قال وزير الخارجية الإيراني، قبل أيام، إن بلاده «سعت دائماً إلى السلام والتفاهم مع جيرانها، من دون العمل على إحداث توتّر»، وطالب السعودية بالكفّ عن «عرقلة جهود بلاده» من أجل «السلام»، مشيراً إلى معارضتها الاتفاق النووي. وهذا منهج إيراني أصبح معروفاً ومكشوفاً، بتركيزه الجدل على ما تقوله طهران وكأنه أصبح واقعاً وحقيقة، لمجرّد أنها تقوله، وحرفه الأنظار عما تفعله وكأنه ليس واقعاً ولا حقيقة، بل كما لو أنه لا ينطوي على سفك للدماء وتخريب للبلدان وإفساد للتعايش في المجتمعات بفعل تصديرها لـ «الثورة». ولعل التفاوض مع الدول الكبرى، على قنبلة نووية تبيّن أنها غير موجودة، كان نموذجاً لهذا النهج، إذ وافق المفاوضون على التخادع استعجالاً لمشاريع استثمارية كانت الأزمة النووية قد عطّلتها.
لم يحدّد محمد جواد ظريف أي بادرة كانت إيران فيها «رسول سلام»، ولم يسمِّ أي واقعة لم تكن إيران فيها محرّكاً لأدوات التوتير. فهو لا يزال يحكي بالمنطق الذي خطّه في مقالة «الجار قبل الدار» وبدا فيها غير معنيٍّ بأي شيء حصل قبل انتخاب رئيسه حسن روحاني، داعياً الجيران الخليجيين والعرب إلى حوار بشأن مستقبلٍ ما للعلاقات معهم. كان واضحاً أنه يعرض حواراً على أساس الاعتراف لإيران بما حققته من «مكاسب» داخل العديد من البلدان العربية، وفي المقابل يمكن البحث مع العرب في محاصصة على ما سلبته إيران منهم. غير أن الوقائع كانت تجافي هذا الوزير، فهو يطرح نفسه وحكومته كمحاورين مسالمين فيما يواصل «الحرس الثوري» مغامراته الثأرية الحاقدة في مختلف أنحاء ما يعتبره «إمبراطورية فارسية» منبعثة من قاع التاريخ ورماده.
لم تقدّم طهران في أي مرّة ردّاً جدّياً ذا مصداقية على سلسلة طويلة من بيانات خليجية رسمية تتهمها فيها بـ «التدخّل» في شؤون الدول الخليجية والعربية. حتى حكومة روحاني لم تنفِ ولم تؤكّد، فإذا كانت تعلن بأن ثمة سياستين لإيران، وبأن التدخلات أنشطة لا شأن للحكومة بها، فعلامَ تتعب نفسها بدعوة الجيران إلى الحوار، ومَن يخاطب ظريف عندما يشكو من إحباط جهود سلام تبذلها حكومته: السعودية التي لم تعتدِ على إيران أم الذين أقدموا على إحراق سفارتها؟. كان ولا يزال من شأن ظريف أن يخبر العرب والعالم أين كانت جهود السلام تلك، ومتى وكيف، أهي في سوريا بالمشاركة في تجويع سكان الزبداني ومضايا، وقبلهما حمص، ثم مفاوضتهم على مغادرة بيوت سكنوها منذ وجدوا، أم في انتهاكات ضد السكان في ديالى وتكريت وضد النازحين من الأنبار، أم في توحّش «الحوثيين» على من يُفترض أنهم مواطنوهم في عموم اليمن، أو في إفلات «حزب الله» لاحتلال بيروت، أم في تهريب الأسلحة إلى البحرين والكويت، أم في تعميق الانقسام بين الفلسطينيين؟ وهل ظهرت بوادر السلام هذه في سياسات نوري المالكي وبشار الأسد وعبدالملك الحوثي وحسن نصرالله وحركة «حماس»؟
قال الوزير الإيراني إن السعودية تعرقل منذ عامين ونصف العام (منذ انتخاب روحاني) جهود الدبلوماسية الإيرانية، منوّهاً خصوصاً بأنها «عارضت» الاتفاق النووي. لكن زميله الأميركي جون كيري كذّبه حين طمأنه بعد ساعات بأن تنفيذ هذا الاتفاق يبدأ خلال أيام. أي أن المسألة لا تتعلّق بـ «القنبلة النووية» بل بالقنابل «البشرية» التي صنّعتها إيران لإشعال حرب مذهبية لا طائل منها في المنطقة. فلا السعودية ولا أي دولة عربية أخرى مضطرة لقبول اتفاق نووي دفعت الدول الكبرى ثمنه من استقرار العرب وأمنهم، والأهم أنها ليست مخوّلة ولا تسوّل لنفسها التخادع مع إيران والدخول معها في مساومات على مصائر دول وشعوب ومجتمعات عربية ألحقت بها «الثورة» الإيرانية المصَدَّرة أفظع الإساءات.
تكاد إيران تصوّر نفسها ضحية إقليميه لمجرد أن السعودية وحلفاءها رفعوا في وجهها البطاقة الحمراء لوقف تدخلها المتمادي في شؤونهم الداخلية. بل تبدو إيران مستفَزَّة لأن صوتاً دوّى في المنطقة ليقول لها إن الصمت على تخريبها قد ولّى. لا شك أنها مرحلة جديدة في الصراع، ومهما استخدمت إيران نفوذها لدى الولايات المتحدة وروسيا فإنها لن تتمكّن من إقناع أحد بأهليتها لأي دور قيادي في المنطقة ما لم يكن حريق السفارة السعودية حريقاً للعقلية السياسية البالية التي قادت إيران طوال العقود الأربعة الماضية.
عبدالوهاب بدرخان
صحيفة الاتحاد الإماراتية