ديمقراطية المصالح: تأثيرات تمويل الحملات الانتخابية على مستقبل النظام الأمريكي

ديمقراطية المصالح: تأثيرات تمويل الحملات الانتخابية على مستقبل النظام الأمريكي

تُعتبر قضية تأثيرات المال السياسي على المؤسسات السياسية الأمريكية من أكثر الموضوعات الجدلية على الساحة الأمريكية؛ لكون المعضلة الأساسية في قضية التمويل تكمن في أن مصادر التمويل تنعكس بشكل كبير على توجهات المرشح وبرنامجه الانتخابي. فإذا كان المصدر هو تبرعات عموم الأفراد، فمن المتوقع أن تتصدر قضاياهم برامج المرشح، بينما يكون تركيز المرشح على مصالح المجتمع في حالة أن تمويل حملته جاءت من المال العام، بينما تتصدر أولويات المرشح حماية مصالح جماعات المصالح وخاصة الشركات الكبرى والأثرياء في حالة قيامهم بدورٍ في تمويل حملته الانتخابية.

وقد كشفت انتخابات التجديد النصفي للكونجرس التي أُجريت في الرابع من نوفمبر الماضي عن صعود سياسي غير مسبوق للشركات وأصحاب الثروات دفاعًا عن مصالحهم الخاصة في الانتخابات؛ حيث تعدى حجم الإنفاق على انتخابات هذا العام مبلغ 3,64 مليارات دولار تم إنفاقها في انتخابات التجديد النصفي لعام 2010، ومبلغ 3,66 مليارات دولار أُنفقت في انتخابات 2012، لتصبح الأكبر من حيث الإنفاق السياسي في تاريخ الولايات المتحدة. وقُدر إجمالي نفقات المرشحين والأحزاب وجماعات الضغط في انتخابات 2014 بنحو 4 مليارات دولار.

الإطار القانوني لتمويل الحملات الانتخابية:

يواجه نظام تمويل الانتخابات الأمريكية منذ منتصف التسعينيات إشكاليات عدة أثارت الجدل داخل الساحة الأمريكية، الأمر الذي دفع المُشرِّع الأمريكي للعمل بصورة مستمرة لإصلاح نظام التمويل الخاص بالانتخابات بشقيها الرئاسي والتشريعي، فشهد مراحل مختلفة من التعديلات بُغية إصلاحه، بسبب فشل لجنة الانتخابات الفيدرالية في سد الثغرات الكثيرة الموجودة في قانون 1974 من أبرزها:

1. تعديل “قانون 1974″، فبموجبه تم تعديل قانون الحملات الانتخابية الفيدرالية لعام 1971 لوضع حدود قانونية لتبرعات الحملات الانتخابية، وتم إنشاء هيئة مستقلة “لجنة الانتخابات الفيدرالية”. ثم تم تعديله في عام 1976 استجابة لحكم المحكمة العليا في “قضية باكلي ضد فاليو” حيث رُفضت القيود المفروضة على ما يُمكن للحملات الانتخابية والأحزاب السياسية وجماعات المصالح أن تنفقه للتواصل مع الناخبين؛ حيث أكدت المحكمة أن القيود المفروضة على النفقات للتواصل مع الناخبين تشكل قيودًا غير مقبولة على حرية التعبير عن الرأي.

2. تعديل “قانون ماكين-فاينغولد” 2002: بحلول عام 2002 صوت الكونجرس الأمريكي لصالح مشروع قانون يُقيّد تدفق الأموال من الشركات الكبيرة إلى الأحزاب السياسية في الولايات المتحدة، ذلك في الوقت الذي رفع فيه القانون حد التبرع الفردي من مبلغ 1000 دولار إلى 2000 دولار. ثم تلا ذلك إقرار المحكمة العليا الأمريكية في ديسمبر 2003 لقانون إصلاح الحملات الانتخابية المشترك بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي الذي منح الكونجرس الأمريكي سلطة حظر التبرعات المالية غير المحدودة “المال الميسر soft money” للحملات السياسية، وعرف هذا القانون بقانون ماكين –فاينغولد.

3. تعديل “يناير 2010”: فقد أصدرت المحكمة العليا في الولايات المتحدة في شهر يناير 2010 حكمًا عُرف باسم “citizens untied” بموجبه تم رفع الحظر على مقدار التبرعات التي تقدمها الشركات للمرشحين؛ حيث كفلت حرية التعبير الدستوري للشركات للإنفاق بحرية لدعم أو معارضة المرشحين السياسيين، وهو ما تسبب في زيادة الإنفاق على انتخابات الكونجرس التي أُجريت عام 2010، وأثرت بشكل واضح على إعادة ترتيب الخريطة السياسية للولايات المتحدة.

4. تعديل “إبريل 2014”: أزالت المحكمة العليا القيود الموضوعة على إجمالي حجم المبالغ التي يستطيع الأفراد التبرع بها للحملات الفيدرالية والأحزاب السياسية، لأنها تُعد انتهاكًا لحرية التعبير، حيث كانت القيود المفروضة على هذه التبرعات هي إجمالي 48600 مليون دولار كل سنتين موجهة لجميع المرشحين، وإجمالي 74600 مليون دولار موجهة إلى الأحزاب السياسية واللجان -لم تتأثر القيود المفروضة على التبرعات المقدمة من جانب فرد واحد لدعم مرشح واحد (2600 مليون دولار لكل مرشح في الانتخابات التمهيدية والعامة)- نتيجة لهذا القرار.

تحديات راهنة:

يواجه تمويل الحملات الانتخابية تحديات عديدة من أجل الحد من التأثيرات السلبية للمال السياسي على الانتخابات الأمريكية. ويأتي في مقدمتها؛ الارتفاع المستمر في تكاليف الحملات الانتخابية، وزيادة اعتماد المرشحين على أموال المتبرعين للفوز بمناصبهم، فضلا عن التحدي الأكبر الذي يتمثل في الدور الذي تعلبه جماعات المصالح في تمويل المرشحين، وتداعيات ذلك على المسار الديمقراطي الأمريكي.

فعلى صعيد تصاعد تكاليف الحملات الانتخابية، شهدت انتخابات التجديد النصفي للكونجرس التي أجريت في العام الجاري 2014 ارتفاعًا طفيفًا في تكلفة الحملات الانتخابية مقارنة بانتخابات 2010 و2012، حيث تجاوزت مبلغ 3,64 مليارات دولار الذي تم إنفاقه في 2010، ومبلغ 3,66 مليارات دولار الذي تم إنفاقه في 2012. فقد بلغت نفقات المرشحين والأحزاب نحو 2,7 مليار دولار، في مقابل 900 مليون دولار أنفقتها مجموعات خارجية، وقد تجاوزت نفقات الحزب الجمهوري نفقات منافسه الديمقراطي خلال تلك الانتخابات، حيث يُقدر إجمالي إنفاق الجمهوريين بنحو 1,92 مليار دولار، مقابل 1,76 مليار دولار للديمقراطيين.

يضاف إلى ذلك، أن العديد من القرارات القانونية فتحت خلال السنوات الماضية الباب على مصراعيه لجماعات المصالح غير الحزبية للإنفاق على تمويل مرشحيها، حيث بلغ معدل إنفاق هذه الجماعات أكثر من 498,7 مليون دولار في سباقات مجلس الشيوخ، و283,1 مليون دولار في سباقات مجلس النواب، وفقًا لمركز الاستجابة السياسي الأمريكي، ويأتي في مقدمة هذه الجماعات:

1. لجان العمل السياسية super PACs، وهي عبارة عن منظمات أُنشئت بغرض تجميع تبرعات من الأفراد أو المؤسسات التابعة لجماعات مصالح أمريكية معينة، بحيث تقوم بتوجيه هذه التبرعات عادةً لمساندة أعضاء الكونجرس القدامى الساعين للحفاظ على مقاعدهم، ولا تُفضل منح تبرعاتها لمنافسيهم الجدد. بحيث تقوم تلك اللجان بتقديم دعم مالي لكلٍّ من أعضاء الحزبين الجمهوري والديمقراطي.

فعلى صعيد اللجان الداعمة للحزب الجمهوري، فتتقدمها “الشبكة السياسية” التي يشرف عليها الملياردير تشارلز G. وديفيد كوتش، وتُعد أكبر مصدر للإنفاق على الإعلانات التلفزيونية دعمًا للجمهوريين، فقد بلغ إجمالي إنفاق سبع مجموعات مدعومة من Koch groups نحو 77 مليون دولار على الإعلانات التلفزيونية. وكانت Koch groups أكبر المجموعات الخارجية إنفاقًا على الإعلانات التلفزيونية في ولاية أركنساس، وولاية إيوا، ولويزيانا، حيث أنفقت 25 مليون دولار على الإعلانات. كما أنفقت American crossroads بقيادة كارل روف Karl rove ومجموعة غير ربحية تابعة لها 50 مليون دولار على الدعاية السياسية، منها نحو 7 ملايين دولار على الإعلانات التلفزيونية في ولاية ألاسكا، و14 مليونًا في ولاية كولورادو.

أما على صعيد اللجان الداعمة للحزب الديمقراطي، فيتصدرها كل من لجان Senate majority Pac وHouse majority Pac ولجنة NextGen Climate Action, وأنصار التيار الليبرالي من أصحاب المليارات، حيث جاء على رأسهم الملياردير “توم ستيير Tom Steyer” الذي أنفق 70 مليون دولار في انتخابات 2014. ثم يأتي بعد ذلك ثاني أكبر مانح هو عمدة نيويورك الأسبق “مايكل بلومبرغ Michael Bloomberg” الذي ترك الحزب الجمهوري، وأصبح مستقلا، ووجه معظم دعمه لصالح المرشحين الديمقراطيين، حيث أنفق 20 مليون دولار لصالح لجان العمل السياسية الديمقراطية في الانتخابات الأخيرة. وجاء في المرتبة الثالثة “فريد إيشانير Fred Eychaner” رئيس مؤسسة newsweb، وهو من أكبر الداعمين للديمقراطيين في العديد من الدورات الانتخابية، وأنفق 9 ملايين دولار في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأخيرة.

2. منظمات 501(c)(4)s و501(c)(6)s، وهي منظمات غير ربحية، نشأت في الأساس بهدف تعزيز الرفاه الاجتماعي. لكن بحلول عام 1959 سمح لها القانون بالمشاركة في بعض الأنشطة السياسية طالما أن السياسة ليست هدفها الرئيسي. وقد سميت بذلك على اسم بند القانون الذى ينظم عملها، وتعتبر مصادر تمويلها drak money أو المال الجامد، لأنها لا تكشف عن الجهات المانحة لتمويلها. فوفقًا لتحليل أجراه مركز برينان للعدالة فإن أكثر من نصف الإنفاق على الحملات الانتخابية في تسعة من كبار سباقات مجلس الشيوخ (في: ألاسكا، وأركنساس، وإيوا، وكولورادو، وجورجيا، وكنتاكي، ولويزيانا، وميتشيجان، وكارولينا الشمالية) قد أتـت من مانحين مجهولين. ويُقدر إجمالي النفقات في تلك السباقات بحوالي 84 مليون دولار. ومن الجدير بالذكر أن أبرز هذه المنظمات التي ساهمت في انتخابات الكونجرس الأخيرة هي: Crossroads GPS وساهمت بحوالي 26 مليون دولار، وPatriot Majority USA وبلغت مساهمتها ما يقرب من 10 ملايين دولار، وKentucky Opportunity Coalition التي ساهمت بحوالي 7 ملايين دولار.

تهديدات مستقبلية:

أفرزت قوانينُ نظام تمويل الحملات الانتخابية الأمريكية حزمةً من التهديدات للنظام الأمريكي على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وذلك بعدما فتحت الباب أمام تنامي الإنفاق السياسي غير المحدود من جانب مجموعات خارجية تهدف إلى التأثير على عملية صنع القرار في أروقة المؤسسات المختلفة داخل الإدارة الأمريكية، وخاصة الكونجرس بمجلسيه الشيوخ والنواب.

فعلى الصعيد السياسي، تُثار تخوفات من تأثيرها على تقويض النموذج الديمقراطي الأمريكي، وذلك عبر التجاوزات التمويلية للأثرياء عن طريق قيام جماعات المصالح بتخصيص مبالغ مالية ضخمة تتجاوز ملايين الدولارات، بهدف إعادة توجيه مسارات العملية الانتخابية لتأتي بمسئولين يضمنون لهم معاملة تفضيلية ومصالح خاصة لهم عبر التأثير على عمليات التصويت، ذلك بالإضافة إلى التأثير على درجة الحراك والتغيير السياسي في مراكز القرار الأمريكي، حيت تميل جماعات المصالح الثرية إلى دعم مرشحين وأعضاء الكونجرس القدامى حفاظًا على استمرارية مصالحهم.

أما عن التهديدات الاقتصادية، فيتصدرها التخوف من خلق حالة من التهميش للطبقة الوسطى في الولايات المتحدة؛ حيث يقف التمويل الخاص في الحملات الانتخابية عائقًا أمام النظام الاقتصادي الذي يعمل لصالح الطبقة الوسطى، وذلك نتيجة الأموال التي يضخها الأثرياء. فهذه التبرعات تلعب دورًا مؤثرًا في تبني وجهة نظر الأثرياء تجاه القضايا أو المرشحين الذين يسعون لإعادة تشكيل سياسات الاقتصاد الأمريكي لصالح طبقة الأثرياء من جانب، وعلى حساب الطبقة الوسطى من جانب آخر.

كما يلعب السلوك الريعي Rent-Seeking الذي يتبناه ممولو الحملات الانتخابية دورًا في إضعاف النمو الاقتصادي للولايات المتحدة، وذلك لكونه يتمثل في عملية البحث عن الدخل من خلال اعتماد الحكومة على التمويل من جانب فئات خاصة، وليس من خلال القيام بأنشطة اقتصادية إنتاجية تصب في صالح كافة طبقات المجتمع، حيث ينطوي السلوك الريعي في التركيز على إنفاق الموارد للتأثير على دورة تقسيم الأرباح لصالح فئة بعينها، بدلا من إنتاج سلعة أو خدمة لباقي فئات المجتمع من الشركات أو الأفراد، مما يترتب عليه العديد من الآثار السلبية المتمثلة في إبطاء معدلات النمو الاقتصادي نتيجة عدم الكفاءة، وإهدار العديد من الموارد المتاحة التي يمكن أن تسهم في دفع عجلة النمو الاقتصادي.

ولهذا، يبدو أن قضية إصلاح نظام تمويل الانتخابات الأمريكية سيظل يمثل تحديًا حقيقيًّا أمام المدافعين عن الديمقراطية الأمريكية، وذلك في ضوء تبعات قوانين الإصلاح المالي للحملات الانتخابية الأمريكية التي ما زالت محل جدل مستمر لعدم قدرتها على وضع حد نهائي للتأثيرات السلبية للمال على الانتخابات الأمريكية في ظل السعي المستمر من جماعات المصالح لإيجاد ثغرات قانونية في أي تشريع جديد لتعظيم دورها التمويلي من أجل خدمة مصالحها.

سلمى العليمي

المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية

 http://goo.gl/rJO8zT