اختصر السلاحُ، بما هو عنف كامن، العلاقة الروسية السورية، وكان هذا المبدأ كافياً لعسكرة المجتمع السوري طيلة عقود، مزجت بين ترييف المدن وعسكرة الريف الذي تحول إلى خزان بشري يرفد الجيش بعاطلين عن العمل وفقراء لم يعد لديهم ما يفعلونه سوى رفع السلاح. كان الاتحاد السوفياتي السابق المثالَ الإمبراطوري الذي يجب أن يُقتدى به بالنسبة للسلطة في سورية، مثلما يكون الأبُ المثالَ الذي على الابن أن يكونه.
«أنتم، أيّها المخرجون السينمائيّون، ستشكّلون الأجنحة التي ستطير بها المؤسسة العامة للسينما في سورية نحو فضاء خصب من الحرية والإبداع». كان هذا فحوى كلام المدير العام لمؤسسة السينما الحكومية السورية للمخرجين السوريين الذين درسوا السينما في موسكو في السبعينات. بعد مرور أسبوعين فقط على كلامه المشجّع، قال: «الكيميا تبعكون (أي المخرجين) تعلّمْتا بيومين!»، ثم انطفأ الوعد وانتهى الكلام.
استعار المدير العام كلماته من قاموس عسكري، ذلك أن الطائرة والطيار والأجنحة كانت الأقرب إليه من أية صورة أخرى، إذا ما علمنا أن المدير كان ضابطاً «مثقفاً» من ضباط الجيش السوري الذين تمرنوا في أكاديمية موسكو العسكرية، وجرى تعيينه مديراً «كيجيبيّاً» كي يقوّم ويصحح من مسار الفن السابع السوري.
تَعرَّفنا، نحن السوريين، إلى الاتحاد السوفياتي قبل أن نتعرف إلى روسيا القيصرية. نمت العلاقة من نعومة الأظفار، كما يُقال، إذ عثرنا على «فولارات» تحيط بأعناقنا النحيلة وخلفها يلمع شعار الحزب «طلائع البعث». لكن معرفتنا تلك كانت في عداد نوع من التبشير بالأبوة السوفياتية للمظلومين والمضطهدين و «نشطاء» حركات التحرر العالمية. واختصرت الأبوة شيئاً فشيئاً بقوة السلاح الفتاك، وخبرة مخابراتية عتيقة في صدّ أعداء «الاشتراكية» و «التقدّم».
كان النزاع السوري – السوري، على ضعفه وخفوته، نوعاً من الرجحان المستمر بين وعود مشرقة بالمستقبل وصدأ سرعان ما يغمر حاضرنا الذي تحول الآن إلى حنين الأبناء المقتولين إلى ما قبل أبوة الدم. عدا الأدب، كانت الحقيقة الروسية الفاعلة فعلها تُكوينا في الثكنات والمعتقلات التي صممت على نمط حديدي عسكري كالح. غزا ذلك النمط المعماري كافة المباني الحكومية والعامة، ولم يعد من فرق كبير يُذكر بين مشفى ومدرسة وكلية حربية وفندق ومعهد فني وحتى سور حديقة!
أينعت ثمار الصداقة الروسية السورية يساراً شعبوياً داخت خيالاته في موسكو من قبل أن تطأ قدماه وحل الأرض السورية. كانت العلاقة الروسية السورية ذات بينة هرمية من فوق إلى تحت، وإذا تبعد المسافة الهرمية إلى بعد فلكي، لا يعود من هم فوق يرون من هم تحت. نلنا من روسيا النزعة العسكرية، والسدود التي أغرقت أراضي الفلاحين في الريف السوري، وتدمير البنية المجتمعية المدنية، على هشاشتها، لمصلحة تغول حزبي وعسكري سرعان ما تحول إلى محض علاقات أمنية قوامها الأساسي الترهيب الداخلي، وبث الخوف من عدوان خارجي، عدوان بقي في صيغة شبحية، حتى عثرنا عليه أخيراً في البراميل التي بلغت فيها العلاقة الروسية السورية وتبادل الخبرات أوجها.
نلنا من روسيا القبضة العسكرية التي لا تعرف سوى نشر الاستبداد والحكم «بالبوط» غصباً عن رأس الجميع. لقد انحدرت العلاقة. لكن مدير مؤسسة السينما طار بنا، عن حق، أكثر من أربعة عقود، حتى وجدنا أنفسنا نسقط تحت حذاء أسود ثقيل ثقلَ ندمٍ بلا شفاء.
علي جازو
صحيفة الحياة اللندنية