تقدم الدورة الانتخابية الأخيرة دليلاً إضافياً على أن النظام الإيراني يعتمد على المركزية والقمع المفتوح كأدوات رئيسية للسيطرة، حيث أصبحت الهيئات المنتخبة غير ذات أهمية على نحو متزايد.
يصادف الأول من آذار/مارس يوم الانتخابات في إيران، حيث سيختار الناخبون 290 نائباً للبرلمان و88 قاضياً لـ “مجلس خبراء القيادة”، وهو الهيئة المكلفة رسمياً باختيار الخلف القادم للمرشد الأعلى علي خامنئي. وستكون هذه الانتخابات الثانية عشرة والسادسة من نوعها منذ عام 1979، ولكنها لن تكون حرة أو نزيهة، كما هو الحال مع المنافسات السياسية الأخرى المتنوعة في إيران. لماذا يستمر النظام الإيراني في إجراء الانتخابات، وماذا تكشف الدورة الحالية عن المناخ السياسي الداخلي؟
تاريخ طويل من التلاعب بالانتخابات
كانت بعض الانتخابات السابقة في الجمهورية الإسلامية عبارة عن سباقات سياسية تنافسية نسبياً. على سبيل المثال، طبعت حملات “مجلس الشورى الإسلامي” في عامَي 1996 و2000 منافسة شديدة بين “الإصلاحيين” والمتشددين، وشهدت البرلمانات التي تمخضت عنها جدالات حامية بشأن اتجاه الثورة.
وبطبيعة الحال، حتى عندما تمكن الإصلاحيون من إقرار تشريعات تدعو إلى التحرر، رفض “مجلس صيانة الدستور” جميع هذه القوانين تقريباً. ويتألف “مجلس صيانة الدستور” من ستة رجال دين يعينهم المرشد الأعلى وستة محامين يوصي بهم رئيس السلطة القضائية (الذي هو أحد المعيّنين الآخرين من قبل خامنئي)، ويتمتع “المجلس” بصلاحيات واسعة جداً، تشمل سلطة نقض أي مشروع قانون برلماني واستبعاد أي مرشح انتخابي.
ومع ذلك، فقد ساهمت الاختلافات الكبيرة بين المرشحين في العقود الماضية في زيادة الحماس الشعبي للانتخابات على نطاق واسع. وكان الإيرانيون يقفون في طوابير لساعات للإدلاء بأصواتهم، على أمل حدوث تغيير سلمي وتدريجي، في حين يروّج النظام للإقبال الكبير على التصويت كدليل على شرعيته وشعبيته.
ولكن بعد أن رسّخ خامنئي سلطته بين عامَي 2004 و2005، زاد التلاعب بالانتخابات وتراجعت التنافسية فيها، حتى أن “مجلس صيانة الدستور” منع نخب النظام من الترشح عندما اعتبرهم أقل انصياعاً من الناحية الأيديولوجية لخامنئي، من بينهم علي مطهري ومحسن كوهكان في عام 2020 وجميع المرشحين المقربين من علي لاريجاني في الحملة الانتخابية الحالية.
وتراجعت أيضاً أهمية الهيئات المنتخبة. فقد كان “مجلس الشورى” يتمتع بصلاحيات كبيرة في الماضي، بدءاً من استجواب وزراء الحكومة وإلى تغيير بعض القوانين بشكل جوهري، إلا أن صلاحياته ضمرت إلى حد كبير حالياً. وتتراجع أهمية البرلمان أكثر فأكثر بفعل انتشار الهيئات غير المنتخبة وغير الدستورية التي تتمتع بسلطة سن القوانين، ومن بينها “المجلس الأعلى للثورة الثقافية”، و”المجلس الأعلى للفضاء الإلكتروني”، و”مجلس التعاون”، الذي يُنسّق بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
وقد ترسخت هذه الجهود الرامية إلى “تطهير” النظام وجعله مركزياً منذ عام 2019، عندما أعلن خامنئي في بيان موقفه بشأن “المرحلة الثانية” من الثورة. وبالنسبة لانتخابات “مجلس الشورى” لعام 2020 والانتخابات الرئاسية لعام 2021، استبعد “مجلس صيانة الدستور” الكثير من المرشحين المحافظين الذين اعتبرهم المرشد الأعلى أقل ولاءً لحكمه الشخصي. وقد تم ذلك لتمهيد الطريق لإنشاء برلمان “على غرار ذلك الذي يدور في فلك حزب الله”، أي برلمان يهيمن عليه أنصار خامنئي الأقوياء الذين يقبلون عبادة شخصيته.
تراجع دور الانتخابات
كما هو الحال في الأنظمة الاستبدادية الأخرى، لطالما استخدمت الجمهورية الإسلامية الانتخابات لنشر وهم المشاركة العامة، وإضفاء الشرعية على الدكتاتورية، واستقطاب النخب. لكن الانتخابات الأخيرة أثبتت أنها أقل فعالية في تحقيق هذه الأهداف.
إن أحد أسباب هذا الاتجاه هو التراجع المستمر في الاهتمام الشعبي بالتصويت، حيث يعتقد المزيد من الإيرانيين أن الحملات السياسية هي مجرد لعبة مصممة للحفاظ على واجهة الديمقراطية دون أي إمكانية حقيقية للإصلاح من الداخل. وقد تراجعت مشاركة الناخبين حتى في ظل جهود النظام لتحريفها. ففي انتخابات “مجلس الشورى” عامي 1996 و2000، وصلت نسبة المشاركة إلى 71% و67% على التوالي. ولكن في عامي 2004 و2008، بلغت النسبة 51%، وهو الرقم الذي اعتبره العديد من المراقبين صادقاً نسبياً. بعد ذلك، أصبح النظام أكثر وقاحة في تحريف الأرقام، حيث أعلن أن نسبة الإقبال بلغت 64% في عام 2012 و62% في عام 2016. ولكن بحلول عام 2020، انخفض الرقم المعلن إلى 42%، وكان من المعتقد أن الرقم الحقيقي أقل من ذلك.
كما أصبحت الانتخابات أقل فعالية في جذب النخب للعمل لصالح النظام. فنظراً لجهود “التطهير” التي بذلها خامنئي، تم استبدال الكثير من التكنوقراط الأكبر سناً بـ”ثوار” أصغر سناً وأكثر حماساً، مما أدى إلى تفاقم عدم الكفاءة البيروقراطية للنظام. ورداً على ذلك، تزايد الاستياء العام – فخلال المظاهرات الحاشدة في 2022-2023 بسبب وفاة مهسا أميني، هتف العديد من المتظاهرين “لقد انتهى الأمر بالنسبة لكل من الإصلاحيين والمتشددين”، وكانت هذه المشاعر مجرد غيض من فيض من حيث المعارضة واسعة النطاق.
احتمالات التصويت عام 2024
بدلاً من محاولة تحسين أجهزة الدولة وهيكلياتها، أعاد خامنئي التأكيد على مشروعه لتطهير النظام استعداداً لاختيار خلفه الوشيك. ولتحقيق هذه الغاية، تم استبعاد جميع المرشحين المعتدلين والإصلاحيين المزعومين تقريباً قبل انتخابات الأول من آذار/مارس. فقد تم اختيار 144 مرشحاً بعناية من بين 510 مرشحين مسجلين من أجل تصويت “مجلس خبراء القيادة”، وشمل المستبعدون حتى الرئيس السابق حسن روحاني، وهو عضو في مجالس سابقة. أما بالنسبة إلى انتخابات “مجلس الشورى”، فلم يعلن أي من الأحزاب الإصلاحية عن قوائم مرشحيه نظراً للاستبعاد الجماعي للمرشحين.
ووفقاً لاستطلاعات رأي متعددة، ستكون نسبة المشاركة في هذه الانتخابات منخفضة للغاية، حيث تقدر بنحو 10 في المائة في المدن الكبرى مثل طهران و30 في المائة على مستوى البلاد. وسيستخدم النظام جميع تكتيكاته لزيادة هذه الأعداد. على سبيل المثال، سيحاول تخويف الناس من خلال إخبارهم أن وثائق هويتهم تتطلب ختماً يثبت أنهم صوتوا – وإلا فقد لا يكونون مؤهلين للحصول على وظائف حكومية، أو القبول الجامعي، أو الترقيات الوظيفية، أو حتى الإعانات الحكومية.
ومن ناحية، يمكن القول إن عدم الاهتمام بالانتخابات يضر بصورة النظام. فنسبة المشاركة المنخفضة تشير إلى أن قاعدة الناخبين الأساسية قد تقلصت إلى حوالي 10 أو 15 في المائة من السكان في أحسن الأحوال، وأن قِلة من الإيرانيين يأخذون ادعاء النظام بأنه ديمقراطية دينية على محمل الجد. وفي الماضي، كان الكثيرون يأملون بأن يتمكنوا من إصلاح النظام وتحويله إلى نظام ديمقراطي أكثر تمثيلاً، لكن بدلاً من ذلك أصبحت الجمهورية الإسلامية دولة بوليسية أكثر قمعية.
ولكن من وجهة نظر خامنئي، لم تعد نسبة الإقبال المرتفعة تشكل أهمية بالغة بالقدر ذاته لاستراتيجيته القائمة على جعل النخبة متجانسة وشخصنة السلطة. فهو لم يعد يهتم كثيراً بشرعيته العامة، إذ يعلم أن عدداً أقل من الإيرانيين يهتمون بادعاءاته المتعلقة بالزعامة الدينية (وفقاً لأحد التقديرات، يؤيد 73% من عامة الناس الفصل بين المسجد والدولة). ومع اعتماد النظام بشكل أكبر على القمع السياسي للحفاظ على النظام، فإن الانتخابات الإيرانية في طريقها لأن تصبح صورية مثلها مثل الانتخابات في سوريا أو روسيا.
سعيد جولكار