بالسيطرة على حقول النفط في كردستان العراق، تصيب الحكومة المركزية في بغداد عصفورين بحجر واحد، إذ إنها تضعف الإقليم ذا الحكم الذاتي بالتحكم في موارده المالية وتئد النزعة الانفصالية للأكراد.
أربيل – من المنتظر أن تصل درجة الحرارة إلى حوالي 100 درجة فهرنهايت هذا الأسبوع في أربيل، عاصمة كردستان العراق. لكن عددا قليلا من المعلقين الإقليميين سيشككون في أن الكثيرين في المنطقة التي تتمتع بحكم شبه ذاتي سيشعرون بالقشعريرة.
ويتطلع أكراد شمال العراق في 2024 إلى ضمهم إلى بقية البلاد وأن تحكمهم بغداد مباشرة من بعد أن صوت 92.73 في المئة لصالح الاستقلال في الخامس والعشرين من سبتمبر 2017.
وجاء ذلك بعد إعلان صدر خلال الأسبوع الماضي، وحدد أن أعضاء رابطة صناعة النفط في كردستان (وهي مجموعة تمثل شركات النفط الدولية في الإقليم) سيوافقون على اتفاقيات البيع المباشر مع شركة تسويق النفط “سومو” التي تسيطر عليها وزارة النفط في بغداد.
وتبع ذلك بيان صادر عن حكومة إقليم كردستان يعلن أن هذه المبيعات المباشرة تبقى الخيار الأفضل لحل تعليق تدفقات النفط من الإقليم إلى تركيا الذي تقرر منذ الخامس والعشرين من مارس 2023.
ويرى المحلل الاقتصادي سايمون واتكينز في تقرير على موقع أويل برايس الأميركي أن التدهور السريع في موارد المالية منذ بدء الحظر لحكومة إقليم كردستان، يجعل استسلامها لدعوات بغداد بأن تدير سومو مبيعاتها النفطية أمرا غير مفاجئ. لكن الذين كانوا يراقبون الصراع بين أربيل وبغداد منذ عقود اعتبروا بيان حكومة إقليم كردستان يتعارض مع مصالحهم الذاتية.
استسلام أربيل لدعوات بغداد بأن تدير شركة سومو مبيعاتها النفطية يتعارض مع المصالح الذاتية للإقليم
وتبحث الحكومة الاتحادية العراقية عن أفضل طريقة لضم كردستان العراق في بلد موحد منذ أن أعلنت الولايات المتحدة في يوليو 2020 عن نيتها إنهاء مهمتها القتالية في العراق خلال نفس السنة.
وذكر مصدر رفيع المستوى في أمن الطاقة في الاتحاد الأوروبي تحدث إليه موقع أويل برايس حصريا، أن مفتاح تنفيذ “خطة عراق واحد” يكمن في قطع جميع مصادر الإيرادات الخارجية من حكومة كردستان العراق (وخاصة من مبيعات النفط المستقلة التي تحققها شركات النفط العالمية العاملة في الإقليم) مما يجعلها تعتمد كليا على بغداد.
وتجعل ثلاثة أسباب قوية الحكومة في بغداد ورعاتها العالميين الرئيسيين (الصين وروسيا خاصة) لا يريدون أي درجة من استقلال كردستان العراق.
ومن الأسباب الجيوسياسية الأساسية أن المنطقة كانت لفترة طويلة حليفة رئيسية للولايات المتحدة والقوة العالمية الرائدة التي سبقتها، المملكة المتحدة.
وانبثقت فكرة استفتاء الاستقلال لسنة 2017 مما اعتقدت كردستان أنه اتفاق ضمني مع واشنطن في أواخر 2013 – مطلع 2014 عندما بدأ تنظيم الدولة الإسلامية يبرز باعتباره مصدر قلق إقليمي كبير.
وكان التفاهم هو أن تدعم الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون مسعى كردستان العراق للاستقلال مقابل توفير المقاتلين على الأرض في مواجهة داعش عبر قوات البيشمركة.
ونُظّم استفتاء الاستقلال عند ضمان النصر ضد داعش. لكن الولايات المتحدة وحلفاءها لم يقدموا أي دعم قوي لاستقلال كردستان العراق بعد رد فعل بعض اللاعبين الرئيسيين العنيف على النتيجة.
وتضيف المعارضة القوية لنتيجة التصويت على الاستقلال سببا آخر لاتباع “خطة عراق واحد”. فسيشكل تزايد مشاعر الاستقلال الكردية أيضا تهديدا واضحا للأنظمة القائمة في إيران (الراعي الإقليمي العراقي الرئيسي)، وفي تركيا وسوريا، نظرا للحجم الذي يشكله هؤلاء السكان في هذه البلدان.
ويبلغ عدد السكان الأكراد في إيران حوالي 9 في المئة من مجموعها، وفي سوريا 10 في المئة، وفي تركيا حوالي 18 في المئة.
وترى الصين أن كردستان المستقلة التي تتمتع بعلاقات سابقة قوية مع الولايات المتحدة ستجعل إدارة قطاع النفط والغاز العراقي أكثر صعوبة.
من هنا يمر النفط العراقي
ورغم سيطرة روسيا الفعلية على قطاع النفط في كردستان العراق بعد التصويت على الاستقلال خلال 2017، إلا أنها تفضل العمل مع الحكومة المركزية في بغداد، التي تتأثر بشدة بإيران، وهي حليفة موسكو الرئيسية في المنطقة.
وذكر المصدر العامل في الاتحاد الأوروبي أنه من المؤكد أن روسيا لن تخسر أيا من صفقاتها الحالية في كردستان العراق بمجرد دخولها إلى عراق موحد.
ويتجسد دافع أعمق هنا أيضا، حدده مسؤول رفيع المستوى في الكرملين بعد توقيع اتفاق استئناف العلاقات بين إيران والمملكة العربية السعودية في العاشر من مارس 2023 بوساطة صينية، واقتبسه المصدر رفيع المستوى في أمن الطاقة.
وكان قد قال “من خلال إبقاء الغرب خارج صفقات الطاقة في العراق، وبقاء بغداد أقرب إلى المحور الإيراني – السعودي الجديد، ستصبح نهاية الهيمنة الغربية في الشرق الأوسط الفصل الحاسم في زوال الغرب النهائي”.
ومن الناحية المالية لا ترى حكومة بغداد أي فائدة في استمرار كردستان العراق في النشاط بمستوى مهم من الاستقلال.
وقضت الصفقة الأصلية التي اتفق عليها الجانبان في 2014 على أن تصدّر حكومة إقليم كردستان ما يصل إلى 550 ألف برميل يوميا من النفط من حقولها ومن كركوك عبر سومو.
وسترسل بغداد في المقابل 17 في المئة من الميزانية الاتحادية بعد النفقات السيادية (حوالي 500 مليون دولار حينها) شهريا في مدفوعات الميزانية للأكراد. لكن الصفقة لم تنجح منذ مراحلها المبكرة، حيث اعتبر كل جانب الآخر مقصّرا.
وقال مصدر مقرب من وزارة النفط العراقية مؤخرا “مع فشل الصفقة، كانت بغداد تخسر مليارات الدولارات سنويا من عائدات مبيعات النفط التي يحققها الأكراد بشكل مستقل، فلماذا تستمر في تحمل هذا الوضع؟”.
ولا يوجد سبب قانوني واضح يمنع بغداد من إزالة المصدر الرئيسي للاستقلال المالي الذي تتمتع به حكومة إقليم كردستان، نظرا إلى افتقار الدستور العراقي لسنة 2005 إلى الوضوح التام بشأن هذه المسألة.
وتحدد المادة 111 أن “النفط والغاز هما ملك كل الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات”.
وتشدد بغداد لذلك على أن جميع شركات النفط العالمية التي لم تقدم حتى الآن عقودا مع حكومة إقليم كردستان العراق لتراجعها وزارة النفط ببغداد وفقا للدستور العراقي لا تتمتع بالحق في استخدام الطرق الكردية المستقلة لتصدير النفط الذي تنتجه. لكن حكومة إقليم كردستان تؤكد أن السلطة ممنوحة إليها بموجب المادتين 112 و115 من الدستور لإدارة النفط والغاز في إقليم كردستان المستخرجين من الحقول التي لم تكن قيد الإنتاج في 2005.
وشهد الثالث من أغسطس 2023 التأكيد على أن “خطة عراق واحد” لا تزال هي الاتجاه الأيديولوجي الرئيسي لما يحدث لكردستان العراق.
وأكّد رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أن قانون النفط الموحد الجديد المدار من بغداد سيحكم كل إنتاج النفط والغاز والاستثمارات في العراق وإقليم كردستان وسيشكل عاملا قويا لوحدة البلاد.
ويتمثل أقوى مظهر عملي لهذه الفكرة في طرح خط أنابيب تصدير النفط بين بغداد وتركيا، متجاوزا أي مدخلات من المنطقة الكردية العراقية.
وكان خط أنابيب بغداد الذي يبلغ طوله 600 ميل هو الأصلي بين العراق وتركيا، ويمتد من كركوك في شمال العراق إلى جيهان في تركيا.
وتقرر إغلاقه في 2014 بعد هجمات متكررة شنتها جماعات متشددة مختلفة في المنطقة، بما في ذلك تنظيم الدولة الإسلامية، وشمل أنبوبين، بسعة تبلغ 1.6 مليون برميل في اليوم مجتمعة (1.1 مليون برميل في اليوم للأنبوب الذي يبلغ قطره 46 بوصة، و0.5 مليون برميل في اليوم للأنبوب 40 بوصة).
وأشرفت حكومة إقليم كردستان العراق بعد إغلاقه على بناء خط أنابيب جديد من جانب واحد، من حقل طق طق عبر خورمال، الذي يمتد إلى خط أنابيب كركوك – جيهان في منطقة معبر فيشخابور الحدودي مع تركيا.
وقال المصدر العراقي “مع قطع الأكراد خط الأنابيب الجديد وإغلاق خط أنابيبهم، سيمكن لقانون النفط الجديد المضي قدما، وتوحيد قطاع النفط في البلاد كما كان مخططا له منذ البداية”.
العرب