العلاقات الإيرانية – السودانية… أبعد من الدبلوماسية

العلاقات الإيرانية – السودانية… أبعد من الدبلوماسية

قد يكون الهدف المباشر أو المعلن من استئناف العلاقات الدبلوماسية الإيرانية – السودانية هو إنهاء القطيعة السياسية والدبلوماسية التي حصلت بين البلدين قبل ثمانية أعوام، وبمبادرة من الخرطوم التي أعلنت حينها موقفاً تضامنياً مع السعودية، بعد تعرض سفارتها في طهران وقنصليتها في مدينة مشهد إلى هجوم جماعات متطرفة إيرانية بإحراقهما.

وهذه العودة التي أخذت مسارها العملي والجدّي قبل أيام من خلال تقديم الدبلوماسي الإيراني حسن شاه حسيني أوراق اعتماده لرئيس المجلس العسكري السوداني الجنرال عبدالفتاح البرهان، كسفير جديد لإيران لدى دولة السودان، قد تكون استكمالاً لمسار بدأته طهران منذ ما بعد الإعلان عن توقيع “اتفاق بكين” بينها وبين الرياض في مارس (آذار) 2023، والذي فتح الطريق أمام ترميم العلاقات بين البلدين، وأن يشمل جميع الدول التي أعلنت مقاطعتها، خباصة أن خطوات مماثلة قد حصلت على خط العلاقة بين إيران ودولتي الإمارات والكويت، فيما لا تزال مملكة البحرين على لائحة الانتظار.

وهنا يمكن القول إنه في مقابل الرغبة الإيرانية في إقفال ملف التداعيات السلبية لحادثة الاعتداء على المقار الدبلوماسية السعودية على أراضيها، فإن الدول المقاطعة، وبعد إعادة ترميم العلاقة بين الرياض وطهران، تسعى أيضاً إلى إقفال هذا الملف، وبالتالي سعي كل الأطراف، أي إيران من جهة وهذه الدول من جهة أخرى، إلى تصفير المشكلات والأزمات التي تمنع بناء علاقات متوازنة وتعاون مشترك.

ولا شك في أن حوارات وتفاهمات قد حصلت بين طهران والخرطوم حول مساعي إعادة العلاقات، بدأت في يوليو (تموز) 2023 بين وزيري خارجية البلدين، حسين أمير عبداللهيان وعلي الصادق علي، على هامش اجتماع وزراء خارجية دول عدم الانحياز الذي استضافته العاصمة الأذربيجانية باكو، ثم الزيارة التي قام بها الصادق إلى طهران مطلع فبراير (شباط) 2024، وتم الاتفاق على إعادة العلاقات بين البلدين.

وبعيداً من العنوان الدبلوماسي لهذه الخطوة فإن أبعاداً جيوإستراتيجية يبدو أنها تشكل المحرك الذي دفع الجانب الإيراني إلى التحرك نحو السودان وتسريع عملية ترميم العلاقات مع الخرطوم، للانتقال منها إلى الأهداف الإستراتيجية، وهذا ما يفسر عدم انتظار طهران تسلم الرئيس الجديد وتشكيل الحكومة وتعيين وزير للخارجية، وعدم مراعاة الجانب البروتوكولي، بغض النظر عن أن قرار التسمية سبق واُتخذ في زمن الرئيس السابق رئيسي ووزير خارجيته عبدالليهان.

في التوصيف الجيوإستراتيجي يعتبر السودان في الدائرة الجغرافية الأقرب في تعريف المحيط الحيوي للمصالح والأمن الإسرائيلي، الخصم الأساس لطهران في منطقة الشرق الأوسط، أما بالنسبة إلى النظام الإيراني فإنه يقع في بداية الدائرة الثانية في تعريفه للعمق الإستراتيجي الذي يفتح على البر الأفريقي، بخاصة منطقة القرن الأفريقي، وبالتالي فإن التحرك أو النفوذ الإيراني في هذا المحيط يهدف أو يساعد في تخفيف أو الحد من الدور أو التحرك الإسرائيلي في الدائرة المحيطة بإيران أو مجالها الحيوي المباشر، ويشكل جسراً للطموحات الإيرانية في لعب دور فاعل في العمق الأفريقي، بخاصة في ظل الحرب الاستخباراتية التي يخوضها الطرفان ضد مصالح بعضهما بعضاً في المجال الأفريقي.
ويشكل السودان نقطة حيوية في الإستراتيجية الإيرانية المرتبطة بالوجود والنفوذ في مياه البحر الأحمر، فأهمية الدور الذي يلعبه هذا البحر توفر تفوقاً إيرانياً أمنياً وعسكرياً وإستراتيجياً أمام خصمه الإسرائيلي، في إطار صراع النفوذ القائم بينهما ومحاولة كل منهما السيطرة والهيمنة على المنطقة وفرض تفوقه، وقد زادت الحاجة الإيرانية إلى إحداث وجود فاعل ومؤثر في هذا البحر بعد التغيير السياسي الذي حصل في إيران بعد الثورة الإسلامية وقيام النظام والجمهورية الإسلامية عام 1979، وانتقال العلاقة بين طهران وتل أبيب من الصداقة إلى العداء.

وإضافة إلى هذا المتغير فإن النظام الإسلامي الجديد ورث الطموحات والأحلام البحرية للنظام الملكي السابق الذي كان يسعى إلى تشكيل نظام أمني وسيادة بحرية على المنطقة البحرية الممتدة من مياه الخليج، وصولاً إلى البحر الأحمر ومروراً بخليج عُمان وبحر العرب وأجزاء من المحيط الهندي.

وقد ازدادت أهمية البحر الأحمر بالنسبة إلى النظام الإيراني خلال العقد الأخير، بعد أن استطاع تعزيز نفوذه ودوره في دولة اليمن من خلال دعم جماعة الحوثي أو تنظيم “أنصار الله”، وسيطرته على السلطة والحكم وإزاحة الرئيس علي عبدالله صالح، مما مهد الطريق أمامه لفرض سيطرته على مضيق باب المندب الإستراتيجي الذي يمثل أحد شرايين التجارة البحرية العالمية، إلى جانب الأفضلية العسكرية والأمنية والإستراتيجية التي تسمح لإيران باستخدامه كورقة ضغط وأداة لمحاصرة الخصم الإسرائيلي، وهو ما ظهر جلياً في العمليات العسكرية البحرية التي تقوم بها جماعة الحوثي منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023، واستهدافها السفن في هذا المضيق ومياه البحرين العربي والأحمر، تحت عنوان دعم معركة “طوفان الأقصى” وقطاع غزة في مواجهة الحرب الإسرائيلية.

وقبل المتغير الذي أحدثته معركة “طوفان الأقصى”، وأمام فشل إيران في إقناع الدول الخليجية بتبني مشروع “أمن هرمز” الذي طرحه الرئيس الإيراني الأسبق حسن روحاني، وحاول الترويج له عبر وزير خارجيته محمد جواد ظريف الذي حمله إلى الاجتماع السنوي للجمعية العمومية للأمم المتحدة أواخر عام 2020، ذهب النظام الإيراني إلى خيار بديل ينسجم مع رؤيته الإستراتيجية بالتوجه شرقاً وبناء تحالف مع كل من الصين وروسيا، من خلال تشكيل منظومة بحرية أمنية مشتركة بدأت عملياً عام 2021 من خلال المناورات البحرية المشتركة التي أقيمت بين القوات البحرية لهاتين الدولتين مع القوات البحرية التابعة للجيش الإيراني وقوات “حرس الثورة” على مساحات واسعة في مياه الخليج وخليج عُمان وبحر العرب والمحيط الهندي.

وما قامت وتقوم به جماعة الحوثي في البحر الأحمر وباب المندب، وعجز القوات البحرية الأميركية والبريطانية عن فرض تحالف دولي، “تحالف حماية الازدهار”، للحفاظ على أمن هذه المنطقة الحيوية وإجبار الحوثيين على وقف عملياتهم البحرية، عزز الاعتقاد لدى النظام الإيراني بأن عصب الهيمنة الأميركية الدولية القائمة على فرض سيطرتها على البحار قد أصيب بضرر كبير، وبالتالي بات الطريق أمام النظام مفتوحاً لتطوير رؤيته الإستراتيجية وترجمتها على أرض الواقع من خلال توسيع نفوذه البحري وتعزيز وجوده العسكري في هذه المنطقة البحرية.