هل يغير انسحاب الرئيس الأمريكي جو بايدن من السباق الانتخابي 2024 وإعلانه دعم نائبته كاميلا هاريس كمرشح الرئاسة للحزب الديمقراطي المشهد السياسي في الولايات المتحدة على نحو جذري؟
فيما خص الحزب الجمهوري ومرشحه للرئاسة، الرئيس السابق دونالد ترامب، يمثل انسحاب بايدن ضياعا لفرصة «الفوز السهل» في الانتخابات الرئاسية وتقليلا من احتمالية «اكتساح» انتخابات مجلسي النواب والشيوخ لتأمين سيطرة جمهورية ليس فقط على البيت الأبيض (السلطة التنفيذية) بل وعلى الكونغرس (السلطة التشريعية) أيضا.
فقد رتب الأداء الكارثي لبايدن في المناظرة الرئاسية التي جمعته مع ترامب قبل أقل من شهر هبوطا حادا في مستويات التأييد الشعبي للديمقراطيين وتفوقا واضحا لترامب والجمهوريين في كافة استطلاعات الرأي العام وتفضيلات الناخبين. ووظف الجمهوريون تقدمهم على منافسيهم لصناعة مشهد الحزب القوي والموحد خلف زعيمه ترامب في «مؤتمر ميلووكي» قبل أيام، وأضفت نجاة ترامب من محاولة الاغتيال الفاشلة في ولاية بنسلفانيا بعدا «خلاصيا وبطوليا» على ترشحه للرئاسة وقيادته للحزب الجمهوري لانتزاع السيطرة على البيت الأبيض من الديمقراطيين وإضافة أغلبية في مجلس الشيوخ لأغلبيتهم الراهنة في مجلس النواب. وعبر تفوق الجمهوريين عن نفسه في ارتفاع غير مسبوق في التبرعات المقدمة لحملاتهم الانتخابية قابله انهيار غير مسبوق في تبرعات بايدن والمرشحين الديمقراطيين للكونغرس الذين ابتعد عنهم الكثير من الداعمين وطالب بعضهم بانسحاب بايدن من السباق الانتخابي وفتح الباب لمرشح رئاسي آخر لا يشكك الرأي العام في قدرته العقلية والجسمانية على الاضطلاع بمهام منصبه.
الآن، يتغير هذا المشهد المواتي للجمهوريين بانسحاب بايدن وتقدم كاميلا هاريس إلى الواجهة كمرشحة رئاسية محتملة وعودة ماكينة جمع التبرعات للديمقراطيين إلى العمل (بين إعلان بايدن قرار الانسحاب ظهر يوم الأحد وصباح يوم الاثنين، جمعت الحملة الرئاسية للديمقراطيين ما يقرب من 50 مليون دولار من تبرعات الناخبين).
من جهة، أوقف انسحاب «الرجل العجوز» وعلى نحو دراماتيكي «اللحظة الممتدة» لهيمنة ترامب بعد محاولة اغتياله وسيطرة الحزب الجمهوري بعد مشهد الوحدة في ميلووكي على النقاش السياسي في الولايات المتحدة ونقل عنصر «المفاجأة» إلى الحزب الديمقراطي الذي يتابع الرأي العام باهتمام خطواته القادمة إن فيما خص حصول هاريس على التأييد الكافي لخوض الانتخابات أو احتمالية ظهور مرشحين منافسين لها على بطاقة الديمقراطيين الرئاسية أو بورصة الأسماء المتداولة لمرشح نائب الرئيس على بطاقة هاريس أو تفاصيل مواقف كبار قادة الحزب الديمقراطي من باراك أوباما وبيرني ساندرز إلى نانسي بيلوسي وتشاك شومر ومواقف ممثلي الولايات في المؤتمر الوطني للحزب الذي سيحسم بطاقة الترشح للرئاسة ولمنصب نائب الرئيس في النصف الثاني من شهر أغسطس / آب القادم.
قرار الانسحاب الذي أعلنه بايدن يوم الأحد الماضي يقدم للحزب في حده الأدني فرصة لتجنب هزيمة ساحقة في انتخابات 2024 يخسر معها البيت الأبيض ومجلسي الكونغرس
من جهة ثانية، وبغض النظر عن هوية المرشح الديمقراطي الجديد للرئاسة وأغلب الظن أن هاريس ستحسم الأمر لصالحها ومعها مرشح لمنصب النائب ينتمي إلى وسط الحزب الديمقراطي وليس محسوبا على اليسار كهاريس، حرم انسحاب بايدن من السباق الانتخابي الجمهوريين من إمكانية اختزال انتخابات 2024 في استفتاء على الرجلين، بايدن وترامب، وأيهما أقدر وأصلح على قيادة الولايات المتحدة. شخصنة الانتخابات، وتكثيف التشكيك في القدرات الذهنية والجسمانية لبايدن ومقارنته بشجاعة وجراءة ترامب (الذي اكتسب كما ذكرت أعلاه صفات خلاصية وبطولية بعد محاولة الاغتيال) في الدفاع عن مصالح الشعب الأمريكي، وإظهار انقسام الحزب الديمقراطي بين مؤيدين «للرجل العجوز» ومعارضين له وناصحين بحتمية انسحابه؛ كل هذا لن يكون في مقدور الجمهوريين التعويل عليه للحفاظ على تفوقهم في الفترة القادمة.
بعبارة بديلة، سيتعين على ترامب وحملته الانتخابية وعلى الحزب الجمهوري ومرشحيه لانتخابات الكونغرس الانتقال من خانات الشخصنة إلى ساحة للنقاش حول السياسات العامة المقترحة وطرح تفاصيل واضحة بشأن مواقفهم المحافظة اجتماعيا ورؤيتهم الاقتصادية الرافضة لمعدلات إنفاق عام مرتفعة وأجندتهم السياسية المعادية للهجرة في الداخل والراغبة في إعادة صياغة السياسة الخارجية الأمريكية. قطعا، سيسعى ترامب والجمهوريون، حال ما توافق الحزب الديمقراطي على كاميلا هاريس كمرشح رئاسي، إلى تحميلها المسؤولية عن سياسات إدارة بايدن الاجتماعية والاقتصادية والمواقف الخارجية وعما يراه قطاع واسع من المواطنين الأمريكيين فشلا ذريعا في السيطرة على معدلات التضخم وعلى الهجرة غير الشرعية وترويجا لممارسات في مجال الحريات الشخصية تتعارض مع القيم الدينية والمحافظة. غير أن مساعي إلصاق «سجل» بايدن بالمرشحة أو المرشح البديل للديمقراطيين في السباق الانتخابي لن تغني الحزب الجمهوري عن حتمية الانتقال والانتقال السريع من شخصنة السباق إلى دفعه في اتجاه نقاش حول السياسات التنفيذية والتشريعية المراد اعتمادها وتفعيلها حال فوز ترامب بالبيت الأبيض واحتفاظ الجمهوريين بالسيطرة على مجلس النواب وانتزاع الأغلبية في مجلس الشيوخ.
أما الحزب الديمقراطي، وبعد فترة طويلة من المعاناة من انخفاض معدلات التأييد الشعبي ومن الانقسامات الحادة داخل الحزب ومن تراجع تبرعات داعمي الديمقراطيين للحملات الانتخابية وبعد أسابيع قليلة صعبة أعقبت الأداء الكارثي لبايدن في المناظرة الرئاسية التي جمعته مع ترامب، فإن قرار الانسحاب الذي أعلنه بايدن يوم الأحد الماضي يقدم للحزب في حده الأدني فرصة لتجنب هزيمة ساحقة في انتخابات 2024 يخسر معها البيت الأبيض ومجلسي الكونغرس كانت استطلاعات الرأي العام قد بدأت تشير إلى احتماليتها المرتفعة (مع تقدم الجمهوريين على الديمقراطيين في كافة الولايات المتأرجحة).
وقد يمكن الحزب في حده الأقصى، ومن خلال تجديد دماء حملاته الانتخابية وتجاوز شخصنة سباق 2024 في ثنائية بايدن- ترامب وإنتاج مشهد لوحدة الحزب خلف مرشحة جديدة تدافع بقوة عن سياسات الديمقراطيين الاجتماعية (قضية الحق في الإجهاض كقضية مركزية) والاقتصادية (سياسات الإنفاق العام والتشغيل والتأمين الصحي والحماية الاجتماعية وتخفيض العبء الضريبي على الطبقات الفقيرة والمتوسطة) وعن دعم الحريات الشخصية والإدارة العاقلة لملف الهجرة غير الشرعية، من المنافسة القوية في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية 2024.
شرط الضرورة هنا، إن لتأمين الحد الأدنى المتمثل في الحيلولة دون الخسارة الكاملة للديمقراطيين أو للمنافسة القوية على البيت الأبيض والكونغرس، هو التجاوز السريع لانقسامات الحزب الديمقراطي والتوحد خلف مرشحة أو مرشح جديد يواجه الجمهوريين على أرضية السياسات العامة ويستغل عنصر «المفاجأة الاستراتيجية» الذي حققه انسحاب بايدن لإنهاء التفوق الصارخ لترامب والحزب الجمهوري.