إن كان هناك جانب واحد مشترك في السياسة الخارجية يجمع بين الرؤساء الأميركيين باراك أوباما ودونالد ترمب وجو بايدن، فهو رغبتهم في أن تغادر الولايات المتحدة الشرق الأوسط. فاستراتيجية الأمن القومي لعام 2022 التي أقرتها إدارة بايدن تسلط الضوء مثلاً على “التهديد المتسارع” الذي تمثله الصين، وتؤكد في الوقت نفسه تركيزها على المنافسة بين القوى العظمى، وليس على المشاحنات في الشرق الأوسط. وعلى نحو مماثل، أراد أوباما وترمب تحويل التركيز نحو آسيا وفك الارتباط الأميركي مع المنطقة. وهذا الميل لا يظهر في المكتب البيضاوي فحسب، فالكونغرس أيضاً يواجه على سبيل المثال مشكلة في إقرار مشاريع القوانين التي من شأنها تقديم مساعدات عسكرية لإسرائيل، وهو أمر اعتبر في الماضي من البديهيات السياسية.
في الواقع، يردد قادة الولايات المتحدة صدى الرأي العام، فاستطلاعات الرأي تظهر أن الأميركيين يعتبرون الصين أكبر تهديد بالنسبة إلى الولايات المتحدة، تليها روسيا وكوريا الشمالية (وبالكاد أتوا على ذكر إيران، خلافاً لما كان عليه الحال قبل 15 عاماً، عندما كانت تعتبر عدو أميركا الأول والألد).
ووجد استطلاع أجراه مركز بيو في عام 2019 أن غالبية الأميركيين، بمن في ذلك معظم المحاربين القدامى الذين شاركوا في حربي العراق وأفغانستان، يعتقدون أن حرب العراق “لم تكن تستحق عناء خوضها”. وفي يناير (كانون الثاني) من العام الحالي، بدا أن مقتل ثلاثة من أفراد الخدمة الأميركيين في الأردن على يد جماعة مدعومة من إيران يؤكد صحة الرأي القائل إن ثمن الوجود الأميركي باهظ للغاية، مما يثير تساؤلات حول ما إذا كان ينبغي للولايات المتحدة الحفاظ على دورها العسكري في المنطقة.
ومن السهل فهم هذه الشكوك. فالشرق الأوسط مبتلى بالمشكلات، على غرار الحروب الأهلية والأنظمة الاستبدادية والإرهاب والمشاعر العميقة المعادية لأميركا، على سبيل المثال لا الحصر. وفي مواجهة هذه التحديات، فأهون ما يمكن قوله هو إن سياسة الولايات المتحدة تجاه المنطقة لا تحقق نجاحاً كبيراً على ما يبدو. طوال عقود، دعمت الولايات المتحدة عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية التي شهدت تباطؤاً كبيراً بعد أن حققت بعض الإنجازات الأولية في تسعينيات القرن الماضي، ثم تعثرت وتوقفت تماماً بسبب الحرب الحالية في قطاع غزة. كذلك، أدى تغيير النظام في العراق بعد الإطاحة بصدام حسين عام 2003 إلى ظهور الإرهاب وعدم الاستقرار. قبل وقت طويل من هجوم “حماس” على إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، كانت الجماعات المسلحة المدعومة من إيران تهاجم بانتظام القوات الأميركية في العراق.
ودول الشرق الأوسط، في الأقل في خطابها، لا تظهر حماسة ولهفة بشكل خاص لبقاء الولايات المتحدة. وتتزايد الضغوط في العراق من أجل انسحاب أميركي كامل في ظل اندلاع اشتباكات بين القوات الأميركية والميليشيات المحلية. علاوة على ذلك، تفكر الولايات المتحدة أيضاً في سحب قواتها من سوريا بسبب اعتقادها أن تنظيم الدولة الإسلامية قد ضعف بما فيه الكفاية، وخوفها من وقوع خسائر محتملة في صفوفها نتيجة للهجمات التي تشنها المجموعات الوكيلة لإيران.
وهذا الشعور بالإرهاق عميق، على رغم أن الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط أقل بكثير مما كان عليه في الماضي. في الوقت الحاضر، تحتفظ الولايات المتحدة بنحو 45 ألف جندي في المنطقة، بمن في ذلك نحو 2500 جندي في العراق، و900 في سوريا، وآخرون متمركزون في قواعد مختلفة في دول مثل: البحرين وجيبوتي والأردن والكويت وقطر والإمارات العربية المتحدة. وشهدت المنطقة انتشار ما يقارب 15 ألف جندي من هذه القوات كجزء من زيادة موقتة في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر، فيما كان للولايات المتحدة قبل ذلك نحو 30 ألف جندي متمركزين هناك.
وعلى رغم عدد هذه القوات الكبير، فإنها لا تمثل سوى جزء صغير من العدد الذي نشرته الولايات المتحدة في عام 2010، عندما كان لديها أكثر من 100 ألف جندي في العراق ونحو 70 ألف جندي في أفغانستان، وقوات إضافية في الدول المجاورة. وبحلول عام 2015، تدنت هذه الأرقام، مع تراجع الوجود الأميركي في العراق وخفضه بصورة كبيرة في أفغانستان، ثم شهدت تراجعاً أكبر بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان عام 2021.
ومع ذلك، فإن النظرة المتشائمة لتاريخ الولايات المتحدة وآفاقها المستقبلية في المنطقة لا تعترف بالإنجازات الأميركية المهمة التي تعتبر أقل عظمة وبروزاً في الشرق الأوسط. على رغم أن هذه النجاحات أقل وضوحاً ويمكن أن يكون من الصعب قياسها، فإن الوجود العسكري الأميركي القوي يمنع الخصوم والحلفاء من ارتكاب تصرفات قد تجعل المنطقة أقل استقراراً وتولد مزيداً من الصراعات الأهلية، والانتشار النووي، والتدخلات الخطرة، وغيرها من التهديدات الجسيمة. ولذلك فمن الضروري الحفاظ ولو على وجود عسكري أميركي محدود للتخفيف من هذه الأخطار، حتى لو ظلت الولايات المتحدة تفشل في تحقيق أهدافها الإقليمية الطموحة.
التحرك فوراً في خضم الشدائد
هناك حجة مقنعة تدفع الولايات المتحدة إلى مغادرة الشرق الأوسط أو في الأقل الحد من تورطها هناك، بخاصة في ما يتعلق بموقفها العسكري. فعدد الضحايا الذي تتكبده القوات الأميركية في المنطقة كل عام يعتبر قليلاً، لكنه ليس عديم الأهمية. في العقد الماضي، فقدت الولايات المتحدة أكثر من 140 جندياً في عمليات في أفغانستان والعراق وسوريا، غالبيتهم في أفغانستان. على رغم أن القوات الأميركية المنشورة اليوم في العراق وسوريا اليوم ضئيلة إلى حد ما، فإن الجنود معرضون لخطر دائم من الهجمات الصاروخية والطائرات من دون طيار التي تشنها القوات المدعومة من إيران، وبدرجة أقل، من المجموعات الأخرى المناهضة لأميركا، مثل تنظيم الدولة الإسلامية، المعروف باسم داعش.
إضافة إلى الرغبة في تجنب هذه الخسائر البشرية، هناك حاجة إلى موارد الولايات المتحدة في أماكن أخرى. لقد سلط الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022 الضوء على التهديد الذي تشكله موسكو على الأمن الأوروبي وأمن الغرب بصورة عامة. والمجهود الحربي الأوكراني في حاجة ماسة إلى الذخائر الأميركية والأنظمة العسكرية الأخرى. لذا، سعت إدارات متعددة إلى الاستدارة نحو الصين، في الصراعات التي تتطلب أعداداً كبيرة من القوات وأنظمة الدفاع الجوي والمراقبة والأسلحة نظراً إلى قوة الصين العسكرية الكبيرة والمتنامية.
وتجدر الإشارة إلى أن إرسال حاملات الطائرات لردع إيران، وتوفير الذخائر لمساعدة إسرائيل في قصف غزة، ونشر السفن الحربية للحماية من صواريخ الحوثيين في البحر الأحمر، وتخصيص القوات ومعدات المراقبة للمساعدة في قتال تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، يمكن أن يترك القوات الأميركية وحلفاءها في أجزاء أخرى من العالم أكثر عرضة للعدوان الاستبدادي.
من خلال تقديم هذا الدعم، تصبح الولايات المتحدة متواطئة جزئياً في أفعال حلفائها. في الواقع، يعتبر الشرق الأوسط موطناً لأنظمة ديكتاتورية متعددة يتراوح أداؤها في مجال حقوق الإنسان بين المتذبذب [الذي يحترم الحقوق بدرجات متفاوتة] والمزري. وتساعد الولايات المتحدة في الحفاظ على أمن تلك الدول، من ثم إدامة الوضع الراهن غير الديمقراطي. كثيراً ما كانت الولايات المتحدة شريكاً راسخاً لإسرائيل، وهو موقف يحظى بشعبية كبيرة في الداخل لكنه يتعرض للانتقاد في معظم أنحاء العالم، وخصوصاً بعد أن بدأت إسرائيل حملتها العسكرية المدمرة في غزة، التي أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 30 ألف شخص حتى الآن.
ولعل مما يسترعي الانتباه هو أن جهود الولايات المتحدة لا تعود عليها بمكاسب كبيرة على ما يبدو. فالدول الإقليمية تتجاهل مخاوف الولايات المتحدة في شأن حقوق الإنسان ومطالباتها بالإصلاح الاقتصادي. وفي فبراير، دعت إدارة بايدن إلى استئناف عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية وطلبت من إسرائيل السماح بدخول مزيد من المساعدات الإنسانية إلى غزة، لكن حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رفضت كلا الطلبين. وعلى نحو مماثل، لم تؤد الضربات الأميركية على اليمن إلى تغيير سلوك الحوثيين، إذ واصلت الجماعة هجماتها بالصواريخ والطائرات من دون طيار على السفن التجارية.
تقييم النجاحات
هذه التصورات المرتبطة بالفشل ليست خطأً، لكنها ترسم صورة غير مكتملة. لم تنجح الولايات المتحدة في إحلال السلام في المنطقة أو في تحويل الديكتاتوريات إلى ديمقراطيات، ولم تتمكن من تحويل منطقة مضطربة بشكل دائم إلى منطقة يعمها السلام، لكن الوجود الأميركي، إجمالاً، ساعد في الحفاظ على مصالح الولايات المتحدة ومصالح حلفائها.
في الواقع، توضح الحرب الحالية في غزة هذا الأداء المتفاوت. فالحرب مستمرة وهي تتسبب في معاناة هائلة للفلسطينيين، بيد أن عدد القتلى في صفوف المدنيين انخفض مع الضغط العلني والسري الذي مارسته الولايات المتحدة على إسرائيل من أجل تقليل عدد الضحايا وسط انتقادات دولية سلبية. وفي ذلك الإطار، تشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن عدد الفلسطينيين الذين يموتون كل يوم في غزة قد انخفض بمقدار الثلثين منذ أواخر أكتوبر: ولا يزال عدد القتلى من غير المقاتلين مرتفعاً للغاية، ولكن يبدو أن الضغوط الأميركية، على رغم أنها قد تكون محدودة للغاية ومتأخرة، قد غيَّرت مسار الاستراتيجية الإسرائيلية.
واستكمالاً، كانت جهود الولايات المتحدة أساسية أيضاً في منع نشوب حرب إقليمية شاملة. بعد أسابيع من هجوم السابع من أكتوبر، نجحت إدارة بايدن في منع إسرائيل من شن حرب وقائية على قوات “حزب الله” في لبنان، وهي ضربة كان من من الممكن أن توسع بصورة كبيرة نطاق الصراع الحالي وحجمه. في الحقيقة، يشكل “حزب الله” اللبناني خصماً أقوى بكثير من “حماس”، فهو يضم آلاف المقاتلين الذين سلحتهم إيران ودربتهم، ونحو 150 ألف صاروخ وقذيفة، مما يجعله قادراً على ضرب إسرائيل بأكملها والتغلب على أنظمة الصواريخ الإسرائيلية، فضلاً عن ذلك فإن الحرب بين إسرائيل و”حزب الله” من المرجح أن تدفع لبنان، الذي يعاني بالفعل من الفوضى الاقتصادية، إلى الهاوية، وهذا قد يحوله إلى دولة منهارة فعلاً.
يبدو أن جهود الولايات المتحدة في الشرق الأوسط لا تعود عليها بمكاسب كثيرة.
كذلك، اتخذت إدارة بايدن خطوات لردع إيران، راعية حزب الله، عن استغلال الصراع الحالي. بعد فترة وجيزة من السابع من أكتوبر، نقلت الولايات المتحدة حاملتي طائرات إلى شرق البحر الأبيض المتوسط وحذرت طهران من تصعيد التوترات مع إسرائيل. علاوة على ذلك، هاجم بايدن وكلاء إيران رداً على هجمات شنت على القوات الأميركية في المنطقة. وقد أسهمت هذه الضمانات، إلى جانب الوجود العسكري المعزز، في ردع إيران. فبعد ضربة أميركية انتقامية على الميليشيات في العراق وسوريا، طلبت طهران من الجماعات الوكيلة لها في المنطقة الحد من هجماتها، خوفاً من إشعال حرب واسعة النطاق مع الولايات المتحدة، إضافة إلى ذلك، عمل موقف بايدن أيضاً على طمأنة إسرائيل بأن الولايات المتحدة تدعمها، مما منحها الثقة اللازمة للامتناع عن توجيه ضربات على إيران بدافع اليأس.
واستطراداً، حقق الرد الأميركي على هجمات الحوثيين في البحر الأحمر بعض النجاحات. تعمل الولايات المتحدة، التي تقود تحالفاً يضم أكثر من 20 دولة، على حماية ممرات الشحن الحيوية من خلال إسقاط الطائرات من دون طيار والصواريخ الحوثية ومحاولة وقف الهجمات التي تنطلق من اليمن. من ناحية، فشلت الضربات الأميركية على الحوثيين في منعهم من مواصلة مهاجمة السفن التجارية في مضيق باب المندب، وأدت هجماتهم إلى إلحاق الضرر بعدد من السفن، وأسفرت عن سقوط ضحايا، من بينهم ثلاثة بحارة يعملون على متن ناقلة للبضائع السائبة تعود ملكيتها إلى ليبيريا، ودفعت سفناً متعددة إلى الإبحار في رحلة أطول بكثير حول رأس الرجاء الصالح، وهو التفاف في المسار يؤدي إلى ارتفاع في كلفة التجارة العالمية. ومن ناحية أخرى، فإن وجود قوة المهام [فرقة العمليات] التي تقودها الولايات المتحدة سمح بمواصلة بعض أنشطة الشحن.
وفي المتوسط، لا يزال يعبر المضيق يومياً ما يقدر بأكثر من مليون طن متري من السلع التجارية. وهذا أمر بالغ الأهمية بشكل خاص لاقتصادات مصر والأردن وإسرائيل، التي تعتمد بصورة كبيرة على موانئ البحر الأحمر. والأهم من ذلك، أن إدارة بايدن أكدت دفاعها عن مبدأ حرية البحار، وأوضحت للمعتدين المحتملين الآخرين أن الولايات المتحدة سترد على محاولات تعطيل التجارة وستحمي مصالح الحلفاء الاقتصادية عندما تتعرض للتهديد.
إذاً، فالآثار الإيجابية لوجود الولايات المتحدة لا تقتصر على تدخلها في الجولة الأخيرة من الصراعات فحسب. صحيح أن إيران تتمتع بنفوذ هائل في العراق، لكن هذا النفوذ كان ليكون أقوى بكثير لولا وجود قوات أميركية توفر ثقلاً موازناً. وفي العراق وسوريا، تتعاون القوات الأميركية مع الحلفاء المحليين لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية. ومن دون المعلومات الاستخباراتية والتدريب والقدرات العسكرية التي توفرها واشنطن لحلفائها، سيصبح تنظيم الدولة الإسلامية أكثر قدرة بكثير على إعادة تجميع صفوفه، مما سيسمح له باكتساب مزيد من النفوذ المحلي وتعزيز قدرته على شن هجمات إرهابية دولية.
تجنب الكوارث
إن التأثير الأهم للوجود الأميركي الدائم في الشرق الأوسط هو منع وقوع أحداث خطرة، لمجرد أن الولايات المتحدة لا تزال هناك. قد تهاجم إيران، على سبيل المثال، الشحن في مضيق هرمز، حيث يمر نحو 20 في المئة من استهلاك النفط العالمي، كوسيلة للضغط على إسرائيل والولايات المتحدة، مستخدمة أسلوباً شبيهاً بأسلوب الحوثيين في مضيق باب المندب ولكن مع تداعيات أكبر بكثير. ومن المحتمل أن تؤدي مثل هذه الهجمات إلى ارتفاع أسعار النفط العالمية بشكل هائل، مما قد يغرق العالم في ركود اقتصادي. في الوقت الحالي، إن إمكانية مهاجمة الولايات المتحدة لإيران وفتح المضيق بالقوة يجعل هذا الاحتمال محفوفاً بالأخطار للغاية بالنسبة إلى طهران، إذ إن إيران قد تعلمت درساً قاسياً خلال الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينيات، عندما حاولت مهاجمة الشحن وخسرت سفناً ومنصات نفط في رد عسكري بقيادة الولايات المتحدة. إذاً، فالضربات التي شنتها إدارة بايدن على الحوثيين تجعل التحذيرات الأميركية في شأن مضيق هرمز أكثر صدقية.
في غياب القوات الأميركية، ستحظى طهران بمجال أكبر لزعزعة الاستقرار الإقليمي أو شن عدوان على الدول المنافسة، مثل الإطاحة بحكومة البحرين وإنشاء نظام موال لإيران يقوده الشيعة، على غرار ما حاولت فعله في الماضي. ومن المرجح أيضاً أن تصبح إيران أكثر ميلاً لبناء أسلحة نووية، معتقدة أنها لن تدفع ثمناً باهظاً إذا انتقلت من أنشطتها الحالية لتخصيب اليورانيوم إلى إنتاج أسلحة نووية. وحتى لو وضعنا مثل هذه السيناريوهات الصعبة جانباً، فمن دون وجود عسكري أميركي يلعب دور القوة الموازنة، يمكن لإيران مواصلة توسيع نفوذها بشكل أكبر في الدول المجاورة مثل العراق، بهدف تحويلها إلى دولة تابعة.
واستطراداً، قد يرد الحلفاء أيضاً على تخلي الولايات المتحدة عن المنطقة بطرق محفوفة بالأخطار وتؤدي إلى نتائج عكسية. فمن دون ضمانات أمنية أميركية موثوقة، يمكن لإسرائيل، التي تشعر حالياً بالضعف والحساسية الشديدة تجاه أي تهديد محتمل، أن تقنع نفسها ليس بمهاجمة حزب الله فحسب، بل أيضاً بشن هجوم تقليدي على البرنامج النووي الإيراني، وهو ما قد يدفع إيران والجماعات المسلحة التابعة لها إلى الرد بكامل قوتها، ومن المحتمل أن يشمل ذلك هجمات إرهابية. إضافة إلى ذلك، قد يرغب الحلفاء الآخرون، الذين ينطوون حالياً تحت المظلة الأمنية الأميركية، في تولي مسألة الأمن بأيديهم، بما في ذلك محاولة بناء سلاح نووي أو شرائه.
قد يؤدي انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة إلى خلق فراغ في السلطة قد تستغله الصين أو روسيا أو دول أخرى.
ومن الممكن أن تصبح سياسة إسرائيل الخارجية أكثر عرضة للتأثر بالمشهد السياسي الداخلي المضطرب. كثيراً ما استخدم القادة الإسرائيليون الضغط الأميركي كذريعة للتخاذل على الصعيدين المحلي والدولي، وأخبروا الناخبين اليمينيين أنهم لولا اعتراضات واشنطن، لهاجموا إيران أو ضموا الضفة الغربية، وقد لقي هذا التبرير قبولاً واسع النطاق بين المتشددين الإسرائيليين نظراً إلى أهمية العلاقة الأمنية بين الولايات المتحدة وإسرائيل. ومن دون هذه الضغوط الخارجية، قد يستسلم القادة الإسرائيليون لتأثير اليمين المتطرف الصاعد ويتحركون لضم الضفة الغربية، أو إعادة بناء المستوطنات في غزة، أو اتخاذ خطوات استفزازية أخرى يمكن أن تؤدي إلى تفاقم التوترات الإقليمية.
سيكون للانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط أيضاً تبعات على أجزاء أخرى من العالم، مثل آسيا وأوروبا. وتحظى هذه المناطق بأهمية متزايدة بالنسبة إلى كثيرين في واشنطن بسبب قلقهم من العدوان الصيني والروسي. فالحلفاء في مختلف المناطق على علم بأي إجراءات تتخذها واشنطن في أماكن أخرى من العالم. على سبيل المثال، طمأن الدعم الأميركي لأوكرانيا عدداً من الذين يخشون حدوث غزو صيني لتايوان. وعلى النقيض من ذلك، فإن إظهار الضعف لا يؤدي إلا إلى تشجيع المعتدين. إذا فشلت الولايات المتحدة في الوقوف إلى جانب حليف لها في الشرق الأوسط يواجه عدواناً إيرانياً أو مسلحاً، فإنها ستنقل إلى حلفاء الولايات المتحدة القدامى الآخرين في جميع أنحاء العالم رسالة مفادها أن واشنطن قد لا تدافع عنهم في حالة تعرضهم لهجوم.
في الواقع، من الممكن أن يؤدي انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة إلى خلق فراغ في السلطة قد تستغله الصين أو روسيا أو غيرهما. وسوف تسعى السعودية والإمارات العربية المتحدة ودول أخرى إلى ردع إيران، واحتواء الجماعات الإرهابية، ودرء التهديدات الأخرى، وإذا لم تتمكن الولايات المتحدة من تقديم المساعدة والضمانات الأمنية بشكل موثوق، فهذه الدول ستبحث عن ذلك في أماكن أخرى. إن مغادرة الشرق الأوسط يفتح الطريق أمام القوى الاستبدادية المتنافسة لزيادة نفوذها في المنطقة، مما قد يمثل انتكاسة [أميركية] كبيرة في السياق الأوسع للمنافسة بين القوى العظمى (وهو مما يشكل مصدر قلق كبير بالنسبة إلى بعض منتقدي التدخل الأميركي في المنطقة).
من المستحيل قياس مثل هذه التصورات الافتراضية البديلة، ومن المستبعد أن تحدث كل هذه السيناريوهات الخطرة، ولكن إذا تحقق سيناريو واحد منها فقط فمن الممكن أن تكون له عواقب كارثية على كل من الشرق الأوسط وواشنطن. إضافة إلى ذلك، قد يقع عدد لا يحصى من الأزمات غير المتوقعة القابلة للتفشي إذا قررت الولايات المتحدة مغادرة الشرق الأوسط.
الحفاظ على الوجود العسكري
قد يكون من المغري النظر إلى الدور الأميركي في الشرق الأوسط والتركيز على الإخفاقات فحسب، نظراً إلى وفرتها. ومع ذلك، تتخلل هذه الإخفاقات نجاحات، كبيرة وصغيرة. بعض أهم الإنجازات يدور حول منع الكوارث التي لم تحدث قط بسبب الوجود الأميركي، وهي إنجازات تتمتع بأهمية حيوية، ولكن يصعب التباهي بها.
يجب أن يكون لدى صناع القرار والشعب على حد سواء توقعات واقعية في شأن ما يمكن أن تحققه الولايات المتحدة في المنطقة في السنوات المقبلة. فمشكلاتها كبيرة، والعداوات عميقة، وقد تقلص الوجود الأميركي بشكل ملحوظ في العقد الماضي. لكن تقليص دور الولايات المتحدة أكثر بعد يحمل في طياته أخطاراً كبيرة، إذ من الممكن أن تصبح هذه المنطقة المحورية وغير المستقرة أكثر اضطراباً وعرضة للحروب، مع ازدياد قوة الأنظمة المناهضة لأميركا ورسوخها. إذاً، فالوجود الأميركي المحدود، على رغم عيوبه، أفضل بكثير من الغياب الأميركي الكامل.