بعد عشر سنين على ولادة تحالف «حزب الله» و «التيار الوطني الحر» الذي تزعّمه ميشال عون، وُلِد تحالف الجنرال وزعيم حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، عبر ترشيح الأخير خصمه السابق، لرئاسة الجمهورية. وإذا كان ما سُمِّيَ «الانقلاب المسيحي» يعزّز فرضيات قلق مشترك على مصير المسيحيين في لبنان، بدا جسراً للمصالحة بين الجنرال وجعجع، في زمن تغيير الخرائط إقليمياً، فالأكيد أن الحلف الجديد في «اليوم التاريخي» للرجلين، لن يعني تلقائياً أن زعيم «القوات» بات شريكاً لـ «حزب الله» في نهجه وقراراته.
لذلك، قد يكون أول التساؤلات المشروعة محوره ليس مبررات قبول عون خطوة زعيم «القوات»، بل ما وراء إقدام جعجع على ترشيح خصم لطالما اعتبره يسهّل خضوع لبنان للإرادة الإيرانية، عبر تأمين غطاء مسيحي للقرارات الكبرى التي اتخذها «حزب الله»، وغالباً ما كانت من اختصاص الدولة.
صحيح أن جعجع سيبدو في موقع الشريك الأول للعهد الجديد، إذا انتُخِب عون رئيساً للبنان، ومَن قدّم تضحيةً لإنقاذ موقع الرئاسة من الشغور المديد، لكنّ قراره لم يأتِ على الأرجح لمجرد إحراج الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري الذي كان باغت الجميع بترشيح سليمان فرنجية. في المقابل، لا تكفي ضربة زعيم «القوات» لضمان وصول الجنرال الى قصر الرئاسة، فيما الجميع يدرك أن تصويت كتلة تيار المستقبل سيكون حاسماً. بالتالي، لم يخطئ الجنرال حين استخدم كلمة الإجماع الذي يطلبه، ليصبحَ المؤتمن الأول على الدستور، الضامن لسيادة لبنان التي أُهدِرَت طويلاً.
وبعيداً من الغوص في مسلسل الأزمات التي عصفت بالبلد منذ تفاهم «حزب الله» وعون، مروراً بتداعيات «الربيع العربي»، وتدخُّل الحزب في الحرب السورية، الثابت أن ذاك التفاهم كان بين العوامل التي كرّست الانقسام بين القوى المسيحية، حتى كان الشغور الرئاسي الذي اكتوى به لبنان، فيما أبوابه ونوافذه مشرّعة على زلازل إقليمية، ارتداداتها معروفة.
وإذا كان من الحكمة التريُّث في الحماسة للتفاهم الجديد بين الخصمين اللدودين لعله ينهي الانقسام المسيحي، فالحال أن قراءةً لتوجُّهات جعجع قد تُفضي الى اختياره واحداً من خصمين، أو الأقوى في الشارع المسيحي، ما دام هو اقتنع بأن حظوظه في كرسي الرئاسة باتت شبه معدومة. ولكن، مثلما أحرج زعيم «القوات» حليفه السابق في قوى 14 آذار، سعد الحريري، بمفاجأة ترشيح عون، فالأكيد أنه أحرج الجميع أيضاً، خصوصاً «حزب الله» الذي أصرّ طويلاً على أن الجنرال هو مرشّحه الوحيد، مكافأة له على إخلاصه للتفاهم الأول، وعدم طعنه الحزب في الظهر، رغم كل الأزمات على مدى عشر سنين.
فهل في حسابات جعجع اختبار إرادة الحزب، في استدراج الجميع إلى حسم ملف الرئاسة؟… أم تفكيك تحالف الحزب وعون، إذا تخلى الأول عن ترشيح الجنرال؟ ألم يأخذ زعيم «القوات» في الاعتبار تداعيات أي اصطفاف مسيحي يقابله آخر إسلامي في الزمن الصعب الذي لا يعرف فيه أحد بعد، مع أي سورية سيتعايش لبنان؟ سورية دويلات أم دويلة علوية و «إمارات» إسلامية؟
المدافعون عن «مبادرة» جعجع، يربطون ترشيحه عون بإلزامه معنوياً بمبادئ عشرة تشكّل برنامج عمل. والمهم وفق هذه الرؤية هو التمسُّك باتفاق الطائف، والمناصفة، من دون حاجة الى مؤتمر تأسيسي جديد يصوغ نظاماً سياسياً مختلفاً للبنان، قوامه مثلاً المثالثة التي طرح ورقتها مرات «حزب الله». والرؤية ذاتها تُبرِّر الإصرار على المناصفة بالاستعداد لمرحلة ما بعد انزلاق الحزب إلى الحرب السورية، وهو قلق يتضاعف بقلق «صامت» لديه من نهاية مرحلة «الإدارة» الإيرانية للحرب في سورية، وطلب النظام في دمشق تدخُّلاً عسكرياً روسياً. فموسكو التي باتت صاحبة القرار الأول في «تكييف» الصراع هناك، لن تُطلق يد «حزب الله» كيفما شاء، وعلاقتها به ليست كعلاقة الحزب مع الوليّ الفقيه.
بين المدافعين عن ترشيح جعجع الجنرال عون، مَنْ يرى احتمالين يسابقان انكفاءً محتملاً لـ «حزب الله» من سورية: إما أن يمتنع الحزب عن تأييد عون في اللحظة الأخيرة، وفي هذه الحال يتكرّس تحالف «القوات» و «التيار الوطني» قوة مسيحية أولى قادرة على رفض طروحات المؤتمر التأسيسي للجمهورية الحائرة، وإما أن يسهّل الحزب عبور الجنرال الى القصر. في الاحتمال الثاني، هل ينفّذ عون وعوده ليصبح حَكَماً؟
القراءة ذاتها تفترض انكفاءً قريباً لـ «حزب الله» من سورية لم تَبدُ بعد مؤشراته، وفي كل الأحوال لبنان ليس أولوية إقليمية ودولية، فيما براكين الحروب على حالها، من العراق إلى اليمن وسورية وليبيا، وإيران الحاضن الأول للحزب تتلمّس طريقها ما بعد الاتفاق النووي، وسحب الروس البساط من تحت وصايتها على سورية.
زهير قصيباتي
صحيفة الحياة اللندنية