موضوع البيئة الذي نظر إليه حتى وقت قريب باستخفاف، وعومل أنصاره معاملة دونية، وفي أفضل الأحوال وصفوا بالرومانسية، ولم يؤخذ كلامهم على محمل الجد، هو اليوم واحد من أعقد الملفات التي يتعلق عليها مصير البشرية.
يحسب لممثلي الدول التي اختتمت أعمالها يوم 13 ديسمبر في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ (كوب 28) بدبي التوصل إلى اتفاق تم بالإجماع على خفض الاستهلاك العالمي للوقود الأحفوري لتجنب أسوأ آثار تغير المناخ، وهو ما اعتبره البعض بداية النهاية لعصر النفط.
النص المنبثق من مفاوضات مطولة، أقرّ من نحو 200 دولة حضرت الجلسة الختامية للمؤتمر، ومن دون أيّ اعتراض.
خطوة ابتهج لها السياسيون، وشكك في قيمتها علماء المناخ والبيئة، الذين قالوا إن قرارات المؤتمر ستمحوها مطامع الشركات الكبرى والضرورات الاقتصادية لكل بلد.
قد يكون لمؤسس شركة تسلا لتصنيع السيارات الكهربائية الملياردير أيلون ماسك مصلحة في إعدام الوقود الأحفوري، لكنه، رغم إدراكه أهمية خفض انبعاثات الكربون للحفاظ على كوكب الأرض، حذر من شيطنة النفط والغاز على المدى المتوسط.
الأبحاث تؤكد أن البشرية أمامها من خمس إلى ثماني سنوات فقط، إذا بقيت الانبعاثات عند مستواها الحالي، قبل أن تتجاوز كمية الكربون المحدّدة لحصر ارتفاع حرارة الأرض بـ1.5 درجة مئوية مقارنة بما قبل الثورة الصناعية، وتجنب التداعيات الأسوأ للاحترار المناخي على المدى الطويل.
لنفترض الآن أن البشرية لم تكتشف الوقود الأحفوري ولم تطور أساليب الطاقة المتجددة. ما هو مصير الغابات والغلاف النباتي في العالم.. هل كان لينجو؟
ولكن، حتى لو بدأت الانبعاثات بالتراجع، سيكون على العالم أن يتخلى بشكل تام عن جميع أنواع الوقود الأحفوري بحلول عام 2040، وليس بحلول عام 2050 كما أشار الاتفاق الذي نصّ على تحقيق صافي الصفر (الحياد الكربوني).
في الحقيقة الحديث عن موعد للتخلي نهائيا عن الوقود الاحفوري نوع من العبث، يكفي الاتفاق على التخلي تدريجيا عن النفط والغاز والفحم الحجري. الأفضل هو التفكير بآلية وليس بموعد محدد ينهي فيه العالم اعتماده على الوقود الأحفوري.
لم يجانب عالم المناخ والجيوفيزياء في جامعة بنسلفانيا الأميركية مايكل مان الحقيقة عندما قال إن “الاتفاق على التحوّل بعيدًا عن استخدام الوقود الأحفوري ليس مقنعًا”، واصفًا الأمر بأنه “أشبه بشخص يعد طبيبه بأنه سيبتعد عن تناول الكعك المحلّى بعد تشخيصه بأنه مصاب بمرض السكري”.
هل يفهم من هذا أنه نوع من التعجيز واليأس من الشفاء؟ بالتأكيد لا. المطلوب تحديد العلاجات الممكنة والمتاحة، وهي في حالتي الاحترار والتلوث البيئي اللتين يعاني منهما العالم متنوعة.
هناك عوامل عديدة ساهمت في إلحاق الضرر بالبيئة والغلاف الجوي، وإن كان الوقود الأحفوري في مقدمتها، هو ليس السبب الوحيد فيها.
هناك عوامل أخرى تساهم في انبعاثات الكربون وظاهرة الاحترار، مثل قطع الأشجار والغابات، التي تقلل من قدرة النباتات على امتصاص الكربون وإنتاج الأكسجين، وتفقد التربة خصوبتها وتعرضها للتآكل والجفاف. وكذلك التلوث الناتج عن النشاطات الصناعية والزراعية والمنزلية، والذي يؤثر على نوعية الهواء والماء والتربة، وتنتج عنه مواد سامة ومعادن ثقيلة ومواد كيميائية وميكروبات وفايروسات.
ولا يمكن هنا أن نتجاوز عاملا آخر منسيّا هو التأثير الكارثي للحروب والصراعات على الطبيعة، من خلال ما تتسبب فيه من زيادة في انبعاثات غازات الدفيئة.
يفيد تقرير صادر عن مرصد الصراع والبيئة البريطاني وعن سبع منظمات دولية أخرى بعنوان “الاعتراف بالانبعاثات العسكرية والمتعلقة بالنزاعات في التقييم العالمي”، أنّ جيوش العالم والحروب والصراعات مسؤولة عن 5.5 في المئة من انبعاثات غازات الدفيئة، ويقدر التقرير أنّ الأشهر السبعة الأولى فقط من الحرب الروسية – الأوكرانية مسؤولة عن 100 مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون على الأقل.
هناك أمر آخر مسكوت عنه وينظر إليه بمثابة تابو، وهو زيادة عدد سكان العالم.
قد يكون لمؤسس شركة تسلا الملياردير أيلون ماسك مصلحة في إعدام الوقود الأحفوري، لكنه، رغم إدراكه أهمية خفض انبعاثات الكربون للحفاظ على كوكب الأرض، حذر من شيطنة النفط والغاز على المدى المتوسط
بدأنا في استخدام النفط والغاز في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، مع اكتشاف وتطوير حقول وآبار ومصاف وأنابيب لهذه الصناعة الحديثة نسبيا. خلال نفس الفترة تقريبا تضاعف عدد سكان العالم أربع مرات من 1.8 مليار نسمة عام 1920 إلى 8 مليارات عام 2023، ويتوقع أن يصل الرقم إلى 9.7 مليار عام 2050.
لنفترض الآن أن البشرية لم تكتشف الوقود الأحفوري ولم تطور أساليب الطاقة المتجددة. ما هو مصير الغابات والغلاف النباتي في العالم.. هل كان لينجو؟
البشر أزالوا مساحات هائلة من الغابات في جميع أنحاء العالم بسبب الحاجة إلى الأراضي والموارد والتنمية، والعالم خسر منذ العام 1990 أي خلال ثلاثة عقود فقط 178 مليون هكتار من الغابات، وهو ما يعادل مساحة ليبيا.
ولمعرفة الأثر الذي خلفته إزالة الغابات على الاحترار العالمي يكفي أن نذكر ما جاء في تقرير “فجوة الانبعاثات السنوي” الصادر من الأمم المتحدة، من أن عمليات التشجير وإعادة التشجير والحفاظ على الغابات سوف تعمل على إزالة حوالي ملياري طن من ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي سنويا. وأشار نفس التقرير إلى أن زيادة هذا المعدل ثلاث مرات بحلول عام 2050 يحقق الحياد الكربوني في العالم.
بالطبع التقرير ينصح بالاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة، وتقنيات إزالة ثاني أكسيد الكربون، مثل العملية التي تُعرف بـ”احتجاز الكربون وتخزينه” في تقنية تقوم على استخلاص ثاني أكسيد الكربون ثم نقل الانبعاثات وتخزينها في باطن الأرض أو تحويلها إلى منتجات أخرى.
ويدخل في هذا الإطار أيضا البدء في استخدام “الفحم الحيوي” وهو شكل من أشكال الفحم النباتي الذي يتم إنتاجه من الأغصان والنفايات من خلال التحلل الحراري، أي التعرّض للحرارة بعيدا عن الهواء، ويمكنه تخزين الكربون، ويمتلك القدرة على إزالة كميات كبيرة من غازات الدفيئة من الغلاف الجوي ويزيد من خصوبة الأراضي الزراعية، ويساعد على تقليل حالات الجفاف والتصحر.
لم يجانب أيلون ماسك الصواب عندما طالب دول العالم بالتوقف عن شيطنة النفط والغاز.. إن كان وقود النفط والغاز شيطانا، فهو ليس الشيطان الوحيد، وإعدامه لن يكفي لإنقاذ العالم، هناك الكثير مما يمكن عمله.. لنبدأ بأضعف المساهمات.. ليزرع كل منا شجرة.
العرب