مركز جنيف للعدالة: ديالى تواجه التهجير والتطهير

مركز جنيف للعدالة: ديالى تواجه التهجير والتطهير

امرأة

تعرّف الاتفاقيات القانونية الدولية التطهير العرقي بأنّه عملية طرد بقوة لسكان غير مرغوب فيهم من إقليم معين على خلفية تمييز ديني أو عرقي أو سياسي أو استراتيجي أو لاعتبارات أيدولوجية أو مزيج من الخلفيات المذكورة. ويتم تنفيذ ذلك باستخدام القوة المسلحة وسياسة التخويف أو من خلال الاعتقالات والاغتيالات،

والدفع نحو الترحيل القسري لطمس الخصوصية الثقافية واللغوية والإثنية لذلك المكان، عبر القضاء عليها نهائيا أو تذويبها في المحيط الإثني الذي يُراد له أن يسود. والهدف النهائي من ذلك هو السيطرة على مناطق تقطنها المجموعة التي يجري تهجيرها.

وكل ما تقدّم، هو ما يحصل تحديدا وبانتظام، في محافظة ديالى العراقية منذ سنوات، وفق تقرير صدر مؤخّرا عن مركز جنيف الدولي للعدالة، جاء بعنوان “جرائم التطهير العرقي والطائفي في ديالى”، يرصد بالأرقام والصور والشهادات الموثّقة عملية التغيير الديمغرافي التي تتعرّض لها مناطق وقرى مختلفة من المحافظة، ضمن سياسة ممنهجة لتهجير قسري على أسس طائفية تستهدف عمدا المكوّن العربي السنّي، وهو ما يقع تحت وصف جريمة التطهير العرقي، حسب القانون الجنائي الدولي.

والمعروف أن محافظة ديالى، شرقي العراق، تسيطر عليها ميليشيات بدر والعصائب وسرايا السلام وحزب الله، منذ أن تركها تنظيم الدولة الإسلامية العام الماضي. وقد استثمرت هذه الميليشيات الموقف المتأزم لتحكم قبضتها على المحافظة، ومنعت عددا كبيرا من المواطنين الذين اضطروا في وقت سابق للنزوح من العودة إلى ديارهم. ومعظم الذين حُرموا من العودة هم من سكّان المقدادية وحوض سنسل، بقراه الـ33، والذين استباحت الميليشيات والأجهزة الأمنيّة قراهم وبيوتهم وأراضيهم.

التركيبة السكانية في ديالى ظلّت مقلقة للدوائر الإيرانية فغالبية السكان عشائر عربية يصعب استمالتها على أساس طائفي

ويقوم بتنفيذ عمليات التهجير، وفق تقرير مركز جنيف، الميليشيات، فرادى أو تحت مسمّى الحشد الشعبي، وذلك عبر تهديد المواطنين وترويعهم ودفعهم للمغادرة تاركين وراءهم بيوتهم وما فيها من ممتلكات ومقتنيات. وبعد ذلك تأتي الميليشيات فتقوم بعمليات سرقة منظّمة لهذه المساكن وقد تحرقها أو تهدّمها فتتحول إلى

أماكن غير قابلة للسكن ولا يصبح بمقدور أصحابها العودة إليها، أو تتركها لمن تُخطط لاحقا لإسكانه فيها، حسب المعلومات التي تترشح من المنطقة والتي يتابعها المركز عن كثب.

وتتهم الشهادات، المرفقة بالتقرير، عناصر برلمانية وسياسية بالتواطؤ لتنفيذ هذا المخطط الخطير الذي يستهدف في المحصلّة النهائيّة إجراء تغييرات ديمغرافية على طبيعة التركيبة السكانية القائمة والمتآلفة منذ أمد بعيد في هذه المحافظة، مما يهدّد الأمن والسلم المدنيين ويفتت هذا النسيج الاجتماعي.

ويأخذ التهجير في ديالى أشكالا شتّى من ضمنها الاغتيال المنّظم أو الإعدام الصوري خارج القضاء، وتشير شهادات أعضاء في البرلمان العراقي إلى إعدامات بالجملة، مبينة أن معدل القتل قد بلغ في المقدادية لوحدها من سبع إلى عشر حالات يوميا، وأنها تُرفع إلى البرلمان والجهات المسؤولة لكن دون جدوى. كما تعتبر عمليات الخطف، أسلوبا اعتادت عليه الميليشيات لترويع الأهالي. ومن الأساليب الأخرى للتهجير، التي يرصدها مركز جنيف نقلا عن متحدّثين عراقيين، قيام الحكومة بتوزيع الأراضي المملوكة للدولة على عدد كبير من الميليشيات.

الأكراد ضالعون أيضا في التطهير
ديالى (العراق) – لا تقتصر سياسة التهجير والتطهير العراقي على الميليشيات الشيعية المحسوبة على إيران، فحسب، حيث ينقل موقع “نقاش”، المعني برصد الوضع الداخلي العراقي، الوجه الآخر لعملية التغيير الديمغرافي التي تعيشها المناطق التابعة لمحافظة ديالى، من ذلك مدينة جلولاء، التابعة لقضاة خانقين، 70 كلم شمال شرق بعقوبة مركز محافظة ديالى، والتي مرّ عام كامل على استعادتها من تنظيم الدولة الإسلامية (23 من نوفمبر الماضي)، إلا أنه منذ ذلك الحين وإلى الآن لا توجد في المدينة سوى قوات البيشمركة والقوات الأمنية الكردية إذ لم يسمح لأي من سكان المدينة بالعودة إلى منازلهم وبدء حياتهم الطبيعية من جديد.

ويقول الشيخ يعقوب اللهيبي، مدير ناحية جلولاء إن أكثر من 80 ألفا من سكان المدينة نزحوا بعد احتلالها من قبل مسلحي داعش ولا يزالون يقيمون في المخيمات القريبة من أقضية كلار وخانقين وكفري، وهم الآن يعيشون في وضع إنساني سيء.

بدورها، تقول النازحة أم باسم، وهي امرأة كشفت تعابير وجهها عن طبيعة الحياة القاسية التي تعيشها في مخيم في ناحية كوكس التابعة لقضاء كفري (شمال جلولاء) “ننتظر العودة إلى منازلنا منذ أكثر من عام ولكنهم يؤخروننا يوما بعد آخر”.

وقال جاسم محمد، وزير الهجرة والمهجرين العراقي، إن “المشكلة الرئيسية هي في من يحق لهم العودة إلى جلولاء لأن بعضا من عرب المدينة حملوا السلاح ضد الأكراد”.

ويقول بعض السكان العرب الذين تركوا منازلهم خوفا من البيشمركة إن القوات الكردية بدأت تهدم منازلهم لمنعهم من العودة نهائيا؛ فيما تشير الأطراف الكردية صراحة إلى أنها وضعت خطا أحمر أمام هؤلاء العرب ولن تسمح بعودتهم إلى المنطقة مرة أخرى. وقال محمود سنكاوي، قائد قوات البيشمركة في محور كرمسير، مؤكّدا ذلك، “لن نسمح بعودة العرب الوافدين أو الذين تلطخت أيديهم بدماء الأكراد إلى جلولاء أبدا”.

وقام الجانب الكردي بتغيير اسم جلولاء باسم كولالة، مدّعيا أنه الاسم الحقيقي للمدينة، وقد تمّ تغييره أثناء عمليات التعريب.

لماذا ديالى

تعدّ محافظة ديالى واحدة من أهم المحافظات العراقية من حيث موقعها الاستراتيجي القريب جدا من العاصمة بغداد. وتمتاز في نفس الوقت بحدودها المشتركة مع إيران لمسافة طويلة تمتد إلى 240 كيلومترا. يضاف إلى ذلك، أن المسافة بين ديالى وبغداد تشكل أقصر المسافات بين حدود إيران والعاصمة بغداد، إذ يُمكن قطع المسافة من أقرب مدينة إيرانية للحدود، وهي قصر شيرين، إلى العاصمة بغداد في مدة لا تتجاوز الساعة الواحدة بالسيارة.

لكن التركيبة السكانية في المحافظة ظلّت مقلقة للدوائر الإيرانية وتلك المتعاونة معها في بغداد، فغالبية السكّان هم عشائر عربية يصعب استمالتها على أساس طائفي لإجراء شرخ في نسيجها الاجتماعي كونها عشائر متداخلة في ما بينها منذ القدم. من هنا لجأت أجهزة السلطة، وخاصة من خلال قادة الأحزاب والميليشيات الموالية لإيران، إلى سياسة التهجير القسري للعرب السنّة مستثمرة التوتر الطائفي الذي خلقته السلطة الحاكمة وقوات الاحتلال الأميركي في البلاد بعد عام 2006، فشهدت ديالى أكبر موجات للتهجير بين عامي 2006-2007.

ووصلت عمليات التهجير ذروتها سنة 2013، ثم تواصلت بوتيرة مختلفة في العامين اللاحقين 2014 و2015 ضمن ذريعة ملاحقة تنظيم داعش. وتواصلت عمليات الهدم المنظّم للبنى التحتية للمحافظة. ثم قامت الميليشيات بخطوة أخرى حيث تمتّ السيطرة الكاملة على مجلس المحافظة في الثاني من أبريل 2015، فيما وصف بأنه انقلاب على المحافظ عامر المجمعي، الذي تم اختياره ضمن توافقات المحاصصة الطائفية في وقت سابق ليكون من العرب السنّة وعينت مكانه مثنى التميمي محافظا لديالى، وهو من قادة ميليشيا بدر.

وينقل المركز عن نائب القائمة العراقيّة عن محافظة ديالى رعد الدهلكي قوله إن عدد العوائل المهجرة من المقدادية وصل لأكثر من 400 عائلة من خمس قرى متجاورة. وفي سياق متصل، أكدت النائبة عن محافظة ديالى، ناهدة الدايني، على أن التهجير القسري شمل 60 بالمئة من مناطق المحافظة، وأن عمليات التهجير هذه تستهدف مكون بعينه كونه الأكبر في ديالى، فيما اتهم نائب رئيس مجلس الوزراء السابق، صالح المطلك، علنا الأجهزة الأمنية في المحافظة بأنها تقف وراء عمليات التهجير.

ويقف جانب كبير من أبناء العراق، بمختلف طوائفهم، ضد هذه السياسات وينقل مركز جنيف في هذا السياق، عن مصادر وصفها بالمطلعة في ديالى، أن قيس الخزعلي، قائد ميليشيا عصائب أهل الحق، اجتمع بوجهاء بعض العشائر الكبيرة في المحافظة، وحدثهم عن ضرورة المساهمة في خطة تطهير المنطقة بالكامل وأنه يريد مساعدتهم في إخراج السنة من المنطقة كلها.

لكن، هذا الأمر لم يلاق ترحيب قادة العشائر العراقية الشيعية التي ردّت عليه برفض الخطة، مشيرين إلى أنهم يعيشون سوية مع العشائر السنية، في هذه القرى والأرياف منذ المئات من السنين ولديهم وشائج مصاهرة مع بعضهم البعض، كما لديهم شراكة في الأعمال والبساتين، وغير ذلك من أمور الحياة اليومية التي لا يمكن فض عُراها بهذه البساطة.

ويضيف التقرير في سياق سرده لما جرى في هذا الاجتماع أن الخزعلي ردّ على الرافضين بقوله “إنها أوامر السيد الخامنئي بجعل محافظة ديالى شيعية بحتة لتأمين حدود إيران من جهة المحافظة مرورا بسامراء إلى الرمادي وربط هذه الخارطة مع سوريا لفتح ممرات آمنة لإيران في المنطقة وعلى الجميع أن يساعدنا في ذلك”.

☚ تم في عام 2014 فتح طريق خاص يربط إيران بديالى ومن ثم إلى صلاح الدين ليرتبط من هنالك بالطرق الريفيّة والصحراوية المتجهة نحو الحدود السورية العراقية المفتوحة على المئات من الكيلومترات طولا. وتعتبره الجهات الإيرانية وتلك المتحالفة معها من داخل العراق الممرّ البديل لإيران باتجاه سورّيا. ومنذ بدايات عام 2015، تزايدت عمليات التهجير المصحوبة بعمليات قتل وتهديد يومي للسكان لدفعهم للخروج من هذه المنطقة.

ويؤكد الناشط العراقي فاضل المدني ما جاء في التقرير، مشيرا في تصريحات لـ”العرب”، إلى أن ما يحدث في محافظة ديالى من تهجير وقتل للمدنيين وتفجير للمساجد على أيدي الميليشيات هو محاولة لتغيير الهوية المذهبية لهذه المحافظة من قبل هذه الجماعات تمهيدا لإعلان الإقليم الشيعي ثم الانفصال الذي يحلم به كثير من الأطراف السياسية. ويؤكد المدني أن غض بصر الحكومة عن هذه الجرائم يعيد للأذهان تسهيل دخول تنظيم داعش للعراق من قبل سياسيين ونواب في البرلمان وشيوخ عشائر باعتباره حاميا لسنة العراق كما يعتقدون.

ويحذّر الناشط العراقي من أن استمرار هذه الممارسات القمعية بحق المدنيين العزل يسهم في خلق شعور لدى المواطن السني المعتدل في تلك المحافظات أن داعش هو الحامي الوحيد لمصالحه وحياته، مشيرا إلى أن استهتار حكومة المالكي وسياساته القائمة على اضطهاد السنة دفع جزءا من مخالفيه في المحافظات الغربية إلى مبايعة تنظيم الدولة الإسلامية. ويؤكد أن المسألة هذه المرة أخطر وأعمق لأن محافظة ديالى تعتبر الحزام الشرقي لبغداد وأي خطر يهدد المحافظة هو تهديد للعاصمة.

الحكومة في قفص الاتهام

يقف المركز في صف العراقيين الذين يحمّلون الحكومة العراقية مسؤولية ما يجري من تشظ في المجتمع العراقي وسياسات تقسيمية وقمعية، سواء بطريقة مباشرة، عبر الموالين لإيران، أو بطريقة غير مباشرة من خلال الصمت على ما يجري وعدم اتخاذ أي اجراء ردعي وحاسم ضد هذه الانتهاكات.

ورغم لجوء الأهالي المتكرر إلى الوحدات الأمنية وقوات الحكومة والمسؤولين المحلييّن إلا أن لا أحد من هذه الأجهزة تدخل بالطريقة الناجعة، بل بات واضحا، وفق مركز جنيف للعدالة، التعاون بين بعضها البعض على تنفيذ خطة التهجير المنظمة هذه.

رعد الدهلكي: سيتم تدويل قضية ديالى بعدما عجزت الحكومة عن الحفاظ على هذه المحافظة

ومن هنا يتوجه الاتهام إلى كل هذه الجهات بما تضمه من قادة وآمرين ومنفذين، مشيرا إلى تركز السلطات الإدارية والعسكرية والأمنية بيد مجموعة متنفذة تجمعها صلات قرابة ومن عشائر بعينها. وهذا عامل مضاف لزيادة مسؤولية هؤلاء وزيادة مسؤولية مرؤوسيهم عما سيحصل من تداعيات خطيرة.

ويخلص التقرير إلى أن السلطات العراقيّة تحاول، وهو ما دأبت عليه في مثل هذه الحالات، التقليل من سعة وشمولية ومنهجية هذه الأعمال بالقول إنها من جهات خارجة على القانون، أو استخدام المبرر الجاهز “الإرهاب” أو إنه سيجري محاسبتها من الأجهزة الأمنية. هذه السلطات تعلم علم اليقين أن هذه الأعمال هي عمليات منظمة ومستمرة تنفذها أجهزتها المرتبطة بها، والمدعومة من قبلها، تحت اسم بــ”الحشد الشعبي” وتقوم بها أيضا في أماكن عدّة من العراق.

صحيفة العرب اللندنية