مُحق مخيم تل الزعتر من الوجود قبل أربعين عاماً، بعد حصار استمر حوالى ثلاثة شهور في صيف العام 1976. تم تجويع أهل المخيم والمسلحين الذين دافعوا عنه، وقُتل في الحصار أكثر من ثلاثة الآف إنسان، أطفالاً ونساءً ورجالاً، فلسطينيين ولبنانيين وأكراد، كانوا يسكنون المخيم وأطرافه. أحكم مسلحو الجبهة اللبنانية التي ضمت أحزاباً مسيحية مارونية، تساندهم قوات النظام السوري، وقوات من الجيش اللبناني بقيادة ميشيل عون، وبإشراف الجنرال الإسرائيلي بنيامين فؤاد أليعازر، الحصار على المخيم في بيروت الشرقية، والذي أنشئ بعد نكبة 1948، بقرار من الحكومة اللبنانية، وبدعم من هيئات دولية، ليضم اللاجئين الفلسطينيين، ثم لينضم إلى هؤلاء فقراء لبنانيون من الطائفة الشيعية، وفقراء أكراد لبنانيون، ليشكل فيما بعد، مع مناطق النبعة وجسر الباشا وحرج ثابت، ما سمي حزام البؤس حول بيروت.
كان سكان تل الزعتر من المسلمين السنة والشيعة، وبعيداً عن التحليلات السياسية القديمة والحديثة للحرب الأهلية اللبنانية في منتصف السبعينات، فإن حصاره، ومن ثم سقوطه بأيدي قوات المليشيات المسيحية وحلفائها، ومحقه من الوجود وتهجير من تبقوا أحياء من سكانه إلى المنطقة الغربية من بيروت، ومن ثم هجرة غالبيتهم إلى دول أوروبا الغربية، كل هذا كان عملية تطهير عرقي وطائفي، أعادت المنطقة إلى نقائها الطائفي المسيحي، ما قبل العام 1948 ودخول الفلسطينين والأكراد السنة واللبنانيين الشيعة.
أدى ذلك الحصار الذي لا يزال ماثلاً في الذاكرة الجمعية الفلسطينية، وأدى إلى موت عائلات كاملة جوعاً، وعطشاً بعد قطع شبكات المياه، وقنصاً في محاولات مميتة لجلب المياه من آبار مكشوفة لبنادق قناصي الجبهة اللبنانية. ولم يكن يخطر في بال أحد أنه سوف يتكرر بعد عشر سنوات في لبنان، بين عامي 1985 و1987، فيما سميّت حرب المخيمات، حيث حاصرت قوات حركة أمل الشيعية، مدعومة من قوات النظام السوري، وبعض الفصائل الفلسطينية التابعة له، مخيمات شاتيلا وبرج البراجنة في بيروت والرشيدية القريب من مدينة صور الجنوبية، في اندفاعة قاتلة، استمرت ثلاث سنوات، لوقف ما رآه النظام السوري، وحليفته حركة أمل، التمدد الفلسطيني العرفاتي في لبنان، بعد الترحيل الأول لقوات المنظمة من بيروت بعد الاجتياح الاسرائيلي عام 1982، والترحيل الثاني من شمال لبنان، على أيدي القوات السورية عام 1983 .
كان نهج التجويع والتعطيش السمة المشتركة لحصارَي تل الزعتر والمخيمات في منتصف الثمانينات، ما دفع المحاصرين إلى أكل الحشائش والحشرات والكلاب والقطط، وكان الترحيل سمة مشتركة أيضاً. في تل الزعتر، تم ترحيل من بقوا على قيد الحياة من النساء والأطفال والشيوخ، وتم تجريف المخيم بالكامل. وفي شاتيلا، تم ترحيل المقاتلين الأحياء إلى مخيمات أخرى خارج بيروت، وأحكم اللواء السادس في الجيش اللبناني، التابع لحركة أمل، مع القوات السورية، الحصار على حركة الدخول والخروج من المخيم. وفي الحصارين، كان النظام السوري بيضة القبّان التي رجّحت وقوع الكارثة الإنسانية.
يعيد الفاشيون الطائفيون، اليوم، مستفيدين من التجربة الصهيونية، وقبلها النازية، معلمي التطهير العرقي، التجربة من جديد، في أبشع عملية تطهير طائفي عرفتها المنطقة، في سورية، وتحديداً في القرى السنية المتاخمة للحدود اللبنانية مع سورية، الزبداني ومضايا مثالاً، حيث يحاصر جيش النظام السوري وقوات حزب الله الشيعي هاتين القريتين، ويقوم بتجويع السكان، ودفع المدافعين عنهما إلى الاستسلام أمام قسوة جوع الأطفال والمسنين وموتهم، والقبول بالنزوح القسري عن بيوتهم، حيث سيتم إحلال سكان جدد من الطائفة الشيعية مكانهم، بحجة حماية الحدود اللبنانية من خطر التكفيريين! اليوم، يتعرّض سكان مضايا إلى أبشع عملية إبادة، من خلال التجويع على أيدي من يدعّون مظلومية تاريخية، لوثها الحقد الطائفي ونزعة الاستقواء.
نصري حجاج
صحيفة العربي الجديد