تشعر إيران الآن بقدر كبير من الثقة بالنفس بعد نجاحها في إنهاء عقوبات اقتصادية دولية فرضت عليها لفترة طويلة وتسببت ليس فقط في خسائر مادية هائلة، تراكمت آثارها السلبية بمرور الوقت، وإنما أيضاً في خسائر معنوية كبيرة، بحكم تكريسها لعزلة سياسية وديبلوماسية قلَّصت من هامش الحركة المتاح أمام إيران إقليمياً ودولياً. في المقابل، يجتاح العالم العربي شعور عميق بالقلق من أن يؤدي إنهاء العقوبات الاقتصادية إلى تزويد إيران بعناصر قوة إضافية تمكّنها من توسيع دائرة نفوذها خارج حدودها وبالتالي من التغلغل بدرجة أكبر في الشؤون الداخلية للدول العربية، وخاصة في شؤون الدول التي توجد فيها تجمعات شيعية كبيرة.
شعور إيران بثقة متزايدة بالنفس قد يدفعها إلى الاعتقاد بأنها تسير على الطريق الصحيح وبأن النهج الذي تتبناه داخلياً وخارجياً هو الذي مكَّنها من الصمود في وجه التحديات ومن الوصول إلى مصاف القوى الإقليمية الكبرى، وهو ما قد يفضي بها إلى مزيد من التشدد والتعنت. وشعور الدول العربية بالقلق المتزايد قد يدفعها إلى الاعتقاد بأن سياسات التهاون أو المهادنة مع إيران هي التي شجعتها على التمادي في مخططاتها التوسعية وأغرتها بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، ومن ثم فليس هناك من بديل آخر للمحافظة على وجود هذه الدول سوى تبني سياسات أكثر صلابة وصرامة في مواجهة إيران. ومن الطبيعي أن تبدو العلاقات الإيرانية العربية، في سياق كهذا، على وشك الدخول في منعطف تصعيدي خطير، قد يفضي إلى الاحتكاك وربما التصادم المباشر، ما يتطلب من الطرفين وقفة جادة ومتأنية لتحليل ما جرى ولاستخلاص العبر والدروس المستفادة من تجارب الماضي، وتجنب أن يؤدي العناد المتبادل الراهن إلى انزلاق الطرفين معاً إلى حيث لا يريدان، وبالتالي إلى الوصول لنقطة اللاعودة وإلى إحساس بالندم بعد فوات الأوان.
ربما يكون لدى إيران ما يبرر هذا الشعور الطاغي بالثقة المتزايدة بالنفس، فلا جدال في أن السياسات التي انتهجتها منذ الثورة على نظام الشاه عكست إرادة سياسية قوية مكَّنتها من الصمود في وجه معظم التحديات، كما عكست في الوقت نفسه قدراً لا يستهان به من المرونة والذكاء مكَّنا إيران من إدارة معظم المعارك التي خاضتها بطريقة جنَّبتها الوقوع في الهاوية وساعدتها في نهاية المطاف على قطف الثمار بعد طول عناء. وما زال جيلي يتذكر حتى الآن ما قاله الإمام الخميني عام 1987 عن «كأس السم» الذي اضطر لتجرعه حين قرر قبول قرار مجلس الأمن لوقف الحرب مع العراق، وبالتالي يمكن أن ندرك الآن أن الجرعة التي قرر الخميني ابتلاعها في ذلك الوقت كانت بمثابة ترياق لإيران وأصابت صدام حسين بما يكفي من الغرور ما أدى الى قتله بعد حين، أي أنها كانت بمثابة الدواء للنظام الإيراني والسم للنظام العراقي. ومع ذلك، على إيران أن تتذكر أن الثمار التي تجنيها الآن ليست كلها نتاج ما زرعته بجهدها وعرقها ولكنها كانت في كثير من جوانبها جوائز حصدتها نتيجة أخطاء، وصلت أحياناً إلى حد الخطايا، ارتكبها خصومها من العرب ومن غير العرب على السواء. لذا، فإن مراجعة أمينة لما جرى في الحقب الثلاث أو الأربع السابقة كفيلة بإقناعها بأن الوقت قد حان لإحداث تغيير جوهري في سياساتها القديمة في الاتجاه الذي يؤدي إلى تحقيق استقرار المنطقة لا إشعال المزيد من الحروب فيها.
وربما يكون لدى العديد من الدول العربية أيضاً، وخاصة السعودية، ما يبرر هذا الشعور الدفين والعميق بالقلق المتزايد من السياسات الإيرانية. فالنفوذ الإيراني ما زال يواصل تمدده وانتشاره في المنطقة منذ الثورة الخمينية، وتبرز تجلياته بوضوح في لبنان، من خلال التحالف مع «حزب الله»، وفي سورية، من خلال التحالف مع نظام بشار الأسد، وفي اليمن، من خلال التحالف مع جماعة الحوثيين ومع الجماعات المؤيدة للرئيس السابق علي عبدالله صالح. كما تبرز تجلياته بدرجة أقل وضوحاً في العديد من الدول العربية الأخرى. ومن ثم أصبح يشكل مصدر تهديد مباشر، من وجهة نظر النظم الحاكمة في هذه الدول على الأقل، يصل إلى حد التهديد الوجودي لها، ما يعني أن مقاومته لم تعد واجبة فقط وإنما ضرورة حتمية. ومع ذلك، تفرض اعتبارات الأمانة والموضوعية على تلك النظم التي لا تكف عن كيل الاتهامات لإيران، أن تدرك في الوقت نفسه أن ما منيت به من انتكاسات ومن تدهور في مكانتها الإقليمية والدولية نجم من أخطاء حسابات وقعت فيها، أو من سوء تحالفات أبرمتها، أو من حماقات أقدمت عليها، أكثر مما نجم من عوامل موضوعية تتعلق بتفوق عناصر القوة الشاملة لدى إيران أو بمهارة نظامها في إدارة تلك العناصر.
فالخوف من عواقب تصدير الثورة الإيرانية لم يكن مبرراً حتمياً لإقدام صدام على شن الحرب على إيران بدعم من دول مجلس التعاون الخليجي، نظراً لتوافر وسائل أخرى للتعامل مع خطر تصدير الثورة الإيرانية بطريقة أكثر فاعلية وأقل كلفة. والخلاف مع الكويت حول ديون العراق أو حول سعر النفط أو حول استغلال الآبار الحدودية لم يكن مبرراً حتمياً لإقدام صدام على جريمة غزو واحتلال الكويت، نظراً لتوافر وسائل أخرى للتعامل مع هذه المشاكل بطريقة أكثر فاعلية وأقل كلفة. وخلاف الدول العربية مع ياسر عرفات ولاحقاً مع حركة «حماس»، كل لأسبابٍ ودوافع مختلفة، لم يكن مبرراً حتمياً لتخلي الدول العربية عن القضية الفلسطينية، أو لإبرام بعضها معاهدات سلام منفصلة أو لتطبيع العلاقات جزئياً أو كلياً مع إسرائيل، وبالتالي لترك الساحة لإيران وحلفائها في المنطقة للظهور بمظهر الداعم للقضية والمدافع الوحيد عن المقاومة الفلسطينية. فمما لا شك فيه أنه توافرت في ذلك الوقت وسائل أخرى لإدارة الخلافات مع منظمة التحرير الفلسطينية أو مع «حماس» بطريقة لا تلحق الضرر بالمصالح القومية العربية العليا أو تصب في النهاية في مصلحة إسرائيل.
مشكلة العالم العربي في التعامل مع إيران جزء من مشكلة أوسع تتعلق بتعامل هذا العالم المنقسم على نفسه مع الأخطار كافة التي تحيط به من كل جانب. فمن الواضح لكل ذي بصيرة، أن العالم العربي لا يتعامل مع مصدر تهديد خارجي واحد وإنما مع مصادر تهديد متعددة. لذا يكمن جوهر المشكلة التي يواجهها العالم العربي في أن كل دولة عربية على حدة تتعامل مع مصادر التهديد المختلفة باعتبارها مصادر منفصلة، على رغم أنها مترابطة تماماً، ووفقاً لإدراك نخبتها الحاكمة لها، وليس وفقاً لإدراك جماعي منبثق من رؤية قومية شاملة لمصادر تهديد أمن الأمة العربية كلاً ولأولويات المواجهة. ومن الواضح أيضاً أنه لا توجد حتى الآن رؤية عربية موحدة لماهية الخطر الذي قد تشكل إيران مصدراً له. فهو بالنسبة إلى بعض العرب خطر أيديولوجي أو ديني ناجم من نظام أصولي شيعي توسعي تجسده ولاية الفقيه، وبالتالي لا يمكن التصدي له إلا بإقامة تكتل أصولي سني في مواجهته، وهو طرح يثير مشكلة كبرى، لأنه يصب مباشرة في مصلحة أكثر المنظمات الإرهابية تطرفاً. أما بالنسبة إلى البعض الآخر، فالخطر الإيراني هو أولاً وقبل كل شيء خطر سياسي نابع من طموحات إمبراطورية فارسية هي بطبيعتها توسعية. وبالتالي لا يمكن التصدي له إلا بإقامة تكتل قومي عربي يتبنى رؤية موحدة لمجمل الأخطار التي تهدد أمن الأمة العربية كلاً. ومشكلة هذا الطرح أنه يبدو نداءً صادراً من طرف «يؤذن في مالطة»، نظراً إلى غياب قوى قومية حقيقية يمكن أن تجسده واقعاً حياً على الأرض. لذا، فالأرجح أن يستمر الوضع الراهن على ما هو عليه لبعض الوقت، وأن يؤدي إلى مزيد من تمدد النفوذ الإيراني ومزيد من الانكسارات العربية.
جوهر المشكلة التي يواجهها العالم العربي لا يكمن في قوة إيران أو في حتمية المواجهة معها، ولكن في ضعف العرب، بما يثير لعاب كل دول الجوار القوية، وعلى رأسها إسرائيل وتركيا، وليس لعاب إيران وحدها. فمتى يركز العرب جهدهم على علاج أوجه الضعف البنيوي فيهم بدلاً من البحث عن مواجهة مع إيران لا أراها حتمية أبداً؟
د.حسن نافعة
صحيفة الحياة اللندنية