باتت تونس تسترجع تدريجيا سيادتها الوطنية في علاقة بصناعة القرار الداخلي، وهو ما تؤكده توجهات الرئيس قيس سعيد في الفترة الأخيرة، مع التمسك بالثوابت الدبلوماسية التقليدية، التي لا تتقاطع مع الانفتاح على جميع الدول، دون الانزلاق إلى الاصطفاف في المحاور الإقليمية، الذي أفرز مناخا سياسيا متوترا قسّم التونسيين.
تونس – عكس النشاط الدبلوماسي للسلطة التونسية في الفترة الأخيرة تخلّصا واضحا من الاصطفاف في سياسة المحاور الإقليمية والدولية، حيث أكدت تصريحات وزير الخارجية نبيل عمار في أكثر من مرة أن بلاده تتمسك بالانفتاح على كل الدول، رافضة بذلك اتباع سياسة المحاور والاصطفاف وراء أجنداتها.
وجاءت تصريحات وزير الخارجية الأخيرة للردّ على ما تداولته وسائل إعلام غربية الأسبوع الماضي، من مغالطات تروّج لهبوط طائرات عسكرية روسية بمطار جربة على بعد 130 كلم على الحدود الليبية، تنقل عناصر من فاغنر، وهو ما كذّبته أيضا السفارة التونسية في باريس، واعتبرته “إدّعاءات تضليلية”.
ويقول مراقبون إن النشاط الدبلوماسي يؤكد أن السياسة الخارجية لتونس شهدت خلال السنوات الأخيرة نقلة “نوعية” حيث أصبحت السلطة تفاوض شركاءها الأوروبيين والغربيين بندية ودون فرض إملاءات عليها.
وعانت السلطة التونسية في العشرية الماضية من تبعات سياسة المحاور، وجعلتها تتخبّط في حالة من الانقسام والتشرذم الشعبي والسياسي الداخلي، الذي برز خصوصا في التجاذبات السياسية بين الإسلاميين والعلمانيين.
وأكد نبيل عمّار الثلاثاء أن تونس لا تصطف وراء أحد مهما كان نفوذه وإمكاناته مفسرا ذلك بما وصفه بـ”الدبلوماسية الناضجة والذكية والجدية والعقلانية والرصينة التي بادر بإرسائها القدماء ودخلت مرحلة جديدة في ظل التغيرات الكبيرة والسريعة التي يعيشها العالم”.
ونقلت وكالة الأنباء الرسمية في تونس عن عمار قوله في محاضرة ألقاها بالمعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر بمنوبة بمناسبة إحياء اليوم الوطني للدبلوماسية “اختيارات الدبلوماسية التونسية كانت دائما صائبة ولم تنحرف عن مسارها كسياسة رصينة وجدية تدافع عن مصالح تونس وكرامة شعبها سوى بعد الثورة جرّاء إقامة علاقات غير عادية ومشبوهة مع أطراف أجنبية وليست بلدانا”.
وتابع عمار “السياسة الخارجية والدبلوماسية التونسية هي خط الدفاع الأول عن تونس والتونسيين وبقدر ما تكون السياسة الداخلية للبلاد متماسكة تكون السياسة الخارجية بدورها متماسكة… وزارتا الشؤون الخارجية والدفاع الوطني وجهان لهدف واحد هو الدفاع عن مصالح الوطن واستقلاله ولذلك وجب التنسيق بين أجهزة الدولة خدمة لوحدة الوطن ومصلحته العليا”.
وأوضح أن “السياسة الخارجية الناجحة هي التي تبنى على مصالح البلاد وشعبها وتتشبث بالمبادئ وتصطف إلى جانب الحق دون مساومة على غرار القضية الفلسطينية العادلة”، معتبرا أن “السياسة الخارجية لتونس شهدت خلال السنوات الأخيرة نقلة وصفها بـ’المشرفة’ وبأنها أصبحت تقوم على علاقات الندّ للندّ”.
ويخشى المعسكر الغربي، الذي تربطه بتونس علاقات اقتصادية وعسكرية وثيقة، من أن أي تقارب محتمل بين تونس وروسيا سيمثل تحولا جذريا في توجهات البلاد، على الرغم من أن مواقف الدبلوماسية التونسية تؤكد أنها تتحرك في إطار الانفتاح على الجميع.
وترى الأطراف الغربية أن رفض الرئيس قيس سعيّد للشروط في علاقة بقرض صندوق النقد الدولي، قد يخلق مناخا مناسبا للمزيد من التقارب التونسي – الروسي، وبالتالي التخلّص من الغرب تدريجيا.
وأفاد أستاذ القانون الدولي منتصر الشريف “بعد 2011 حادت تونس بعض الشيء عن ثوابتها الدبلوماسية خصوصا من ناحية الحياد والتدخل في اتخاذ القرار خارجيا، وظهرت سياسة التحالفات خصوصا في علاقة بالأزمة الليبية، وصعود الإسلاميين إلى السلطة في تونس، ورفض حكومة شرق ليبيا التعامل معهم”.
وأضاف في تصريح لـ”العرب”، “سياسة المحاور أثرت على العلاقات الخارجية، وحتى داخليا في مستوى البرلمان الذي كان منقسما، وأنتج شارعا شعبيا منقسما”.
وأردف الشريف “التوجه الجديد يجب أن يعيد الثوابت الدبلوماسية القديمة، وهذا لا يعني التخلي عن الغرب بقدر ما يعني تنويع العلاقات الدبلوماسية والانفتاح على كل الدول، كما أن شريك تونس الأول هو الاتحاد الأوروبي، وذلك لا يمنع من ربط علاقات شراكة مع قوى إقليمية ودولية أخرى”.
وكثيرا ما تعبّر السلطات التونسية، خصوصا بعد إجراءات الرئيس قيس سعيد في الخامس والعشرين من يوليو 2021، عن كونها قادرة على إدارة شؤونها بمفردها ودون تدخلات خارجية، وهو ما يدعو إليه الرئيس سعيد مرارا ويرفض ما يسميه بـ”التدخل في السيادة الوطنية”.
وخلال زيارته إلى موسكو في سبتمبر الماضي، حرص وزير الخارجية التونسي على إظهار أنها تندرج في سياق الانفتاح على جميع الشركاء وليست توجها نحو الشرق، كما حملت رسالة طمأنة للشركاء الأوروبيين بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى الولايات المتحدة رغم ما يتواتر من أنباء بشأن وقوفها خلف عرقلة قرض بقيمة 1.9 مليار دولار من صندوق النقد للبلاد.
المعسكر الغربي، الذي تربطه بتونس علاقات اقتصادية وعسكرية وثيقة، يخشى من أن أي تقارب محتمل بين تونس وروسيا سيمثل تحولا جذريا في توجهات البلاد
وشدّد نبيل عمار، حينها، في ندوة صحفية مع نظيره الروسي سيرجي لافروف، على أن بلاده على تواصل وتعاون مع جميع شركائها و”ليس من تقاليد تونس الدبلوماسية رفض شريك لحساب شريك آخر”، مضيفا “لدينا قنوات اتصال وحوار مع شركائنا ولم نقل يوما إننا قطعنا جسور التواصل مع صندوق النقد الدولي”.
وأكد المحلل السياسي نبيل الرابحي أن “سياسة المحاور لم تظهر منذ ثورة 2011، بل كانت موجودة منذ الاستقلال في 1956، لكن مع صعود الترويكا (ائتلاف حاكم رئاسيا وحكوميا وبرلمانيا، جمع بين أحزاب حركة النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات)، إلى سدّة الحكم بعد 2011 أصبح الاصطفاف واضحا، وأحدث انقساما حادا في الشارع الشعبي والسياسي التونسي”.
وقال لـ”العرب”، “الرئيس سعيد يريد أن تعود لتونس استقلاليتها السيادية واعتبارها الوطني، وحان الوقت لتناقش تونس بندية الأطراف الغربية (الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة)، وأيضا صندوق النقد الدولي دون إملاءات”.
ولفت الرابحي إلى أن “تصريحات نبيل عمار أيضا فيها جانب من الرد على الادعاءات الأخيرة بهبوط طائرات روسية تابعة لمجموعة فاغنر في جزيرة جربة، وهو ما ردت عليه السفارة التونسية في باريس أيضا كأفضل ما يكون”.
ويجمع المتابعون على أن تونس أصبحت تسترجع تدريجيا سيادتها الوطنية في صناعة القرار الداخلي، حيث يكرّر الرئيس سعيّد مرارا ضرورة “احترام السيادة الوطنية وأنه لا وصاية لأحد على تونس”، وذلك بعد سنوات من الارتهان الخارجي كرّسته منظومة الأحزاب والولاءات السياسية للتمكّن من السلطة، كما يوجد توجه لتجسيد مواقف خاصة وليس بالوصاية، وهو ما يؤكد استقلالية القرار السياسي.
العرب