إذا كان المتحدّث مجنونا فعلى القارئ (السامع) أن يكون أكثر جنونا حتى يصدّق ما جاء في المقال الذي نشره وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف، مؤخّرا، في صحيفة نيويورك تايمز، والذي يكشف عن حالة مرضية إيرانية في قلب الحقائق.
مقال الوزير كان ليلقى بعض العقلاء ليصدّقوه، لو أبدى بعضا من الموضوعية، لكن يبدو أن الرغبة الشديدة في استمالة الغرب وحالة الخوف من خسارة ما حققته إيران من تقدم في المنطقة، أفقدتا كبير دبلوماسييها نضجه الدبلوماسي.
تحدّث ظريف عن حقوق الإنسان “المنعدمة في السعودية”، والتي لا تحكم إيران، التي أعدمت في سنة 2015 أكثر من 700 شخص، إلا بمقتضاها، وانتقد تدخّل الرياض في دول المنطقة، فيما يصنّف تدخّل بلاده في اليمن ولبنان والعراق على أنه “دفاع عن الحق والشعوب المظلومة”.
استهجن “الوزير الكاتب” الطائفية، في بيان خطب الود، الذي لم تكن لتنشره صحيفة النيويورك تايمز الأميركية، لو لم يكن يخدم مشاريعها ومصالح البيت الأبيض التي تقوم على سياسة فرّق تسدّ، واستثمرت في الصراع التاريخي بين الفرس والعرب وأحيت فتنا دفينة ونجحت في تحويلها إلى صراع مذهبي بين سنّة وشيعة.
سياسات طهران الأخيرة عموما، ومن بينها “المقال الظريف” والبروباغندا الإعلامية التي صاحبت عملية الإفراج عن البحّارة الأميركيين الذين تم احتجازهم في المياه الإقليمية الإيرانية قبل يومين، تدلّ على ضعف لا على قوّة، كما يدّعي جواد ظريف؛ فإيران، تعي جيّدا أن الخناق يضيق عليها شيئا فشيئا، وأن العرب حتى وإن اتفقوا على ألا يتفقوا، فسيتفقون على شيء واحد، وهو الاصطفاف لصدّها.
وتجلى ذلك واضحا في اجتماع وزراء الخارجية العرب الطارئ، الذي انعقد الأحد الماضي في مقر الجامعة العربية بالقاهرة. فقد اعتاد العالم على بيانات الحكومات العربية التي لا تجدي نفعا، وقرارات الجامعة العربية، غير نافذة المفعول؛ لكن رغم بعض الاختلافات في الرؤى والحلول لقضايا المنطقة وأزماتها، يبدو أن الصورة تغيّرت.
البيان الذي خرج به اجتماع القاهرة انتهى بتوافق عربي على تحجيم النفوذ الإيراني وقطع أوصاله في المنطقة. وهذا الإجماع النادر، يمكن اعتباره من بين الدوافع التي تفسّر بعضا مما جاء في مقال وزير الخارجية الإيرانية؛ والذي من بين أسبابه أيضا أن أيام الدلال الأميركي لإيران باتت معدودة، وستنتهي برحيل باراك أوباما من البيت الأبيض، وهو الذي كان كلّ همّه أن يصنّفه التاريخ لا كأول رئيس من أصول أفريقية للولايات المتحدة الأميركية، بل كأول رئيس يحقّق “الصلح” مع إيران الإسلامية ويغيّر مسار بعض أكثر العلاقات الشائكة في تاريخ السياسة الخارجية الأميركية.
نصّ ظريف يؤكّد أن الطريق مازال طويلا، بل ويكاد يصبح مستحيلا، أمام تتويج جهود سنوات طويلة من العمل السري لإيران، التي تنكبّ جاهدة على الاستفادة قدر الإمكان، من الفترة المتبقية لأوباما في البيت الأبيض، فبرحيله ستعود المياه إلى مجاريها، بل وإلى وضع أسوأ من قبل. من هنا، لم يعد هناك من حلّ سوى استجداء رضا الغرب والتطبيع مع الأميركيين، تارة بالحديث عن الحرب على الإرهاب، و”الرغبة في الدخول في حوار وتشجيع الاستقرار ومواجهة التطرف”، وتارة أخرى بالتذكير بالتضحيات الجسيمة التي قدّمتها من خلال الاتفاق النووي؛ ومرة بالحديث عن حقوق الإنسان وسياسة حسن الجوار.
ما عمل الإيرانيون على بنائه في صمت لسنوات طويلة، بدأت صروحه تنهار، وهم الذين توهّموا أنهم أكبر المستفيدين من الربيع العربي، الذي يحسب له في ميزان حسناته القليلة، أنه كشف حقيقة إيران لدى بعض المتوهّمين من النخبة العربية، الذين أغرتهم بحديثها عن القومية والدفاع عن القضية الفلسطينية والتاريخ المشترك، وصدّقوا عداءها للامبريالية الأميركية وشعارات الشيطان الأكبر.
الربيع العربي كشف عن سياسة إيرانية أشدّ خطرا من دعم حزب الله ونشر الخلايا النائمة والأذرع المسلحة في مناطق كثيرة من العالم الإسلامي من الشرق الأوسط إلى أدغال أفريقيا وقلب آسيا؛ وهي سياسة دسّ السم في العسل، التي بدأتها إيران منذ سنوات عبر نشر المراكز الثقافية ودعم التبادل الطلابي والفني والتعاون السياحي، وفق مشروع متكامل يحارب على أكثر من جبهة ويضرب بمختلف الأسلحة، ووصل الأمر إلى درجة فضائية إيرانية ناطقة بلسان عربي، في سابقة هي الأولى في تاريخ الفرس.
لا شكّ في أن التاريخ لا تصنعه إلّا المؤامرات، ولأنه، وكما قال الوزير ظريف، “الحكمة لا يمكنها أن تستمر من جانب واحد”، بات لزاما على الجانب العربي أن يطوّر من سياسته تجاه كل من يضمر له العداء جهرا أو سرّا، والحرب اليوم لم تعد فقط محادثات دبلوماسية أو إطلاق صواريخ وإبرام صفقات سلاح ضخمة، بل هي قبل ذلك حرب إعلامية ونفسية وتوعوية وثقافية.. وبمقاييس ردود الفعل، ستكون هذه الضربة الموجّهة لإيران، أقوى وأنفذ مفعولا.
حذام خريف
صحيفة العرب اللندنية