“لا إحباطَ ولا خيبةَ أمل”.. هكذا كان شعور أغلبنا ونحن نرى اللانتائج التي حقّقها الردّ الإيراني على إسرائيل بعد أن قصفت الأخيرة القنصلية الإيرانية في دمشق، فقتلت عددًا من كبار جنرالاتها. لم يخب أملنا، وكان هذا انعكاسًا صارخًا للوضع المأساوي الذي نعيشه.
ورغم الوحشية غير المسبوقة التي تمارسها إسرائيل على قطاع غزة منذ سبعة أشهر، والتي تعد إبادة جماعية حقيقية، لا يزال العالم ينتظر تدخلًا مخلصًا لوقف هذه المجازر، دون أن تبادر أية قوة إلى اتخاذ خطوة جدية في هذا الاتجاه.
وتكمن المأساة في أنّ إسرائيل نفسها تبدي رغبة شديدة في حدوث تدخل إيراني، خاصة من خلال ضربات عسكرية. ويرجع ذلك إلى أن الولايات المتحدة وأوروبا، اللتين تقدمان لإسرائيل دعمًا لا محدودًا حتى في جرائمها ضد الإنسانية، قد بدأتا تقللان من دعمهما لإسرائيل في عدوانها على غزة، ليس بسبب حجم الجرائم المرتكبة، بل بسبب عدم كفاءة إسرائيل في تنفيذها. فمن وجهة نظر إسرائيل، فإن هجومًا إيرانيًا قد يحول الصراع بسرعة من محور حماس-إسرائيل إلى محور إيران-إسرائيل، مما قد يشكل دعمًا منقذًا لإسرائيل وخاصة لنتنياهو.
ويتّضح جليًا أن معاداة إيران لإسرائيل لم تلحق أيّ ضرر فعلي بإسرائيل حتى الآن. وإن كان ميزان الربح والخسارة في التوتر القائم بين الدولتين، واضحًا خلال تاريخهما الطويل. فمن وجهة نظر إيران تعد معاداة إسرائيل، بل حتى معاداة الولايات المتحدة، عاملًا داخليًا فعالًا للغاية؛ لتعزيز شرعية النظام. فعندما يواجه النظام الضغوط من قبل المعارضة، تصبح الأزمات المفتعلة مع إسرائيل أو الولايات المتحدة، أداة لإعادة فرض حالة الطوارئ بسرعة.
كما أنّ تهديدات إيران لدول الخليج العربية مفيدة للغاية بالنسبة للولايات المتحدة. فرغم أنّها لم تتطور أبدًا إلى صراع فعلي، إلا أنها تساهم في ضمان اعتماد دول الخليج على الولايات المتحدة في مجال الدفاع بشكل مستمر ودون قيود.
وقبل نحو عشرين عامًا، أدت العمليات العسكرية التي قادتها الولايات المتحدة ضد صدام حسين – الذي كان في ذلك الوقت يشكل تهديدًا حقيقيًا لإسرائيل بتسليحه الجيد وقدراته العسكرية التي اكتسبها في حروبه – إلى تسليم العراق إلى إيران على طبق من ذهب. طبعًا يمكن كتابة القصة التي أدّت إلى هذه النتيجة بطرق مختلفة إذا رغبنا، ولكنها ستكون قصصًا مفتعلة ومتكلفة.
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول مُنيت إسرائيل بهزائم لم تشهدها في تاريخها، فقد تحولت منظمة استخباراتها الأسطورية إلى مهزلة، وأصبحت القبة الحديدية التي روّجوا أنها غير قابلة للاختراق أشبه بالغربال. ومُنِيَ جيشها القوي، الذي تأسّس بدعم من الولايات المتحدة الأميركية، بهزيمة تلو الأخرى أمام كتائب القسام.
ولكن في محاولة لإخفاء هزيمتها، تواصل إسرائيل اختبار قوة أسلحتها في القتل الجماعي والمجازر، وجرائم الإبادة الجماعية، مما يغرقها أكثر فأكثر في وحل الهزيمة.
وبعد انقطاع دام سبع سنوات منذ ثورات الربيع العربي، عاد المفكر المصري فهمي هويدي إلى الكتابة في موقع الجزيرة نت؛ إيمانًا منه بأنه لا يمكنه البقاء متفرجًا على ما يحدث في إسرائيل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وقد تضمنت مقالاته اقتباسات عديدة تعبر عن وجهة نظر إسرائيل فيما حدث منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول. على سبيل المثال:
“إسرائيل هُزمت بشكل كامل، فأهداف الحرب لن تتحقق، والأسرى لن يعودوا بالعمل العسكري، والأمن لا يزال هدفًا صعب المنال” (هآرتس 13 أبريل/نيسان). “عصر انتصارات إسرائيل انتهى، وحماس أرادت أن تعلمنا بأن هناك عربيًا آخر غير الذي رأيناه في كامب ديفيد أو أوسلو” (أمنون إبراموفيتش، المحلل السياسي البارز في الإعلام العبري (13 يناير/كانون الثاني). “الحرب انتهت بهزيمة إستراتيجية لنا، ونحن الآن في ورطة” (حاييم رامون وزير العدل السابق- (11 أبريل/نسيان).
“إسرائيل خسرت الحرب ضد حماس، صورة النصر الوحيدة المتاحة لنا هي الإطاحة بنتنياهو، وإجراء انتخابات جديدة، (دان حالوتس رئيس أركان جيش الاحتلال السابق- ديسمبر/كانون الأول 2023). “نصف سنة بالضبط مرت على نشوب الحرب، وعلى إسرائيل احتساب المسار. كل الأهداف التي قدمت لنا تبين أن الطريق أصبح بعيدًا عن تحقيقها”، (يوآن ليمور المعلق السياسي في يديعوت أحرونوت).
“حماس لم تهزم إسرائيل فحسب، بل هزمت الغرب كله، (ألون مزراحي كاتب وإعلامي 5 أبريل/نيسان). ” لا حياة لنا (للإسرائيليين)، إذا لم نندمج في فضاء الشرق الأوسط، لقد علمنا انهيار كافة أنظمة الدفاع العسكرية والبشرية والتكنولوجية في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أنه لا يمكننا الاعتماد فقط على قوتنا وقدراتنا. فالدفاع العسكري وحده لن يؤمّن حياتنا هنا. وإذا كنا لا نريد أن نكون حلقة عابرة في المنطقة مثل المملكة الصليبية، فليس أمامنا إلا أن نجد المعتدلين من العرب ونتحالف معهم، (أمنون ليفي، يديعوت أحرونوت (6 أبريل/نيسان).
تؤكد هذه الشهادات، أن إسرائيل ورئيس وزرائها نتنياهو في موقف لا يحسدان عليه، على الرغم من كل التكبر والغطرسة التي يبديانها. فقد فشل نتنياهو، خلال سبعة أشهر، في تحقيق أي من الأهداف التي وعد بها في مغامرته التي جرّ إليها نفسه والولايات المتحدة وأصدقاءها الأوروبيين، مما جعله في مأزق حقيقي.
ولم يكن سرًا أن نتنياهو كان يبحث عن مخرج من قطاع غزة، بعد أن تحولت الحرب إلى فخ حقيقي له، مما دفعه إلى توسيع نطاق الحرب بشكل مسيطر لخلق ذريعة للخروج من القطاع. ولذلك شن هجومًا استفزازيًا على أهداف إيرانية في دمشق، قبل أن تبادر إيران بالرد، وفي الواقع فإن الهجوم على أهداف إيرانية في دمشق دون سبب ودون مبرر والزجّ القسري لإيران في اللعبة، لم يُبقِ أمام الأخيرة أي خيار آخر. إذ لم يكن ممكنًا لها أن تتجاهل الهجوم على منشآتها وكأنه لم يحدث.
ولكن في نهاية المطاف، فإن الصورة التي برزت هي عودة إسرائيل إلى صورة الضحيّة، وهي الصورة التي كانت بدأت تفقدها وتفقد معها زخم الدعم الأميركي والأوروبي؛ بسبب جرائم الإبادة الجماعية التي تواصل ارتكابها في غزة، فسارعت تلك الدول إلى إصدار بيانات تضامن مع إسرائيل وإدانة إيران وهجومها الذي لم يتسبب في مقتل أي إنسان. وهي ذات الدول التي – للمفارقة- تمتنع على مدى الأشهر الماضية عن إصدار أي بيان إدانة ضد جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في القطاع.
أبرز آثار تلك المواجهة السينمائية بين إسرائيل وإيران هو إبعاد الأضواء عن قضية الإبادة الجماعية في غزة عن صدارة المشهد، وكأن الصراع لم يعد بين غزة وإسرائيل، بل أصبح بين إسرائيل وإيران. وفي ظل هذه الظروف، بدأ أصدقاء إسرائيل الأوروبيون، الذين كانوا يترددون في دعم إسرائيل بشكل علني؛ بسبب جرائمها الفادحة، يعبّرون عن دعمهم لإسرائيل بشكل أوضح وأقوى في هذا الصراع الجديد بين إيران وإسرائيل.
ولكن، لا يمكننا طبعًا أن نسمح بحدوث ذلك. فكل محاولة لإبعاد غزة عن صدارة المشهد، تعد مساعدة لإسرائيل وخيانة للإنسانيّة.