكثر من 100 ألف شخص للتسمم في البصرة (جنوب) نتيجة تلوث مياه نهر شط العرب بملوثات كيماوية وبيولوجية وارتفاع التركيز الملحي، وأدى ذلك إلى احتجاجات غاضبة ضد السلطات المحلية والاتحادية للمطالبة بتوفير مياه نظيفة، في وقت قامت إيران بقطع مسار نهر الكارون الذي يصب في شط العرب، فانخفض منسوب المياه.
بدوره قال مدير دائرة الماء في البصرة جمعة المالكي إن “الوضع المائي هذه الأيام جيد جداً، إذ بلغ التصريف المطلق من خلف ناظم قلعة صالح 100 متر مكعب/ الثانية وهي كمية كافية لإنجاح خطة الزراعة الشتوية وتأمين المياه لأغراض الإسالة، وكذلك الصناعات النفطية والكهربائية، كما أن هذه الكمية كفيلة بدفع اللسان الملحي بعيداً من مركز المدينة، خصوصاً بعد زيادة الإطلاقات المائية من سد سامراء من 1000 إلى 2000 متر مكعب/ الثانية بسبب الأمطار التي هطلت أخيراً”.
وأشار المالكي إلى أن “الوضع المائي يعتمد على التساقط المطري والمياه التي تأتي من دول المنبع (تركيا وإيران)، أما البصرة فتعتمد على المياه الواردة من نهر الكارون”، مطالباً الحكومة المحلية المركزية بالتفاوض مع الجانب الإيراني لتوفير حصة مائية عادلة لشط العرب”.
لكن خبير الاستراتيجيات والسياسات المائية رمضان حمزة لا يتفق مع ما ذكره المالكي، قائلاً إن “حجم الإطلاقات المائية من تركيا هذه السنة مقارنة بالأعوام الماضية لم يتغير، لكن ما زاد هو حجم الإطلاقات بسبب الأمطار”، مشيراً إلى أن نهر الكارون يغذي شط العرب بنحو 15 مليار متر مكعب سنوياً.
وبحسب بيانات الإجهاد المائي الصادرة عن معهد الموارد العالمية فإن العراق في المرتبة 21 من بين 33 دولة، وتوقع أن تصل فيه ندرة المياه إلى 4.66 نقطة من أصل خمس نقاط مطلع العام الحالي، محذراً من كارثة بيئية وأزمة مياه تستمر لمدى بعيد.
حلول ترقيعية
وأضاف حمزة أن “العراق هو المتضرر من أزمة المياه لأنه دولة مصب، لذلك يجب أن تشارك إيران وتركيا الضرر والمنافع بصورة عامة”، داعياً إلى صياغة اتفاق مع طهران حول حجم الإيرادات الواردة من نهر الكارون”.
وقال “تتحمل وزارتا الموارد المائية والخارجية ورئاسة الوزراء مسؤولية مشكلة ملف إدارة المياه في البلاد، إذ يجب على السلطات أن تكون لديها إرادة سياسية وأن تعطى الأولوية في زيارات مسؤولي الدولة إلى دول الجوار (المنبع) لموضوع المياه”.
واقترح حمزة أن يقايض العراق دول المنبع على المياه مقابل حجم التبادل التجاري والاستثماري، وأن يضغط المفاوض العراقي بملف النفط وملفات أخرى تعتبر أوراقاً رابحة.
انتهاك القوانين الدولية
بدوره، قال متخصص الجغرافيا البيئية في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية مايكل مايسون إنه “يجب على حكومة العراق أن تعطي الأولوية على وجه السرعة لمشاريع البنية التحتية الرئيسة التي يمكن أن تحسن حال الأمن المائي مثل إعادة تأهيل سد الموصل وبناء محطة تحلية المياه على نطاق واسع في الفاو (جنوب) على المدى القصير، وينبغي التركيز على كفاءة استخدام المياه وتحسين نوعيتها، وبناء قدرة شبكات الإمداد للمياه”.
وتابع أنه “على المدى الطويل، يجب الاعتماد بصورة كبيرة على قدرة الحكومة العراقية على التفاوض على معاهدة مياه عادلة ومستدامة على نطاق الحوض مع تركيا وسوريا وإيران، ويجب على المجتمع الدولي المساعدة بشكل عاجل في ذلك”، لافتاً إلى أن الممارسات التركية والإيرانية الحالية في المنبع تنتهك القانون الدولي للمياه.
وأشار مايسون إلى أن “بناء السدود في دول المنبع قلل من وفرة المياه في العراق بين عامي 1984 و2015، وانخفضت حصة المياه بمقدار الثلث”.