منذ التوقيع على معاهدة وستفاليا عام 1684، التي أسست للدول القومية، والسياسة الدولية استمرت تتأثر بقوانين لا تلغي ديمومتها متغيرات طارئة و/ أو أحداث عابرة، ومن بينها قانون الصراع. فمخرجات هذا الصراع الذي استمر بين قوى دولية دعت، ضمنيا أو صراحة، إلى التغيير وقوى أخرى عمدت إلى مقاومته، جعلت التاريخ يقترن بدورات متجددة. ومن هنا تكررت مقولة نهاية التاريخ منذ حروب نابليون (1815-1803م ) صعودا إلى الانهيار السوفييتي ما بعد عام 1991. ولنتذكر هنا مقولة الأميركي فوكوياما حول نهاية التاريخ وتسويقه للولايات المتحدة ونظامها الاجتماعي وقيمها كقوة عظمى وحيدة ولزمان قادم طويل.
وغني عن القول إن مقولة نهاية التاريخ لا تجد سندا موضوعيا يدعمها، فالتاريخ وكما تفيد تجربته لا ينتهي وإنما يتجدد. فمخرجات تلك التغيرات والتحولات التي ميزت العالم عبر مراحل تطوره الحضاري، جعلته ينتقل زمنيا من دورة تاريخية إلى أخرى. ومنها المرحلة التي يعيشها العالم منذ منتصف القرن الماضي.
وقد اقترنت بداية هذه المرحلة الانتقالية بواقع اللامعقول خصوصا وأن متغيرات هذا الواقع بدت منفلتة وألوانها مختلطة وخطوطها متداخلة. وجراء ذلك عمدت الولايات المتحدة إلى توظيف مخرجات هذا الواقع كسبيل لتكون نهاية هذه المرحلة الانتقالية بمثابة البداية لديمومة تربعها على قمة الهرم الدولي.
الولايات المتحدة القوة الأولى
إن توظيف الولايات المتحدة الأميركية للمرحلة الانتقالية، إنما يكرر تجارب أميركية سابقة، ففي أعقاب كل من الحربين العالميتين الأولى والثانية لم تتردد عن التبشير بنظام دولي جديد بقيادتها. لذا لم يختلف الرئيس الأميركي تيودر ولسن عن الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، فكلاهما كان على الرغم من الفارق الزمني امتدادا للآخر من حيث الهدف. وقد باءت كل من هاتين المحاولتين بالفشل، فمجموعة متغيرات نبعت إما من داخل الولايات المتحدة أو من خارجها جعلت التبشير بمثل هذا النظام غير قابل للتحقق. فبينما دفع التيار الانعزالي الداخلي إلى تخلي الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عن تطلعها إلى أداء دور دولي فاعل أدى إلى تقاسم قمة الهرم الدولي خلال فترة الحرب الباردة (1947-1991) مع الاتحاد السوفييتي السابق إلى تعطيل مشروعيهما الكونيين معا الأميركية والسوفييتية . ومرد ذلك أن علاقتهما استمرت على قاعدة اللعبة الصفرية.
الاقتصاد الأميركي لم يعد قادرا على تحمل أعباء توظيف القوة العسكرية لحماية مصالح منتشرة في كافة أرجاء العالم
وقد أدى انتهاء الحرب الباردة إلى أن تتوافر الولايات المتحدة وكما قال الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون آنذاك، على فرصة سانحة غير مسبوقة في مضامينها وأبعادها، فبروزها كأقوى دولة في العالم متفاعلا مع غياب قوة دولية أخرى قادرة على تحمل تكاليف إعادة التوازن الدولي إلى حالته الطبيعية، جعلها لا تتوانى عن توظيف حالة المتاهة التي تميزت بها السياسة الدولية آنذاك بهدف استعراض قدرتها دوليا على الفعل وتوظيف نتائجها لأغراض التسويق العالمي لفكرة نظامها الدولي الجديد. ومن هنا كانت الحرب على العراق عام 1991 لأغراض أخرى غير إخراج القوات العسكرية العراقية من الكويت.
صحيح أن الولايات المتحدة الأميركية مازالت هي القوة الأكبر بين القوى الكبرى وصاحبة تأثير دولي فاعل لا يمكن إنكاره، بيد أن هذا الواقع لا يلغي أنها صارت، ومنذ زمان، تتحرك ضمن إطار معطيات بيئة داخلية متغيرة تدفع مخرجاتها إلى أن تجابه فاعليتها الخارجية، وبالتالي دورها الدولي بكوابح تحديات داخلية متعددة.
الفاعلية الداخلية
وتفيد تجربة التاريخ الدولي أن ثمة علاقة تربط بين نوعية الفاعلية الداخلية للدولة وبين نوعية فاعليتها الخارجية. وهذه العلاقة قد تكون سالبة أو موجبة. ولنتذكر مثلا بعض الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ الحديث والتي لم تكن الشمس تغرب عن أراضي بعضها، إلا أنها لم تتحول إلى قوى تحتكر أو تتقاسم النفوذ العالمي إلا بعد أن استطاعت أولا بناء فاعليتها بمعنى قدراتها الداخلية. كما أن هذه الإمبراطوريات ذاتها لم تسقط لاحقا إلا بعد أن كانت قدراتها الدولية قد تآكلت أولا.
وتنسحب هذه التجربة على الولايات المتحدة في الوقت الراهن، ففي الوقت الذي يتميز فيه واقعها الداخلي بمتغيرات تدفع إلى استمرارها كقوة عظمى، إلا أنه ينطوي أيضا على متغيرات تدفع إلى تراجع دورها السياسي الدولي في زمان لاحق.
فمن ناحية تتوافر الولايات المتحدة على قدرات ذاتية مهمة داعمة، واقتصاديا مازالت هي الدولة التي تنفرد بمساهمة تكاد ترتقي إلى نحو 25 ٪ من مجمل الناتج القومي الإجمالي العالمي. أما عسكريا فهي الدولة الأولى في العالم من حيث القدرة النووية والثالثة من حيث القدرة العسكرية التقليدية. وأما علميا، فإضافة إلى أن نسبة الإنفاق على البحث والتطوير المدني تعد عالية بالمقارنة مع دول أخرى متقدمة صناعيا، إذ تبلغ نحو 5 ٪ من مجمل الدخل القومي الأميركي، عدا نسبة الإنفاق على البحث والتطوير العسكري، فهي الدولة التي تتميز بأكبر عدد من الحاصلين على جوائز نوبل في العلوم والثقافة.
غياب قوة دولية أخرى منافسة للولايات المتحدة، جعل واشنطن لا تتوانى عن استعراض قدرتها دوليا على الفعل
وأما إعلاميا فسيطرتها على أدوات إعلام الموجة الثالثة لا تنكر، وقد سبق لبريجينسكي أن قال ” إن السيطرة الأميركية على العالم تستند على هيمنتها على الاتصالات”. وقد أصبح معروفا أن للمتغير الاقتصادي تأثيرا كبيرا في تحديد مكانة هذه الدولة أو تلك في الهرم الدولي إما ارتقاء أو تراجعا. وفي ما يتعلق بالاقتصاد الأميركي تؤكد أراء أنه بدأ يعاني من مجموع إختلالات متفاعلة. وقد سبق أن أكد رمزي زكي الخبير الاقتصادي أن المعاناة الاقتصادية الأميركية تكمن في عجز ضخم في الميزان التجاري، وعجز مستمر في الميزانية.
وأما عسكريا فرغم توافر الولايات المتحدة على قدرة عسكرية تقليدية وغير تقليدية متميزة، بيد أن هذه القدرة أضحت تجابه بمحددات مهمة، منها الخشية من تفاقم الخسائر البشرية والمادية بالآثار السياسية الداخلية الناجمة عنها، إلى جانب أن الاقتصاد الأميركي لم يعد قادرا على تحمل أعباء توظيف القوة العسكرية لحماية مصالح أميركية منتشرة في كافة أرجاء العالم لكلفتها الباهظة. وهذه المحددات بنوعيها تدعم فرضية قديمة مفادها أن التوازن بين القدرتين الاقتصادية والعسكرية عندما يتآكل فإنه ينطوي على إضعاف لفاعلية الدور الدولي لهذه الدولة.
وأما عن القدرة المعرفية فالولايات المتحدة وإن يتجه مجتمعها واقتصادها إلى أن يتأسس على المعرفة، إلا أن نظامها التعليمي لم يستطع التخلص من بعض تلك السلبيات التي سبق للتقرير الذي أصدرته لجنة من الخبراء عام 1983 أن قال “إنها تهدد الشعب الأميركي بفقدان مكانته عالميا. وتؤثر مجمل الإخلالات الداخلية في القدرة الأميركية على الفعل، كما تختلف صورتها في الخارج عن صورتها في الداخل. ففي الخارج يرى كثيرون أنها الدولة التي تتمركز فيها مدخلات القدرة على الفعل الدولي المؤثر، أما في داخلها، فالدعوة إلى العودة إلى سياسة العزلة النسبية تعبر عن الإدراك الجماهيري أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على تحمل التكاليف الباهظة لسياسة تتبنى الانغماس الشامل في التفاعلات العالمية. وقد قال بول كنيدي المؤرخ الأميركي إن الولايات المتحدة أضحت ” أمة في طور التآكل”.
ومع ذلك نفترض أن دولة ذات مشروع كوني كالولايات المتحدة ستعمل جاهدة من أجل ديمومة تربعها على قمة الهرم الدولي كقوة عظمى وحيدة شأنها في ذلك شأن كافة الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ، وأنها ستستمر في تبني آليات مختلفة المضامين بغرض الحد من تأثير معطيات بيئتها الداخلية المتغيرة. هذا فضلا عن الاستفادة من واقع انتفاء تلك القوة و/أو القوى الدولية القادرة والراغبة في أداء دور دولي يتماثل والدور الذي كان الاتحاد السوفييتي السابق يؤديه.
د. مازن الرمضاني
صحيفة العرب اللندنية