عام 2006 أشرفت على تحرير كتاب بعنوان «مراجعات في الدستور العراقي» قلت في مقدمته إن الغاية الجوهرية من المادة 41، التي أصرّ الفاعلون السياسيون الشيعة على تضمينها في الدستور، لا علاقة لها بحرية (الدين/ الاعتقاد) أو الالتزام بحدود هذا الاعتقاد، وإنما كانت الغاية إعادة ربط المواطن أو الأسرة الشيعية تحديدا، بالمؤسسة الدينية الشيعية ورجل الدين، وليس بالدولة.
ونص هذه المادة هو: «العراقيون أحرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية حسب دياناتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم، وينظم ذلك بقانون».
وكان عبد العزيز الحكيم، رئيس المجلس الأعلى لثورة الإسلامية في العراق، حينها، قد وقّع أثناء رئاسته الدورية لمجلس الحكم الذي شكله الأمريكيون كواجهة للاحتلال، على قرار (رقم 137) يقضي بإلغاء قانون الأحوال الشخصية العراقي رقم 188 لسنة 1959 وتطبيق الشريعة الإسلامية وفقا للمذاهب فيما يتعلق بالأحوال الشخصية، وقد لاقى هذا القرار اعتراضا من رئيس سلطة الائتلاف المؤقتة بول بريمر، وقد قام أعضاء المجلس أنفسهم بإلغائه في شباط 2004.
ومن المعروف أن قانون الأحوال الشخصية العراقي من أهم القوانين التي أصدرتها الدولة العراقية في تاريخها الحديث، وأكثرها نضجا، وقد وضعه عدد كبير من خبراء القانون والفقهاء استنادا إلى المشهور من الآراء الفقهية في المذاهب الخمسة (الحنفي والشافعي والحنبلي والمالكي والجعفري) وهو أكثرها عدالة وحفاظا على الالتزامات و الحقوق، وهو ليس قانونا مدنيا، بل قانون يستند إلى أحكام الشريعة.
هكذا مقترحات، تنطلق من أفكار ذات طبيعة طائفية بالأساس، وعقد ذكورية واضحة، فضلا عن أهداف سياسية واقتصادية واجتماعية ضمنا، لا يمكن لها إلا أن تنهي فكرة الدولة نفسها
مع ذلك لم يتوقف الفاعلون السياسيون الشيعة، خلال السنوات الماضية عن محاولاتهم لإلغاء هذا القانون، أو تفريغه من محتواه عبر مقترحات تعديل لم تتوقف!
ففي عام 2013 تقدم وزير العدل حينها (المنتمي إلى حزب الفضيلة الذي يدعو مرجعُه «محمد اليعقوبي» بشكل دائم، إلى اعتماد قانون أحوال شخصية جعفري، وإلى محكمة جعفرية فيما يتعلق بالأحوال الشخصية، واصفا ذلك بأنه «من مقتضيات وجود المجتمع المدني المتحضر»!) تقدم بمشروع قانون الأحوال الشخصية الجعفري الى مجلس الوزراء العراقي. وبالفعل لم يتم الاعتراض على القانون من حيث المبدأ، بل وجد مشروع القانون طريقه إلى التصويت داخل مجلس الوزراء عبر ثلاثة مقترحات؛ الأول أن تتحقق الموافقة على القانون بعد موافقة المرجع الأعلى السيد علي السيستاني عليه، والثاني تعديل قانون الأحوال الشخصية رقم 188 بما يضمن للشيعة اعتماد ما يقوله الفقه الشيعي فيما يتعلق بالأحوال الشخصية، والثالث أن يتم تأجيل النظر في القانون إلى ما بعد الانتخابات النيابية التي كانت على الأبواب، وهو الخيار الذي صُوِّت عليه في النهاية.
وفي أيلول 2018 ردت المحكمة الاتحادية العليا (القرار رقم 134 وموحدتها 135/ اتحادية/ 2018) طعنا بعدم دستورية قانون الأحوال الشخصية رقم 188.
وفي تموز 2021 ناقش مجلس النواب مقترح لتعديل المادة 57 من القانون، لتمكين الأب من حضانة الابن عند بلوغه سن السابعة (وليس سن 10 سنوات، قابلة للتمديد بقرار قضائي إلى 15 سنة كما يقرر القانون) بل ينص التعديل على منح حق الحضانة للجد الصحيح عند بلوغه السابعة «وكان أبوه متوفيا أو مفقودا أو فقد أحد شروط الحضانة»!
وقبل أيام تقدم أيضا أحد النواب بمقترح جديد لتعديل قانون الأحوال الشخصية رقم 188، ولكن ليس من خلال تعديل بعض مواده فقط، بل من خلال نسف القانون بالمجمل!
فالمقترح الجديد يتضمن مادة تنص على إلزام المجلس العلمي في ديوان الوقف الشيعي، والمجلس العلمي والإفتائي في ديوان الوقف السني، وبالتنسيق مع مجلس الدولة، بوضع «مدونة الاحكام الشرعية في مسائل الأحوال الاجتماعية» وتقديمها إلى مجلس النواب خلال ستة أشهر. على أن تعتمد هذه المدونة «على رأي المشهور عند فقهاء كل مذهب». وفي حالة تعذر ذلك تعتمد المدونة الشيعية على «رأي المرجع الديني الذي يرجع اليه في التقليد أكثر الشيعة في العراق من فقهاء النجف الأشرف» أما المدونة السنية فتعتمد على «رأي المجلس العلمي والإفتائي» كما تضمن مادة تتيح إبرام عقود الزواج خارج المحكمة «على يد من لديه تخويل شرعي أو قانوني من القضاء أو من ديواني الوقفين الشيعي والسني بإبرام عقود الزواج» في حين لا يتيح القانون النافذ ذلك مطلقا، بل ينص على عقد الزواج في المحكمة المختصة، ويعاقب الرجل الذي يتزوج خارج المحكمة بالغرامة أو الحبس!
إن هذا المقترح يعني عمليا الدخول في متاهة الآراء والاجتهادات الفقهية، التي لم تعد صالحة لهذا العصر بالمطلق! فهذا المقترح يلغي، مثلا، ما قرره القانون من أنه «يشترط في تمام أهلية الزواج العقل وإكمال الثامنة عشرة» (المادة السابعة/ 1) وأنه يمكن للقاضي أن يأذن بزواج من أكمل الخامسة عشرة من العمر» بشروط. فبالعودة إلى «المشهور» من آراء الفقهاء في المذاهب السنية، أو المذهب الجعفري، سنجد أنهما يتفقان أنه ليس هناك تحديد لسن الزواج، وعلى أنه يمكن تزويج «الصغيرة» عند البلوغ، وعلامة البلوغ هي «الحيض» حصرا! ويمكن العقد على «الصغيرة» عن الغالبية العظمى قبل ذلك!
ينقل ابن حجر العسقلاني في كتابه «فتح الباري ـ شرح صحيح البخاري» في باب «تزويج الصغار من الكبار» عن أبي محمد البغوي (صاحب تفسير البغوي) قوله: «أجمع العلماء أنه يجوز للآباء تزويج الصغار من بناتهم وإن كُنَّ في المهد، إلا أنه لا يجوز لأزواجهن البناء بهنَّ إلا إذا صلحن للوطء واحتملن».
واختلف العلماء الأربعة عند السنة في مسألة وطء الزوجة «الصغيرة» فأحمد بن حنبل يقول بأن السن هو تسع سنين، أما مالك والشافعي وأبو حنيفة يربطون ذلك بوضع «الصغيرة» نفسها، ولا يضبط بسن!
ويقول المرجع الأعلى السيد علي السيستاني في كتابه «رياض الصالحين»: «مسألة 8: لا يجوز وطء الزوجة قبل إكمال تسع سنين، دواما كان النكاح أو منقطعا، وإما سائر الاستمتاعات كاللمس بشهوة والتقبيل والضم والتفخيذ فلا بأس بها، ولو وطئها قبل إكمال التسع ولم يفضها لم يترتب عليه شيء غير الإثم على الأقوى … ولو دخل بزوجته بعد إكمال التسع فأفضاها لم تحرم عليه ولم تثبت الدية، ولكن الأحوط وجوب الإنفاق عليها كما لو كان الإفضاء قبل إكمال التسع».
فهنا نحن أمام حديث صريح عن «إجماع» إمكانية الزواج في أي سن قبل بلوغ التاسعة، وأن الخلاف إنما في جواز الوطء من عدمه حصرا، أما بعد التاسعة فالوطء طبيعي جدا!
هكذا مقترحات، تنطلق من أفكار ذات طبيعة طائفية بالأساس، وعقد ذكورية واضحة، فضلا عن أهداف سياسية واقتصادية واجتماعية ضمنا، لا يمكن لها إلا أن تنهي فكرة الدولة نفسها، والتعامل مع المواطن بوصفة «مكلفا» تحكمه المذاهب وليس مواطنا حرا يحدد خياراته، وهي في النهاية تكريس لفكرة تحويل العراق إلى دولة دينية تطبق الشريعة الإسلامية بشكل منهجي!