منذ الإعلان الرسمي عن مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، دخلت إيران بجميع مستوياتها السياسية والشعبية بالتزامن مع العثور على المروحية الرئاسية، في دوامة البحث من جديد عن رئيس إيراني، لكن هذه المرة ليس الفقيد، بل الجديد الذي من المفترض أن يقود السلطة التنفيذية في السنوات الأربع المقبلة.
الفراغ الرئاسي الحاصل فتح بازار التكهنات لدى هذه الأوساط والمستويات على مصراعيه، إذ عمدت إلى فتح “بازار الأسماء” وترشيحها لمن ترى فيه شخصاً مناسباً لقيادة هذه المرحلة الجديدة، بخاصة الشخصيات القادرة على إعادة تأهيل الأوضاع الاقتصادية الداخلية الصعبة والمعقدة والتضخم الذي أصبح ثلاثي الأرقام.
في المقابل، دفع هذا الفراغ، النظام الإيراني للعمل على التقاط الفرصة والمناسبة، للتسريع في تحديد موعد الاقتراع، لاقتناص “اللحظة العاطفية” التي ظهرت في المشاركة الشعبية الواسعة نسبياً في تشييع ودفن الرئيس ومرافقيه، والتي سيوظفها في إعادة ترميم شرعيته الشعبية التي تراجعت بشكل غير مسبوق في تاريخ الثورة والجمهورية الإسلامية.
أسماء عدة طُرحت، ورُجّحت مشاركتها في السباق الرئاسي، وتتسع مروحتها من أقصى اليمين المحافظ إلى أقصى اليسار الإصلاحي، وما بينهما أطياف مختلفة من المعتدلين، لا تبدأ باسم سعيد جليلي الذي يمثل تيار “السلفية الشيعية” حتى داخل جماعته السياسية المعروفة بحزب “ثابتون – بايداريها”، مروراً بأمين المجلس الأعلى السابق علي شمخاني، والرئيس السابق للبرلمان علي لاريجاني باعتبارهما يمثلان التيار المحافظ المعتدل، ولا تقف عند اسحاق جهانغيري النائب الأول للرئيس السابق حسن روحاني.
في المقابل، تكاد تجمع هذه المستويات السياسية على أهمية خروج رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف من هذا السباق، لاعتبارات متشابكة ومتداخلة، تأتي في مقدمها، وجود رغبة لدى القيادة العليا للنظام بأن دوره في رئاسة البرلمان ربما لم يصل إلى نهاياته، وأن التسويات الممكنة بين أقطاب التيار المحافظ قد تسمح له بالعودة إلى هذا الموقع بأقل الخسائر الممكنة، نظراً لأن المرحلة المقبلة تفترض أن يكون على رأس السلطة التشريعية شخصية منسجمة مع توجهات الدولة العميقة ومنظومة السلطة وتنفذ سياساتها، وأنه هو الأرجح لهذا الدور بعدما أثبت قدرته على الانسجام مع توجهات المنظومة والسلطة في المراحل السابقة.
ومن بين الأسماء المرشحة للاستبعاد بشكل كبير، عمدة طهران علي رضا زاكاني الذي كان مرشحاً في الانتخابات السابقة في مواجهة رئيسي، وخرج من السباق حینها لمصلحته في صفقة أوصلته إلى موقع عمدة العاصمة، ويبدو أن استبعاده سيكون نتيجة خطأ سياسي فادح ارتكبه أخيراً بعد عصيانه توجيهات جهات عليا في النظام.
وتراهن بعض الأوساط والمستويات الإيرانية، على أن تبدي منظومة السلطة والحكم نوعاً من الليونة، وأن تفتح الطريق أمام شخصيات إصلاحية معتدلة أو محسوبة على الجناح المعتدل في التيار المحافظ للدخول في السباق الرئاسي، في إطار إعادة النظر في بعض سياسات هذه المنظومة التي دفعت إلى إقصاء العديد ممن هم مؤهلون لتولي السلطة التنفيذية نتيجة اختلافهم في الرؤية معها. بخاصة وأن إمكانية حصول هذا التحول، قد يعود إلى الصدمة التي أحدثها تغييب رئيسي عن المشهد، في وقت لم تعمل هذه المنظومة على إنتاج بديل له يكون من صناعتها.
ومن بين الأسماء التي يتم تداولها في هذا السياق، يبرز اسم رئيس البرلمان السابق علي لاريجاني الذي أقصاه “مجلس صيانة الدستور” من السباق الرئاسي وأعلن عدم أهليته للترشح والمشاركة، لما كان يملكه من حظوظ مرتفعة بالفوز يمكن أن تبعد مرشحها إبراهيم رئيسي عن قيادة الدولة.
وعلى رغم ارتفاع أسهم لاريجاني في هذه التكهنات، إلا أن معوقات أساسية قد تحول دون دخوله السباق ولاحقاً تمنع وصوله إلى رئاسة السلطة التنفيذية، ولعل أبرزها سببين، الأول أن علي لاريجاني يعتبَر شخصية أكثر اعتدالاً داخل التيار المحافظ، وأنه أقرب في رؤيته الاقتصادية والإدارية وحتى السياسية إلى الرئيس الأسبق حسن روحاني، إلى درجة أن خلفية استبعاده من قبل مجلس صيانة الدستور جاءت نتيجة اتهامه بالتعاون مع روحاني خلال رئاسته وعرقلته للكثير من توجهات هذه المنظومة. أما السبب الثاني فيعود إلى مخاوف منظومة السلطة من إعادة إحياء إمكانية عودة شقيقه، صادق آملي لاريجاني، الذي يشغل حالياً منصب رئاسة “مجمع تحديد مصلحة النظام”، إلى سباق الأسماء المرشحة لتولي خلافة المرشد. وهي أسباب قد تعزز إمكانية استبعاده مرة جديدة.
في هذا السياق، يعود اسم سعيد جليلي، أمين عام المجلس الأعلى للأمن القومي الأسبق، عضو مجمع تحديد مصلحة النظام، إلى الواجهة بشكل قوي وواسع، باعتباره امتداداً لعهد رئيسي الفكري والسياسي، أو بتعبير أدق، الحامل الأساس والأبرز لمشروع تولي رئيسي قيادة الدولة، ولعب دور الشخصية المفتاحية والأساسية داخل الجناح الفكري والعقائدي الذي سهّل عملية وصول رئيسي إلى السلطة وتسويقه.
ومع إمكانية أن يدخل نائب الرئيس المكلف بإدارة الدولة، محمد مخبر، السباق الانتخابي، فإن إمكانية حسم الترجيحات تبدو أنها ما زالت مبكرة، قبل الانتقال إلى تقديم المرشحين أوراق ترشحهم لدى وزارة الداخلية، إلا أن الثابت الوحيد في هذه العملية، هي أن رئيس الجمهورية والسلطة التنفيذية والطاقم الحكومي من وزراء، ليسوا سوى منفذين للسياسات العليا الاستراتيجية على المستويين الداخلي والخارجي لقيادة النظام وتوجيهات المرشد الأعلى، الأمر الذي يجعل من الانتخابات والنتيجة التي ستسفر عنها مجرد إجراء روتيني لسد الفراغ الحاصل في الإدارة.