مع بدء تنفيذ الاتفاق النووي في الجانب المتعلّق برفع العقوبات المفروضة على إيران، عاود بعض الإعلام الغربي الحديث عن عقبات ومشاكل في المرحلة المقبلة، إذ أن الملف يُغلق من دون جلاء مسألتين: الأنشطة النووية السرّية الموازية للبرنامج المعلن الذي جرى التفاوض على خفض مستوى خطره، والأنشطة السابقة التي يُشتبه بأن أهدافها كانت عسكرية وتعذّر تحديدها لأن طهران أخفت معالمها في مجمع “بارشين”، عدا ذلك، بل الأهم منه، أن أي ملمح تغيير لم يظهر في سياسات إيران، لا في التشدد الداخلي إذ لم يشعر الإيرانيون بأي انفراج بل على العكس غدا الاتفاق النووي عنصر توتير بين “الإصلاحيين” و”المحافظين”، ولا في العدوانية الإقليمية التي طبعت ممارسات إيران طوال الخمسة عشر عاماً الماضية، وشكّلت سوريا واليمن والعراق ولبنان والبحرين أبرز عناوينها السوداء.
جاء “اليوم الكبير” لتنفيذ الاتفاق في موعد لا يمكن أن يكون أكثر ملاءمة للرئيس حسن روحاني، قبل أكثر من شهر على الانتخابات التشريعية في السادس والعشرين من فبراير المقبل. فالاعتقاد السائد أن البدء برفع العقوبات إنجاز عظيم، ولا بدّ أن يكون حاسماً في هذا الاقتراع، غير أن انتصاراً عارماً وناجزاً للإصلاحيين، تحديداً بسبب قوة الدفع التي يوفّرها الاتفاق النووي، سيعني في نظر المرشد علي خامنئي أنه فقد السيطرة على اللعبة الداخلية، وأن “الشيطان الأكبر” الأميركي يتحكّم بها، ولو بشكل غير مباشر. هنا، أيضاً، يحذّر الإعلام الغربي من الركون إلى “ابتسامات روحاني” التي قد تكون مبرمجة لإخفاء حقيقة تفكيره. فإيران لم تفتح أي نافذة للإيحاء بأن لديها سياسات جديدة لما بعد العقوبات، أو أنها مهتمّة فعلاً بنظرة العالم إليها طالما أن الغرب يتهافت عليها بحثاً عن مصالح، ولا يبدو مهموماً باستياءات العرب منها.
تميّز تنفيذ إيران لالتزاماتها في الاتفاق بالسرعة والسلاسة والحرص على أن تكون تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرّية واضحة في إظهار امتثالها، وفقاً للمواعيد المتوقّعة، بما في ذلك تعطيل مفاعل “آراك” للمياه الثقيلة، والاستعداد المسبق لبيع جزء من الكمّية المتوافّرة من تلك المياه إلى الولايات المتحدة. الأكثر سرعةً وسلاسة كان احتجاز “الحرس الثوري” زورقين أميركيين مع بحّارتهما في المياه الإقليمية الإيرانية ثم إطلاقهم في أقل من أربع وعشرين ساعة. وقد عُزي ذلك إلى فضائل الدبلوماسية الهادئة وخط (كيري – ظريف) المفتوح دائماً. وهذا لم يغيّب عن الأذهان حقيقة أن البحارة كانوا في كنف الضيافة الفظّة لـ “الحرس” عندما استفاض باراك أوباما في مديح الاتفاق النووي، عبر خطابه السنوي عن “حال الاتحاد”، مكرّراً أنه تفادى حرباً، ومتجاهلاً أن حروباً ومآسي كثيرة ارتكبت باسم هذا “الاتفاق” وعلى الطريق إليه.
قيل إن “الحرس” تعامل مع خطأ البحّارة باجتياز المياه الإقليمية، وكأنه “هدية” جاءته مجاناً للإجهاز على “الاتفاق”، فقبل أيام من ذلك كان تحرّش عمداً بسفينة أميركية بغية افتعال حادث، وفي الحالين كان القرار للمرشد الذي لم يرَ مصلحةً في تأزيم يؤخّر تنفيذ الاتفاق، فلتُرفع العقوبات وبعدئذ لكل حادث حديث. ولم تكن هاتان الواقعتان منفردتين، ففي أكتوبر الماضي أجرى “الحرس” تجربة لصاروخ “عماد” الباليستي، الذي يمكن أن يحمَّل رؤوساً نووية، بحسب ما أعلنت طهران، واعتبر ذلك خرقاً لـ “الاتفاق”، ومع أن واشنطن أحالت الأمر على الأمم المتحدة إلا أنها والأمم المتحدة لم تردّا بحزم على هذا الانتهاك، ما وفّر لطهران نموذجاً لتعامل مائع حيال عربداتها المستقبلية.
السؤال الذي طرح طوال الأزمة النووية والمفاوضات التي يُفترض أنها أنهتها: ما الذي جعل خصوم إيران وحلفاءها يتضامنون على ضرورة منعها من الحصول على سلاح نووي؟ أهو الخوف من عدوانيتها، أهو الالتقاء على ضمان أمن إسرائيل، أم أنها المصالح في نهاية المطاف؟ ثمة ثلاث دول على الأقل، من أصل الـ 5+1، روسيا والصين وألمانيا، استفادت من فترة العقوبات، والثلاث الأخرى تتأهب لاغتنام فرص ما بعد العقوبات. كان اللافت طوال الأزمة أن أياً من هذه الدول لم تهتم بأمن المنطقة العربية، ولم تعترض على ما يجري على مسرح العدوانية الإيرانية مقابل الحصول على الاتفاق النووي، بل إنها مستعدة جميعاً لحماية “مكاسب” إيران ومقايضة السكوت على ارتكاباتها بعقود استثمارية.
عبدالوهاب بدرخان
صحيفة الاتحاد