في مقال سابق بعنوان «التحديات المسكوت عنها لطريق التنمية» قلنا إن الوضع الأمني الهش العراق، مع وجود قوات حزب العمال الكردستاني ووكيليه/ حليفيه في سنجار (وحدات مقاومة سنجار YBS ووحدات المرأة الإيزيدية YJE) كل ذلك سيشكل تحديا حقيقيا لطريق التنمية إذا ما قررت إيران، بشكل نهائي وحاسم، تعطيل هذا المشروع ليس لأنه يتقاطع مع مشاريعها مع الصين فيما يتعلق بمبادرة «الحزام والطريق» الموقعة عام 2021، أو مشاريعها المعلنة للوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، فالمسألة هنا لا تنحصر في الجانب الجيو اقتصادي، بل بالجانب الجيو سياسي أيضا؛ لأن دخول تركيا طرفا في مشروع طريق التنمية سيعني عمليا تحولها إلى فاعل أساسي في المنطقة على حساب إيران.
لا يمكن إغفال طبيعة التحولات التي حكمت حزب العمال الكردستاني PKK خلال السنوات الاثنتي عشرة الأخيرة، وتحوله من لاعب سياسي محلي(فيما يتعلق بصراعه مع الدولة التركية) إلى لاعب إقليمي فاعل، بعد سيطرته (في ظل صمت أمريكي واضح) على شمال شرق سوريا عبر وكيليه/ حليفيه؛ حزب الاتحادي الديمقراطي (PYD) ووحدات حماية الشعب (YPG) أو عبر سيطرته على منطقة سنجار، شمال غرب العراق، حيث تعاون مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، علنا، في استعادة المنطقة من تنظيم الدولة/ داعش في نهاية كانون الأول/ ديسمبر 2014، قبل أن ينقلب على الأخير، ويفرض هيمنته الكاملة على المنطقة في سياق اتفاق ضمني بينه وبين الحشد الشعبي/ القوات الرسمية العراقية، وذلك بعد انسحاب قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني، والإدارة المحلية المتحالفة معه، من قضاء سنجار في تشرين الثاني/ أكتوبر 2017، وهو ما أتاح له العمل في المنطقة بغطاء رسمي توفره بغداد وصل إلى حد تمويل القوات الوكيلة/ الحليفة لحزب العمال الكردستاني العاملة هناك!
توصلت الحكومة العراقية عام 2020 إلى اتفاق بينها وبين إقليم كردستان من أجل «تطبيع» الأوضاع في قضاء/ مدينة سنجار التابعة لمحافظة نينوى». وبعيدا عن الإشكاليات الدستورية والقانونية العديدة التي تضمنها هذا الاتفاق، فهو لم يلتفت إلى أن جوهر الصراع في منطقة سنجار لم يعد بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان، بل أصبح صراعا محليا إيزيدي ـ إيزيدي بين مجموعات متحالفة مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، ومجموعات متحالفة مع PKK، وأن هذا الصراع لا يمكن حسمه باتفاقية «تغفل» هذه الحقيقة!
الأمر الآخر أن الاتفاقية أغفلت الدور الإيراني المباشر (أو عبر وكلائها في الحشد الشعبي) في هذه الأزمة، خاصة وأن حلم «طريق الحرير الإيراني» المار عبر هذه المنطقة، وصولا إلى البحر الأبيض المتوسط، يجعل إيران في حاجة للإبقاء على تعاونه الاستراتيجي مع PKK، ليس في العراق وحسب، بل في سوريا أيضا.
إن بعد المسافة بين منطقة سنجار، المدينة ومحيطها، والحدود التركية العراقية يجعل أي حديث عن إمكانية تدخل تركي لتشكيل منطقة آمنة، على غرار ما جرى في عفرين مثلا، غير منطقي تماما
ورغم أن الاتفاقية تحدثت بلغة محايدة عن PKK، وعن خروجهم من «حدود قضاء سنجار» حصرا (وليس خروجهم من الأراضي العراقية ككل) لكن هذا لم يرض إيران ووكلاءها، لهذا هاجمت الأطراف السياسية، وكذا الميليشيات، المحسوبة على إيران هذا الاتفاق!
إن بعد المسافة بين منطقة سنجار، المدينة ومحيطها، والحدود التركية العراقية يجعل أي حديث عن إمكانية تدخل تركي لتشكيل منطقة آمنة، على غرار ما جرى في عفرين مثلا، غير منطقي تماما، عسكريا وسياسيا. لأن ذلك يعني دخول القوات التركية، بأعداد كبيرة في العمق العراقي مسافة تصل إلى أكثر من 100 كيلو متر عن حدودها، أو تمدد قواتها المتمركزة في بعشيقة التي تبعد 80 كيلو مترا عن سنجار في اتجاهها، وهو ما يجعلها في مواجهة قوات الـ PKK ووكلائها في سنجار، وفي تماس مع قوات «قسد» الكردية التي تسيطر على شمال شرق سوريا على الحدود السورية العراقية، كما يجعلها في تماس مباشر مع القوات الرسمية العراقية (الجيش وقوات حرس الحدود التابعين لوزارة الداخلية) فضلا عن الحشد الشعبي الذي لا يأتمر بأمر الحكومة العراقية عمليا، ويعني أيضا سيطرة القوات التركية على مساحات واسعة من العراق بشكل مباشر، لهذا لا يمكن التعامل مع هكذا حديث بجدية (رغم ما حققته القوات التركية من تقدم في عمليتها الأخيرة داخل الحدود العراقية والتي بدأتها في نيسان/ أبريل 2022، من بينها السيطرة على جبل خامتير الاستراتيجي في محافظة دهوك) لاسيما في ظل عدم وجود قرار حاسم في بغداد يتعلق بطبيعة العلاقة مع الـ PKK، وإذا ما كانت مستعدة للتعاون بشكل جدي مع الأتراك لإنهاء وجودهم في العراق بشكل نهائي!
كما أن تجاهل إقليم كردستان الصريح في مباحثات طريق التنمية، بل والحديث عن إمكانية اقتطاع جزء من أراضيه شرق محافظة دهوك المتاخم للحدود السورية لصالح مرور طريق التنمية عبر معبر أوفكاي ـ الموصل، من دون موافقته، ستجعل الإقليم أكثر تحفظا في التعاون مع بغداد في محاولة تأمين هذا الطريق، أو في مواجهة PKK داخل أراضيه، او في سنجار نفسها.
ومع التوقيع على مذكرة التفاهم الرباعية (العراق وتركيا والإمارات وقطر) لتنفيذ طريق التنمية، هناك أسئلة أساسية هي:
هل تملك الحكومة العراقية وحدها القرار السياسي للاستمرار في تنفيذ طريق التنمية، حتى إذا تجاوزت مشكلة التمويل المالي للمشروع؟
وهل يمكن لكل من الإمارات وقطر أن تصرا على الاستمرار في المشاركة في تمويل المشروع في حالة وجود فيتو إيراني عليه؟
وهل بغداد مستعدة فعلا لمواجهة PKK، وعندما نتحدث عن بغداد يجب أن نعي تماما أننا نتحدث عن قرار مركب، ليست الحكومة وحدها معنية به، بل إن إيران أيضا مع حلفائها تملك القدرة الفعلية على تعطيل أي قرار حكومي بهذا الشأن ؟
إلى حد هذه اللحظة، ليس ثمة إجابات محددة من بغداد على هكذا أسئلة جوهرية مما يجعل المشروع مجرد فكرة لايزال أمامها طريق معقد وطويل من أجل تحقيقها!