صفقات الطاقة في الشرق الأوسط قد توفر للولايات المتحدة وحلفائها الرئيسيين أساسا جديدا يمكنهم من خلاله البدء في إعادة بناء علاقة أوسع وأعمق مع المراكز الرئيسية للطاقة في المنطقة. ويعتقد محللون أن مثل هذه الصفقات قد تساعدهم في إعادة بناء نفوذهم المتضائل.
بغداد – تحتل شركات النفط موقعا فريدا، فهي في تقاطع مع الاقتصاد العالمي والسياسة والأمن. ويرجع جزء من ذلك إلى كون الطاقة محددا حاسما للمستقبل المالي في أي بلد، ما يؤثر بالتالي على مناوراته السياسية في الداخل والخارج.
ويكمن جزء آخر في اندراج شركات النفط في الأراضي الأجنبية ضمن عمليات هائلة ومتعددة الطبقات تمتد إلى تنمية العلاقات على أعلى المستويات في حكومة الدولة المضيفة والصناعة والمجتمع.
وأما الجزء الأخير فهو أن لشركات النفط حق قانوني في حماية أصولها على الأرض في بلد أجنبي بأيّ وسيلة تراها ضرورية، بشرط موافقة الدولة المضيفة.
وقاد الغرب لفترة طويلة طريق إقامة العلاقات الدولية وتوطيدها من خلال مثل هذه المشاريع النفطية، وخاصة في الشرق الأوسط.
ومن ثم ملأت العديد من الأخطاء العسكرية والسياسية، خاصة في العراق والصين وروسيا، فراغ السلطة الذي خلّفه تقليص نفوذ الغرب في جميع أنحاء المنطقة. لكن شهر أبريل الماضي شهد التصديق النهائي على صفقة رباعية بقيمة 27 مليار دولار بين شركة توتال الفرنسية والحكومة الاتحادية العراقية في بغداد.
وقبل أكثر من أسبوع بقليل، وقعت شركة بي بي البريطانية اتفاقا مبدئيا لإعادة تأهيل وتطوير أربعة حقول في منطقة كركوك الغنية بالنفط في المنطقة الشمالية الحساسة سياسيا في العراق.
ويقول المحلل المالي سايمون واتكينز في تقرير على موقع أويل برايس الأميركي إن منطقة كركوك قد تكون نقطة الخلاف الأكثر توترا سياسيا بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كردستان شبه المستقل ومقرها أربيل في شمال العراق.
كركوك قد تكون نقطة الخلاف الأكثر توترا سياسيا بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كردستان شبه المستقل ومقرها أربيل في شمال العراق
وحددت عدة مصادر تاريخية معتمدة أن الأكراد استقروا في كركوك لوقت أطول من أيّ مجموعات عرقية أخرى. وأشار العديد من القادة الأكراد إلى الموقع باسم “قدس كردستان”.
وتسعى حكومة إقليم كردستان لبسط ولايتها القضائية الضمنية على مدينة كركوك ومنطقتها، وقد أخضعتها لسلطتها الإدارية الفعلية من 2014 إلى 2017.
وعمل جيش البيشمركة التابع لحكومة إقليم كردستان على حماية كركوك خلال هذه الفترة من تنظيم الدولة الإسلامية الذي كان قويا حينها.
وأكدت الولايات المتحدة لحكومة إقليم كردستان أنها ستدعم رغبات الأكراد في الاستقلال الكامل عن العراق بمجرد انتهاء تهديد تنظيم داعش في مقابل النجاح الاستثنائي الذي حققته القوة في التعامل معه.
وتقرر نتيجة لذلك، في 25 سبتمبر 2017، إجراء تصويت على استقلال أكراد شمال العراق عن بقية العراق. لكن هذا كان دون إعادة صياغته ليصبح تصويتا ملزما قانونا.
وتُرك تصويتا إرشاديا أوليا. وأدلى 92 في المائة من السكان المؤهلين للتصويت البالغ عددهم 3.3 مليون نسمة بأصواتهم لصالح تشكيل دولة كردية مستقلة جديدة شمال العراق. وفُتحت أبواب الجحيم خلال تلك المرحلة.
واعتبرت إيران، التي تعدّ راعية العراق الإقليمية الرئيسية، وتركيا وسوريا أن منح الاستقلال للدولة الكردية شبه المنفصلة في الشمال سيجلب معه زيادة هائلة في مطالب مماثلة من السكان الأكراد الذين يشكلون نسبا محترمة في المنطقة.
حكومة إقليم كردستان لبسط تسعى ولايتها القضائية الضمنية على مدينة كركوك ومنطقتها، وقد أخضعتها لسلطتها الإدارية الفعلية من 2014 إلى 2017
وهم يشكلون في إيران حوالي 9 في المئة من إجمالي سكانها، وفي سوريا حوالي 10 في المئة، وفي تركيا حوالي 18 في المئة.
ودعا اللواء يحيى رحيم صفوي، كبير المستشارين العسكريين للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، الدول الأربع المجاورة (إيران والعراق وسوريا وتركيا) إلى إغلاق الحدود البرية مع المنطقة الكردية العراقية مباشرة بعد الإعلان عن استفتاء الاستقلال الكردي.
وكانت إيران (ولا تزال) مصممة على حماية دورها كلاعب أجنبي رئيسي في جميع أنحاء العراق.
ولا تزال تسيطر على الجماعات الشيعية التي شغلت مناصب أمنية وحكومية في العراق منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة وأطاح بنظام الرئيس العراقي صدام حسين في 2003.
ونظرت إيران من الناحية الجيوسياسية الأوسع إلى احتمال قيام كردستان مستقلة برعب شديد، حيث يهدد هذا إستراتيجيتها المتمثلة في نشر مجال نفوذ يهيمن عليه الشيعة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، بقيادتها، لتجاوز قاعدة القوة السعودية التي كانت مدعومة من الولايات المتحدة والتي كانت القوة الرئيسية خلال العقود القليلة الماضية.
ولم تُخفف مخاوف إيران حين صرح رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني في 2017 أنه يجب تقسيم العراق في المستقبل إلى كيانات شيعية وسنية وكردية منفصلة لمنع المزيد من إراقة الدماء الطائفية.
واعتبر رئيس الوزراء العراقي آنذاك حيدر العبادي التصويت “غير دستوري”. وأضاف أن الحكومة الاتحادية ستسيطر على هذا الأساس على المعابر الحدودية الرسمية التي تربط المنطقة الكردية بالدول المجاورة وتقيد الرحلات الجوية الدولية من مطاري أربيل والسليمانية وإليهما.
إيران كانت (ولا تزال) مصممة على حماية دورها كلاعب أجنبي رئيسي في جميع أنحاء العراق
كما منح البرلمان العراقي تفويضا من العبادي لإرسال قوات إلى منطقة كركوك المتنازع عليها، ودعا “الدول المجاورة وبلدان العالم” إلى التوقف عن شراء النفط الخام مباشرة من كردستان، وقصر التعامل على حكومة بغداد.
واستند هذا إلى تصريحات سابقة للعبادي، حيت أكد أنه أمر وزارة النفط بتعبئة جميع مواردها القانونية لمنع جميع السفن في المستقبل من تفريغ جميع صادرات النفط الخام من حكومة أربيل، بعد عدة حوادث شهدت تحميل نفط إقليم كردستان على ناقلات للتصدير.
وكان هذا هو أصل أزمة بغداد وأربيل المستمرة حول مبيعات النفط من المنطقة شبه المستقلة التي أدت إلى تقدم جهود إنهاء كل استقلال لكردستان العراق وضمه إلى بقية العراق.
ويبقى أن نرى بالضبط ما سيعنيه وجود توتال إنرجيز وبي بي لكردستان العراق. فقد يقلق الأكراد المطلعون من أن رواد شركة بي بي الأنجلو-فارسية وتوتال الفرنسية كانوا أصحاب مصلحة مهيمنين (23.75 في المئة لكل منهما) في التحالف النفطي التركي الذي سيطر على التنقيب عن النفط وإنتاجه في العراق من 1925 إلى 1961.
كما اندرجت الشركتان منذ فترة طويلة ضمن مجموعة صغيرة من شركات النفط والغاز الكبرى التي كانت في طليعة الجهود الغربية لتأمين تدفقات النفط والغاز بعد غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير 2022.
وكان ذلك رغم المنافسة الهائلة مع الشركات الصينية والروسية التي كانت تركز على ربط أكبر قدر ممكن من تدفقات الطاقة الحيوية هذه على حساب الغرب، حيث تبقى إمدادات النفط والغاز العالمية لعبة صفرية. كما كان الغرب داعما طويلا لوضع كردستان العراق شبه المستقل.
وقد يتطلع لذلك إلى إعادة تأكيد التوازن بين الحكومة العراقية وحكومة إقليم كردستان بمرور الوقت، مع كون كركوك مثال نسخة جديدة من صفقة النفط مقابل مدفوعات الموازنة لسنة 2014 بنسخة أكثر فعالية.
الاتفاقيات تأتي في ظل التوترات المستمرة بين الحكومة المركزية العراقية وحكومة إقليم كردستان
وقد يخلق التاريخ التعاوني للشركات البريطانية والفرنسية تعاونا مستقبليا لمشاريعها العراقية. وقد يكون أبرزها عمل توتال على بدء المشروع المشترك لإمدادات مياه البحر أخيرا، حيث من المتوقع أن نشهد تفعيل المرحلة الأولى من المشروع المحدث في 2028.
ويشمل هذا البرنامج جمع خمسة ملايين برميل يوميا من مياه بحر الخليج في البداية، ثم نقلها بعد ذلك عبر خطوط الأنابيب إلى منشآت إنتاج النفط في محافظات البصرة وميسان وذي قار للحفاظ على الضغط في مكامن النفط الرئيسية لتحسين طول عمر حقولها وإنتاجها.
وتتطلب الحقول القائمة منذ فترة طويلة في العراق (كركوك التي بدأت الإنتاج في العشرينات، والرميلة التي انطلقت في الخمسينات، وأنتج كلاهما حوالي 80 في المئة من إنتاج النفط التراكمي في البلاد) ضخ المياه الرئيسية الجارية.
وحددت أرقام الصناعة انخفاض ضغط المكامن في كركوك بعد إنتاج حوالي 5 في المئة فقط من النفط الموجود في مكانه.
وأنتجت الرميلة في الأثناء أكثر من 25 في المئة من النفط الموجود في مكانه قبل الحاجة إلى حقن المياه (حيث يرتبط تكوينها الرئيسي بمصدر كبير للمياه الجوفية).
ويمكن أن يعزز التعاون بين بي بي وتوتال في هذا الصدد إنتاج النفط العراقي في الجنوب والشمال.
وتبرز بيانات إدارة معلومات الطاقة أن العراق يمتلك ما يقدر بنحو 145 مليار برميل من احتياطيات النفط الخام المؤكدة. ومن المحتمل جدا أن العدد الحقيقي يتجاوز هذا.
وزادت وزارة النفط العراقية في أكتوبر 2010 رقمها الرسمي الخاص بالاحتياطيات المؤكدة، وذكرت أن الموارد غير المكتشفة بلغت حوالي 215 مليار برميل.
ولم يشمل هذا الرقم النفط في إقليم كردستان العراق. وكما أوضحت وكالة الطاقة الدولية بشكل منفصل، قد يبلغ مستوى الموارد القابلة للاسترداد في نهاية المطاف في جميع أنحاء العراق (بما في ذلك إقليم كردستان) حوالي 246 مليار برميل (سوائل النفط الخام والغاز الطبيعي).
العرب