امتنع وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل عن الموافقة على الوثيقة العربية التي صدرت الأسبوع الماضي بعد اجتماع وزراء الخارجية العرب، والتي تدين الاعتداء على سفارة المملكة العربية السعودية في طهران؛ وهو اعتداء يعرف الوزير أنه مجرَّم في القانون الدولي، بحجة أن الوثيقة تدين حزب الله بأنه جماعة إرهابية. حجة الوزير أن حزب الله هو حزب «مقاوم». الكلمة المفتاح هنا هي «مقاوم»، كيف يمكن فهم الكلمة؟ فإن كان الوزير يعني بـ«مقاوم» أن حزب الله «يقاوم» إطعام السوريين في بلدة مضايا حتى أصبح بعضهم جِلدًا على عظم بشهادة الأمم المتحدة، فهو مُحق، أما إذا كان يقصد أن حزب الله «مقاوم» لأنه انتقم من قتل أحد قيادييه مؤخرًا، سمير القنطار، بوضع عبوة ناسفة تحت أحد الجرارات الزراعية في منطقة شبه مهجورة على الحدود، فهو مُحق أيضًا، وإن كان يقصد أن حزب الله «يقاوم» قيام الدولة اللبنانية فهو مُحق ثالثًا! طبيعة مفهوم «المقاومة» هنا هي ما تحتاج إلى نقاش مع السيد باسيل وزير خارجية لبنان.
لن أستطرد؛ فالشواهد كثيرة. ينقل لنا السيد أحمد أبو الغيط في كتابه «شهادتي»، وهو من خيرة الدبلوماسيين المصريين، وكان وزيرًا للخارجية بين عامي 2004 و2011، أنه زار مباشرة بتكليف من الرئيس الأسبق حسني مبارك، دمشق في 12 يوليو (تموز) 2006 بعد اندلاع الحرب الإسرائيلية مع لبنان، لاستطلاع الأسباب التي دعت إلى تلك الحرب، تبرّأ السيد بشار الأسد من أنه خلف الإيعاز لحزب الله بالحرب، ثم أسرَّ السيد وليد المعلم للسيد أبو الغيط أن إيران هي المحركة لأسباب خاصة بها! وذلك يُبين بما لا يرقى إلى الشك أن الحزب الذي يدّعي السيد الوزير بأنه «مقاوم»، هو ليس أكثر من «بندقية للإيجار»، يصمت الآن أمام إسرائيل، وينطق بالحُمم تجاه الشعب السوري، الذي بالمناسبة هو من أجار عددًا كبيرًا من حاضنته التي تدفقت عام 2006 من الجنوب اللبناني إلى المناطق التي حوصر أهلها إلى حد الموت جوعًا! لعل الوزير أيضًا يتذكر أن الأمين العام قال على رؤوس الأشهاد وقتها: «لو كُنت أعرف ما سوف يحل من دمار على الشعب اللبناني جراء تلك الحرب لما بدأتها»، ثم بعد أسابيع تحدث – ولا يزال – عن أن تلك الحرب «نصر إلهي»! ربما لم يتطور التفكير لدى القيادة في الحزب أن الناس لم يعودوا كما كانوا، ففي عصر التواصل الاجتماعي أصبح معظمهم لديه من العقل أن يفرق بوضوح بين ما يقال وما يتم فعله، بين «المقاوم» و«بندقية الإيجار»! وحتى أُبيّن للسيد الوزير بعض المصادر التي تتحدث عن «محور المقاومة» عليه أن يتحدث مع سفيره في لندن ليجلب إليه عدد مجلة «لندن ريفيو أوف بوكس» الذي صدر أوائل هذا الشهر (يناير/ كانون الثاني 2016) ويطلب منه أن يُلخّص له مقالاً للصحافي الأميركي سيمون هيرش، المعروف بتحقيقاته، خاصة في كشفه لمذبحة ميلاي في فيتنام، وأيضًا مراكز التعذيب الأميركية في أبو غريب. وحتى يصل ملخّص المقال إلى مكتب الوزير المدافع عن «المقاومة»، ألخص له بإيجاز تلك الدراسة المطولة التي هي بعنوان «من العسكر إلى العسكر». يقول فيها الكاتب بناءً على مصادر يذكر بعضها، وهي إما منشورة، وإما من خلال ثقات في مواقع عالية تحدث معهم، ما يلي: «إنه في أوائل صيف عام 2013 وضعت وكالة الاستخبارات العسكرية الأميركية على مكتب الرئيس أوباما مذكرة سرية للغاية تم تجميع معلوماتها من مصادر متعددة، مفادها أن الحديث عن ترحيل الأسد (المقاوم) من حكم سوريا سوف يجلب الفوضى، وأن المؤهل لحكم سوريا بعده هو القوى (الجهادية المتشددة)، كما حدث في ليبيا. في ذلك الوقت كانت وكالة الاستخبارات الأميركية (تتآمر) على تهريب سلاح من ليبيا إلى سوريا من خلال الأتراك! والأتراك يسلّمون الأسلحة لمتشددين! إلا أن تلك العمليات كانت مكلفة! فأقنعت هيئة الأركان الإدارة الأميركية بالاستعاضة عن التهريب بشراء سلاح من الترسانة التركية، فهي لا تحتاج إلى أن تعبر البحر»، ذلك السلاح التركي كما يقول هيرش «كان قديمًا وغير صالح، وحتى إذا أذن الأتراك بمروره إلى الجماعات المتشددة، فلم يكن ذا نفع، في نفس الوقت فإن سياستنا ضد الأسد لم تكن ناجحة ولها نتائج سلبية، فاقتنعت هيئة الأركان بأن الأسد يجب ألا يُغير بالمتشددين، ولكن الهيئة لا تستطيع أن تناقض سياسة الرئيس المعلنة، فإن ذلك له نتائج صفرية، لذلك في آخر صيف 2013 قررت العسكرية الأميركية أن تأخذ خطًا معاكسًا (دون تغيير في السياسة)! من خلال توفير معلومات مخابراتية حول الأوضاع الداخلية في سوريا إلى جيوش أخرى، تستطيع بدورها تمرير تلك المعلومات لجيش الأسد، من هذه الجيوش القوات المسلحة الألمانية، وجيش الدفاع الإسرائيلي!! من أجل أن تستخدم هذه المعلومات ضد (العدو المشترك)؛ جبهة النصرة، و(داعش)».
ألمانيا وروسيا وإسرائيل – كما يقول هيرش في المقال – كانت على علاقة بالجيش السوري، وتستطيع هذه الدول أن تفرض بعض الضغوط على خيارات الأسد! كل تلك الدول لها أسبابها في التعاون مع الأسد. ألمانيا تتخوف مما يمكن أن يحدث لمواطنيها المسلمين، وهم نحو ستة ملايين في حال وصول المتشددين إلى حكم سوريا، إسرائيل قلقة على سلامة حدودها! روسيا لها علاقة طويلة مع النظام ومتخوفة على مستقبل قاعدتها البحرية في طرطوس! يقول المصدر الذي تحدث معه هيرش: «لم نكن نريد الافتراق عن سياسة الرئيس المعلنة! ولكن من خلال مشاركة في المعلومات الاستخبارية من (العسكر إلى العسكر) يمكن أن نؤثر في الصراع، لأنه من الواضح أن الأسد كان يحتاج إلى (معلومات تكتيكية ونصائح عملية). أوباما لم يكن يعرف، ولكن أوباما (لا يعرف كل ما تقوم به هيئة الأركان في كل الظروف، وذلك صحيح بالنسبة لكل الرؤساء!)»، هكذا يقرر الكاتب.. «عندما بدأت المعلومات الاستخبارية الأميركية تصل إلى روسيا وألمانيا وإسرائيل، تدفقت إلى العسكريين السوريين، في المقابل قدمت سوريا معلومات قيّمة حول قدرتها العسكرية والمعلومات التي تملكها في بعض الملفات المهمة، بل سمح الأسد بأن تنقل الاستخبارات السورية ما تعرفه عن (الإخوان المسلمين) وبعض محاولات الإرهاب في بلدان عربية! استطعنا إحباط بعضها!»، (تفاصيل أكثر في المقال المذكور).
لم تكن إذن سعادة الوزير العلاقات السورية – الأميركية – الإسرائيلية كلها مقاومة أو «الشيطانين الأكبر والأصغر»، كما يبيع تلك الشعارات الحزب المقاوم ومن ورائه إيران، بل كان لها وجه آخر أسهبت الدراسة المذكورة في توصيف تفاصيلها، مثل تسليم بعض عائلة صدام حسين التي لجأت إلى سوريا إلى السلطات الأميركية في العراق، إلى عرض واضح بالعودة إلى المفاوضات حول الجولان مع إسرائيل! إلى أربعة شروط قدمت للأسد، في مقابل تلك المعلومات، هي تحجيم حزب الله (وهو أمر أصبحنا نرى نتائجه في الجرار الزراعي)، والاستعداد للتفاوض مع إسرائيل، وقبول خبراء عسكريين روس وغيرهم (وهذا قد تم)، والموافقة على انتخابات حرة ونزيهة تدخلها جميع الأطراف السورية! تلك هي بعض «المقاومة»، وإذا كان ثمة بقايا لدى البعض بالاعتقاد بقصة «المقاومة» فعليهم أن يحترموا عقول الناس ويكفوا عن تلك المعزوفة النشاز!
وحتى يصل إليك السيد الوزير تقرير سفيرك في لندن حول الدراسة المنشورة بكل تفاصيلها، قدمت لك بعضًا من معلوماتها، لعلك تنظر في أن «البندقية المؤجرة» ليست فقط محجوزة للحزب المقاوم، فقد أجّر من تعرفهم بندقيته قبل ذلك حتى لصدام حسين، إن كنت تذكر!
آخر الكلام:
تغطس الدولة اللبنانية في مستنقع الفشل، ويمثل وزراؤها في الاجتماعات الخارجية مصالح أحزابهم الضيقة، وليس مصلحة لبنان، على حساب المصالح العليا للشعب اللبناني، تلك أهم علامات «الدولة الفاشلة»!
محمد الرميحي
صحيفة الشرق الأوسط