ما بين انطلاق الثورة السورية واليوم جرت مياه كثيرة تحت الجسور كما يقول المثل الفرنسي. إذ ارتكب النظام السوري جرائم تفوق أعداد ضحاياها تلك التي وقعت في هيروشيما وناغازاكي، وكان لافتا الموقف التركي المناهض لنظام الأسد (على عكس الموقفين الروسي والإيراني الداعمين للنظام، والولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية المهادنة ضمنا المستنكرة علنا) إذ جاء على لسان الرئيس التركي رجب طيب اردوغان يوم مجزرة الغوطة بالسلاح الكيماوي التي راح ضحيتها مئات الأطفال: «يا أسد القاتل كيف ستتخلص من آهات هؤلاء؟» ووصفه «بالمجرم» و«الإرهابي».
وقال اردوغان بعد أن لجأ ملايين السوريين إلى تركيا إنه «لا يمكن ترك مصير اللاجئين السوريين بأيدي الأسد المجرم الذي يمارس إرهاب الدولة» ودعا بشار الأسد إلى التنحي من الحكم قائلا له «أن تحارب حتى الموت ضد رغبة شعبك ليس عملا بطوليا» وأضاف: «أنه لا يمكن أبداً مواصلة الطريق مع بشار الأسد في سوريا لأنه لا يمكن المُضي مع شخص قتل قرابة مليون مواطن من شعبه» وأعلنت تركيا وقوفها في صف المعارضة السورية الساعية للإطاحة بالأسد، وما زالت تحتفظ بقوات في شمال غرب البلاد الخاضع لسيطرة المعارضة وهي تدعم فصائل الجيش السوري الحر واستخدمتهم في عدة معارك ضد قوات سورية الديمقراطية الكردية «قسد».
الأسد من جانبه كال لاردوغان الصاع صاعين فوصفه بالكاذب حين قال: «اردوغان لم يقل كلمة صدق واحدة منذ بدأت الأزمة في سوريا، ونعته بـ«الإخونجي»؟ وأن اردوغان استخدم الانقلاب (حادثة محاولة الانقلاب الفاشلة على نظام الحكم في تركيا في 2016) من أجل تنفيذ أجندته المتطرفة وهي أجندة الأخوان المسلمين داخل تركيا.
وازدادت العلاقات البينية سوءا بعد تدخل الجيش التركي في الأراضي السوري بداية، ثم تمركز وحدات عسكرية في محافظة إدلب وانطلاقة الهجمات التركية (بمساعدة وحدات من الجيش السوري الحر ضد قوات سوريا الديمقراطية الكردية) ومع تكرار مطالبات النظام بجلاء الجيش التركي عن سوريا، رفضت تركيا مطالب النظام. هذا هو المشهد تقريبا حتى اليوم، ولكن ماذا حصل بعد أن جرت المياه الكثيرة تحت الجسور؟
هذا الوضع المعقد ليس من شأنه أن يسهل تطبيع علاقات الطرفين، ولن يكون المشوار سهلا. ويبدو أنه يأخذ شكل إكراه سياسي تفرضه المصالح أكثر من أي شيء آخر
تركيا المنضوية لحلف شمال الأطلسي لم تكن ذات علاقات جيدة مع الاتحاد لأن دورها في الحلف كان مراقبة تحركات الاتحاد السوفييتي، وكانت تلعب دور الجدار الواقي لتمدد الشيوعية إلى الشرق الأوسط، وقد بنى الحلف قاعدة «أنجرليك» التي تضم قوات نووية في تركيا تحسبا لأي نزاع نووي مع الاتحاد السوفييتي، وحتى بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في بداية تسعينيات القرن الماضي لم تتحسن العلاقات الروسية التركية بشكل ملحوظ، بل تدهورت سريعا بعد حادثة إسقاط طائرة سوخوي 25 روسية فوق قاعدة حميميم السورية في العام 2015 من قبل طائرة أف 16 تركية (كانت روسيا قد أدخلت قواتها بطلب من بشار الأسد لمساعدته في القضاء على الثورة السورية وتم بناء قاعدة حميميم خصيصا للقوات الروسية، بالإضافة إلى القاعدة البحرية في طرطوس) لكن اردوغان «البراغماتي» الذي شعر بأن ضرب علاقات أنقرة بموسكو سوف لن تكون بصالح تركيا عاجل بزيارة روسيا ولقاء الرئيس فلاديمير بوتين لطي صفحة طائرة السوخوي، وبناء علاقات جديدة متينة، وأصبحت تركيا عضوا في القمة الثلاثية (إيران وروسيا وتركيا) الخاصة بسوريا تحضر اجتماعات سوتشي. وآستانا. العلاقات التركية الروسية انعكست على العلاقات التركية السورية، إذ حاول الرئيس الروسي فلاديمر بوتين الضغط على الرئيس رجب طيب اردوغان لتطبيع علاقاته من رئيس النظام السوري بشار الأسد. ففي كانون الثاني/ ديسمبر 2022 تم لقاء ثلاثي بين وزراء الدفاع التركي والسوري والروسي في موسكو، في أول اجتماع وزاري بين تركيا وسوريا منذ عام 2011. لكن هذه المحادثات باءت بالفشل، إذ واصل النظام السوري انتقاده للوجود التركي في سوريا.
واعتبر الأسد أن الهدف من تطبيع العلاقات هو «إضفاء الشرعية على الاحتلال التركي في سوريا» حسب وصفه. ولكن هذا لم يقف عائقا من تواصل اللقاءات السرية بين الطرفين التي أفضت إلى تصريح اردوغان برغبته لقاء بشار الأسد الذي لا يزال يصر على لاءاته: الانسحاب من الأراضي السورية (وهنا يبحث عن إعادة سيادة نظامه على المناطق الخارجة عن سيطرته في محافظة إدلب وشمال حلب، والقضاء على انتفاضة جبل العرب في الجنوب السوري، وشمال شرق سوريا التي تسيطر عليها قسد، فهو اليوم يبسط سيادته على 60 بالمئة من مساحة سوريا) وقف دعم الفصائل «الإرهابية»(قوات المعارضة). والبدء بإعادة الإعمار.
محاولة تركيا التقارب مع نظام دمشق ليس حبا به، (وحتى لو كان صادقا فهو حب من طرف واحد). القرار التركي جاء بناء على مجموعة من العوامل الأمنية، والسياسية، والاجتماعية، والعامل الأول يتمثل بوجود حوالي 3 ملايين لاجئ سوري على الأراضي التركية الذين أصبحوا رأس حربة المعارضة السياسية في تركيا التي لا تفوت فرصة لاستخدامها ضد حزب العدالة والتنمية والحكومة التركية، ورغم أن المعارضة لم تنجح باستخدامها ورقة اللاجئين في الوصول إلى السلطة، فإن اللاجئين السوريين يواجهون إجراءات تعسفية من جهة، والاعتداءات المتكررة عليهم، وعلى ممتلكاتهم من قبل متطرفين أتراك كما حصل مؤخرا في القيصري، وغازي عنتاب من جهة أخرى. فاتفاق مع النظام السوري يمكن تركيا من إعادة ملايين السوريين إلى وطنهم بضمان النظام سلامتهم مع أن معظم اللاجئين لا يريدون العودة إلى حضن النظام. العامل الثاني والهام وهو رفض أنقرة بشكل قاطع وجود كيان كردي مستقل على حدودها، والمقصود هنا هي «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من قبل الولايات المتحدة (حليفة تركيا وهنا يبدو التناقض الكبير في سياسة أمريكا المناقضة للمصالح الأمنية التركية) فهي أعلنت أكثر من مرة نيتها في اعتماد الحل العسكري ضد «قسد» وفي كل مرة يتم تأجيل الهجوم لأكثر من سبب منها وجود قوات أمريكية في الأراضي التي تسيطر عليها «قسد» فتطبيع العلاقات مع النظام السوري سيحتم تغييرات كثيرة على مستويات عدة، أولا في المناطق المحررة التي تسيطر عليها فصائل المعارضة المسلحة بجميع أطيافها، ولا ترى بعين الرضا هذا التقارب الذي تعتبره أنه موجه ضدها طالما أن النظام السوري يعتبرها منظمات إرهابية ويريد أستعادة السيطرة عليها، أما القوات الكردية التي بنت استقلالا ذاتيا في شرق الفرات كي يكون نواة دولة انفصالية ترى بأن حلمها سيكون كابوسا يحتم عليها مواجهة مسلحة مع القوات التركية في حال انسحاب القوات الأمريكية، وفي حال لم تنسحب فذلك سيؤدي إلى صدام آخر بين واشنطن وأنقرة خاصة وأن واشنطن تفرض عقوبات على نظام دمشق وتطلب عدم تعويم نظام الأسد. هذا الوضع المعقد ليس من شأنه أن يسهل تطبيع علاقات الطرفين، ولن يكون المشوار سهلا. ويبدو أنه يأخذ شكل إكراه سياسي تفرضه المصالح أكثر من أي شيء آخر.