هي الخسارة الثانية التي تلحق بالمرشد الأعلى للنظام الإيراني، فمقتل رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي بسقوط المروحية التي كانت تقله من الحدود الإيرانية – الأذربيجانية إلى مدينة تبريز يأتي بعد مقتل قائد قوة القدس قاسم سليماني بصواريخ موجهة أطلقتها مسيرات أميركية على سيارته عند خروجه من مطار بغداد الدولي، وكلتا الحادثتين وقعتا في الجو ومن الجو، وكأن السماء شريكة في إلحاق وزيادة هذه الخسارات لقائد الثورة.
من الخطأ مقارنة الدور الذي لعبه سليماني في رسم السياسات الاستراتيجية للنظام في الداخل والإقليم مع الدور الذي كان يقوم به رئيسي على رأس السلطة التنفيذية، فالأول أثبت جدارة في إدارة الملفات التي أوكلت إليه، واستطاع أن يضع النظام الإيراني على خريطة النفوذ الإقليمي إلى جانب القوى الأخرى في هذه المنطقة. وحجم الثقة التي حاز عليها من المرشد سمحت له بتخطي كل الأطر البيروقراطية والإدارية في التعامل مع الأحداث، حتى من دون الرجوع إلى قيادته العسكرية في حرس الثورة الإسلامية.
ولعله الوحيد من بين قيادات منظومة السلطة الذي استطاع محاصرة طموحات الرئيس الأسبق حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف، عندما قطع الطريق عليهما في محاولة توظيف الإنجازات التي حققها على مستوى الإقليم وقيادة وتوجيه نفوذ أذرع أو حلفاء إيران، بمعادلة معكوسة جعلت دبلوماسية حكومة روحاني في خدمة أهداف واستراتيجية الميدان الذي كان يقود بدعم مباشر من المرشد.
وعندما بكى المرشد على سليماني عند الصلاة عليه، كان هذا البكاء تعبيراً عن حجم الخسارة التي لحقت بإدارته لملف الصراع الدولي والإقليمي، وأن تعويضه لن يكون سهلاً، حتى في عملية البحث عن البديل المدني الذي كان من المفترض أن يقود السلطة التنفيذية بعد روحاني. وكشفت التطورات عن أن البديل العسكري في قيادة قوة القدس الجنرال إسماعيل قآني لم يستطع ملء الفراغ الذي أحدثته عملية إخراج سليماني من المشهد.
في المقابل تقدم خامنئي بهدوء وأقام الصلاة على جنازة رئيسي ومرافقيه، لم يبك عليه كما فعل مع سليماني، ملتزماً باعتبارات لها علاقة بالرسالة التي أراد أن يوصلها إلى كل المراقبين على المستويين الإقليمي والدولي، بأن حجم الخسارة لا يعني بأن النظام ومنظومة السلطة تعيش أزمة أو القلق من تداعيات هذه الحادثة، وهذا الموقف جاء استكمالاً للإجراء السريع الذي اتخذه يوم إعلان مقتل رئيسي بالدعوة إلى إجراء انتخابات رئاسية جديدة وبأسرع وقت ممكن، مع التأكيد أن المسارات والسياسات للنظام لن يحدث عليها أي تغيير.
وعلى العكس من ذلك خيار المرشد ومنظومة السلطة في إيصال رئيسي إلى قيادة السلطة التنفيذية لم يكن على قدر الطموحات، على رغم كل محاولات تدريبه الإداري والسياسي سواء في الحضرة الرضوية التي تعتبر من أكبر المؤسسات الاقتصادية ليس في إيران فقط بل في الشرق الأوسط، أو على رأس السلطة القضائية التي تعتبر الركن الثالث في هرمية مراكز القرار في مؤسسات الدولة.
ما تميز به رئيسي عن غيره من رؤساء الجمهورية الذين تعاقبوا على هذا المنصب ما بعد تولي السيد علي خامنئي خلافة المرشد في قيادة الثورة والنظام أنه كان أكثر طاعة وأشد التزاماً بتنفيذ ما يوكل إليه من مهمات، وقدرته على الاندماج في آليات هذه المنظومة من دون أن يكون لديه طموح في التمايز عنها أو المبادرة إلى مواقف وسياسات قد تختلف عما ترسمه القيادة والسلطة.
خسارة سليماني وخروجه من المشهدين الداخلي والإقليمي انعكس سريعاً على أداء جزء من الفصائل أو الحلفاء أو الأذرع التابعة لإيران في المنطقة، فمن سلوكه السياسي في محاولة مصادرة القرار السوري أو توظيفه بالسياق الذي يرسمه أو يحدده، بدأت قيادة النظام في دمشق تحفر لنفسها موقفاً متمايزاً في عدد من المواقف، وصولاً إلى إبداء الامتعاض من كيفية ممارسة طهران لنفوذها على سوريا، الأمر الذي كشف عن أن قآني الذي خلف سليماني لم يصل إلى مستوى من التأهيل الذي يمكنه من فرض رأيه أو قراره.
وهذا الأمر كان أكثر وضوحاً في التعامل الذي مارسه قآني على الساحة العراقية، وفي العلاقة مع قيادات فصائل الحشد الشعبي التي عمل بعضها على التمرد عليه، وترجيح مصالحها العراقية على المصالح الإيرانية، مما دفع قيادة النظام والمرشد الأعلى لوضع استراتيجيات جديدة في التعامل مع الساحة العراقية، خصوصاً مع الوجود الأميركي في هذا البلد، واللجوء إلى تسويات مع واشنطن في مقابل التهدئة وتقاسم المصالح. وبرز ذلك بوضوح في عجز قآني على فرض وحدة البيت الشيعي في تشكيل الحكومة التي أدت في نتائجها إلى خروج مقتدى الصدر وتياره من العملية السياسية ومقاطعة الحياة البرلمانية، في حين أجبر على كبح جماح الأذرع العسكرية العراقية التابعة لقوة القدس مثل كتائب “حزب الله” والنجباء وإجبارها على وقف عمليات استهداف القواعد الأميركية في العراق وسوريا، بعد أن لمس جدية التهديد الأميركي في معاقبة المنفذين ومن يقف وراءهم، وهذا لم يكن ليحصل بوجود سلمياني الذي دخل في عملية تحد مع القيادة العسكرية الأميركية.
القرارات التي صدرت خلال الأيام الأخيرة، التي أعاد فيها المرشد توزيع الملفات والأدوار، تأتي نتيجة خسارته لحسين أمير عبداللهيان، وزير الخارجية المخلص والملتزم بالتوجيهات والسياسات التي يتلقاها من المرشد مباشرة أو من منظومة السلطة، من دون أن يكون لديه طموحات في الخروج عليها أو إبداء موقف مغاير أو متمايز، بالتالي فإن عودة أمين المجلس الأعلى للأمن القومي السابق علي شمخاني وتكليفه الإشراف على المفاوضات النووية وقانون إلغاء العقوبات، يعني أن فريق وزارة الخارجية، وتحديداً الوزير الوكيل وكبير المفاوضين علي باقري كني لم يعد مطلق الصلاحية في إدارة ملف التفاوض من دون العودة لشمخاني، خصوصاً أن الأخير استطاع تحقيق إنجازات استراتيجية سواء في صياغة وإقرار الاتفاق النووي عام 2015، أم في ترميم العلاقة مع المحيط العربي والخليجي من خلال اتفاق بكين لتطبيع العلاقة بين إيران والسعودية واتفاق التعاون الأمني مع دولتي الإمارات العربية المتحدة والعراق.
وبانتظار انطلاق عملية تسجيل الترشيحات لسباق الانتخابات الرئاسية، وانتهاء مجلس صيانة الدستور من دراسة أهلية هؤلاء المرشحين، يبدو أن إيران ستنتقل إلى مرحلة جديدة في التعامل مع ملفاتها الداخلية والإقليمية والدولية، ليس تحت تأثير حادثة مقتل رئيسي، بل نتيجة حاجتها إلى ترجمة ما يدور خلف الكواليس من تفاهمات إقليمية ودولية عملياً، بما ينعكس طبيعياً على الوضع الداخلي من دون الخروج عن الثوابت التي قامت عليها استراتيجيات ومصالح النظام في الداخل والإقليم.