القاهرة – كشف إطلاق مؤسسة معنية بالتنوير في مصر تحمل اسم “تكوين الفكر العربي” مؤخرا مدى تغلغل السلفية في المجتمع المصري، حيث هاجمت أصوات عديدة هذه المؤسسة، واستنكر معارضوها اهتمام رموزها بتطوير خطاب التسامح وطرح الأسئلة حول المسلمات الفكرية وإرساء قيم العقل والحوار وقبول الآخر.
لم تكن الانتقادات التي تعرضت لها “تكوين”، والحط من شأن القائمين عليها واتهامهم بعدم الأهلية للقيام بمهمة التجديد، عفوية وتبين أن خلفها لجانًا إلكترونية نشطة على مواقع التواصل الاجتماعي ومُدربة على تكتيكات الدعاية المضادة وحشد جمهور غير مُلم بتفصيلات ملف التجديد والتعقيدات المحيطة به.
وفاجأ أعضاء التيار السلفي الجميع بحضور دعائي لافت عكس حجم القدرة على استغلال الفرص والجاهزية للتعامل مع المستجدات.
واستغل هؤلاء بعض الأسماء القيادية في مؤسسة “تكوين” للتشكيك في دورها وأهدافها، حيث أثار عدد منهم لغطا الفترة الماضية بسبب اجتهاداتهم الصادمة للمجتمع المصري، وأبرزهم يوسف زيدان وإبراهيم عيسى وإسلام بحيري وفاطمة ناعوت.
القائمون على حملة النيْل من “تكوين” عمدوا إلى استعادة تكتيكات التشويه وتلويث السمعة وإطلاق تهم الإلحاد
وانتشرت أخبار خلال الأيام الماضية مفادها إغلاق المركز، وهو ما نفاه يوسف زيدان ووصفه بـ”الأكذوبة”.
وقال يوسف زيدان في بيان عبر حساباته الرسمية في فيسبوك ومنصة إكس إن “تلك الأكذوبة أطلقها المذعورون من مؤسسة تكوين، زاعمين أن النائب العام أغلقها، واستدعى أمناءها للتحقيق”.
وأضاف “يا قوم، تكوين ليست مبنى يمكن إغلاقه، هي مبادرة للتثقيف العام في البلاد العربية، ودعوة مفتوحة لإعمال العقل وإعادة بناء المفاهيم العامة وتحكيم المنطق والعقلانية”.
ويعكس هجوم الإسلاميين الرغبة في تعويض تراجع حظوظهم في المنطقة على مستويات مختلفة عبر طرح فكرة مفادها عدم الاستغناء عن الإسلام السياسي وحاجة الساحة إليه كي لا تُترك خالية يتمدد فيها “علمانيون ولادينيون”.
وفقد التيار الإسلامي غالبية الأوراق المتعلقة بالشأن السياسي وحالة الصراع والتنافس الإقليمي التي كانت سائدة خلال سنوات ما بعد ثورات الربيع العربي. وبات يجد صعوبة في توظيف المتغيرات، وآخرها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وتداعياتها الإقليمية، في خلق رأي عام منحاز إلى تصوراته بعد الفشل في السلطة والعجز عن استعادتها.
ومثّل إطلاق المنصة الجديدة، التي عكست حضورا لافتا للعلمانيين في مصر، فرصة أمام تيار الإسلام السياسي لتعويض عجزه عن إعادة إنتاج نفسه في المشهد من خلال الزعم بأن ثوابت الدين في خطر.
واشتد الصراع في العقود الماضية بين تنويريين علمانيين وتراثيين سلفيين في ظل تعاظم نفوذ وأعداد التيار الإسلامي بأطيافه المختلفة، وهو ما أظهرته نتائج انتخابات عام 2012 التي فاز فيها المرشح الإخواني محمد مرسي، وتشكل قبلها برلمان غالبيته من المنتمين إلى هذا التيار.
وكشفت فعاليات عامة لهذا التيار، ويُنسب إليه الدور الأكبر في نشر مظاهر التشدد والغلو، أنه استفاد بشكل كبير من الفترة بين 1970 و2010 عبر بناء قاعدة تعتنق رؤية تقليدية من منطلق تقييد العقل وحرية الفكر.
وفي المقابل رفعت نخب داخل التيار العلماني لواء التنوير في الوقت الذي لم تملك فيه الكثير من أدوات النفوذ والقوة، ما جعل رموزها عُرضة للتصفية الجسدية أحيانًا، كما جرى مع فرج فودة في بداية الثمانينات، أو التشويه المعنوي كما جرى مع نصر حامد أبوزيد والباحث إسلام بحيري.
ويخشى التيار السلفي، الذي سيطر على أعداد كبيرة من المساجد وامتلك تمويلًا سخيّا وحضورًا إعلاميّا، فرضيةَ تشكل واقع جديد بدونه، وأن تحتل القوى العلمانية التي كانت مُهمشة ومُلاحَقة في أروقة القضاء صدارة المشهد، ما يعني أن يكون سقوط الإسلاميين وتكريس العلمانيين لنفوذهم عنوانَ المرحلة الراهنة.
ويتخوف التيار السلفي من أن يكسب “التنويريون العلمانيون” أرضًا وتتزايد أعداد المعتنقين لتصوراتهم وقناعاتهم، مع ظهور متطور من خلال عمل مؤسسي منظم من شأنه نقل نشاط العلمانيين من الإطار النخبوي المحدود إلى الفضاء الجماهيري الواسع.
وعمد القائمون على حملة النيل من “تكوين” إلى استعادة تكتيكات التشويه وتلويث السمعة وإطلاق تهم الإلحاد، بهدف تعطيل التفاعل المجتمعي مع أيّ أفكار جديدة مُغايرة للطروحات التقليدية، في وجود رغبة شعبية كامنة في التطور للاستفادة من التجارب الإنسانية وللخروج من متاهة أفكار كثيرة خارج العقل وموغلة في التشدد.
وأسهم فراغ ساحة التجديد والإصلاح الديني في زيادة تطلعات بعض التيارات ذات الأهداف السياسية وادعاء أحقيتها في القيام بهذه المهمة، وزعم تيار الإسلام السياسي أنه سيحل معضلة التراث وهو القادر على إعادة قراءة التاريخ، وبدا ذلك واضحا في إعادة نشر مزاعم مرجع الإخوان الفكري الراحل يوسف القرضاوي، عندما أوحى بأن الجماعة هي البديل المعتدل، في سياق مناورة خدعت البعض.
وتهاوت حجج جماعة الإخوان في الفترة التي جرى أثناءها اختبارها في السلطة ثم عزلها، وتبينت لغير المتخصصين الروابط الحركية بين الإخوان وجماعات السلفية الجهادية.
وكشفت التحقيقات في بعض القضايا التي طُلبت خلالها شهادة دعاة سلفيين، مثل قضية “خلية داعش إمبابة”، التأثيرات التنظيرية للسلفية الدعوية على شباب حملوا السلاح وانضموا إلى تنظيمات مسلحة موالية لتنظيم داعش.
وأكدت أحداث السنوات الماضية وطبيعة التيارات التي انخرطت في صراعاتها ضرورة الخروج من الجمود الذي كرسه التيار السلفي، والذي لا يعبر في مجمله عن أصل رسالة الإسلام وغاياتها ومبادئها العليا، ولا يُسهم في تحسين واقع المسلمين بل يزيده تدهورًا.
وبات هناك طلب مجتمعي للإصلاح، بمعزل عن الشرائح المنحازة إلى التيار السلفي، علاوة على طلب رسمي تكرر أكثر من مرة في مصر بشأن تقديم مشروع تجديدي متماسك يعالج المناهج التكفيرية والأفكار المتطرفة، بعد توظيف فصائلها في الحرب بالوكالة ضد الدول، وعقب إثارتها الجدل بشأن حقيقة مرجعية ممارساتها الموغلة في التوحش، وما إذا كانت تنتمي إلى التراث أم أنها تطور طبيعي لما هو موجود في المجتمع.
وبجانب ما تقدمه الهيئات الدينية الرسمية من طروحات تفكك الخطاب التكفيري وجهود فردية لبعض علماء الأزهر، نشأت أخيرًا حالة تنويرية مؤسسية منسوبة إلى التيار العلماني أو بعض أجنحته، وهي التي قُوبلت بموجة تحريض وتشويه، فيما ظلت الدولة وغالبية الشعب تراقبان في صمت.
ويبدو أن الحكومة المصرية تعتزم التزام الحياد، حيث يرى البعض أن فسح المجال لمختلف التيارات الفكرية يحرك الجمود ويسير بالحالة الفكرية في اتجاه التدافع والتفاعل والتأثير الجماهيري، وصولًا في النهاية إلى بلورة مشروع فكري وثقافي متماسك، بمعزل عن حالة الاستقطاب والتنازع بين من يزعمون أحقيتهم في حمل لواء التجديد من دون الآخرين.
هجوم الإسلاميين يعكس الرغبة في تعويض تراجع حظوظهم في المنطقة على مستويات مختلفة عبر طرح فكرة مفادها عدم الاستغناء عن الإسلام كي لا تُترك الساحة خالية يتمدد فيها “علمانيون”
ويعكس الحراك الحالي تدافعًا فكريّا استمر عقودا بين تيارين، رأى أحدهما أن المسلمين بحاجة إلى مراجعة العديد من الموروثات ونقدها وإعادة اكتشاف عقيدتهم وتقاليدهم وتاريخهم والتفكير في الإسلام كنظام أخلاقي وقيمي متوافق مع العلم والحياة العلمانية، ورأى الآخر أن الإسلام لا يحتاج إلى تغيير وتجديد، وأن العيب في المسلمين الذين لا يمارسونه كما يجب، وعليهم التخلص من تأثير الغرب وإعادة دينهم إلى شكله الأصلي.
ويتوقف نجاح التيار التنويري على قدرته على إضافة منتج فكري حضاري يعالج القضايا الإشكالية الكبرى، ويطرح حلولًا مقنعة ومتماسكة لمختلف المسائل الدينية والاجتماعية التي تحتاج إلى جهود تنويرية حقيقية.
ويحتاج من يتصدى لمهمة التجديد المعقدة إلى قدر عال من الدقة العلمية التي تتيح له إعادة قراءة التراث برؤى نقدية وتشكيل بناء معرفي سليم للإسلام، مع عدم المساس بالثوابت أو الانتقاص من منتج الفقهاء الصحيح.
وللصمود في وجه العواصف وإحراز نجاح ملموس في المهمة الأصلية المتعلقة بخلق تصور بديل عن الرؤية التراثية الجامدة التي لا تعبر عن الإسلام بملامحه ومقاصده، لا مفر من التحلي بضبط النفس وعدم الاستسلام للاستفزاز والانشغال بمعارك شخصية وهامشية.
ويواجه من تصدروا المشهد الثقافي تحدي الابتعاد عن المساجلات التي انجر إليها في السابق بعض المحسوبين على تيار التنوير العلماني وراء دعاة التيار السلفي الذين امتلكوا مهارة نصب الفخاخ لاصطياد ضحاياهم من خلال قضايا ازدراء الأديان.
العرب