ما حصل في مدينة المقدادية بمحافظة ديالى لم يكن حدثا استثنائيا في العراق، إنه جزء من مسلسل معروف ابتدأ منذ عام 2003 حيث جرى استهداف طائفي ممنهج حين دخل الإيرانيون العراق بقوة منذ ذلك التاريخ. مسلسل عنوانه الميليشيات التي نمت وترعرعت برعاية الأحزاب الطائفية، كانت الرغبتان الأميركية والإيرانية تتطلبان قيام قطبين طائفيين مسلحين لكي تكون المعادلة مقبولة على مستوى الرأي العام الداخلي والخارجي، جرت محاولات لتكوين كيانات سياسية سنية مقابل الشيعية، توفرت لها فرصة الدخول في الانتخابات عام 2005 ضمن الحجم المقرر لها، إلى جانب الأكراد الذين حددت لهم النسبة الطائفية أيضا.
بعض القوى السنية التي شكلت تنظيمات مسلحة مقاومة للاحتلال الأميركي رفضت ذلك المشروع السياسي فاتهمت “بالإرهاب” رغم أنها قاومت الاحتلال، وأقصيت، أو أقصت نفسها، وابتدأ التمحور ما بين داخلين ورافضين للعملية السياسية، وجدت المجموعات التي لا تمتلك إرثاً وطنياً نضالياً من العرب السنة ملاذها بإغراءات المال والجاه لأنهم جياع، رغم أن الأميركان رفضوا أن يكون للعرب السنة موقعا متميزا في النظام الجديد منذ بداية عهد الاحتلال بل قبيله خلال مؤتمر لندن للمعارضة العراقية، وقد قالها لي السفير زلماي خليل زادة صراحة في اجتماعي به قبل انعقاد المؤتمر بأيام “تدخلون أنتم العرب السنة المؤتمر بأقليتكم 25 بالمئة فقط” رفضنا العرض وقلت له “نحن لا نمثل طائفة.. نحن معارضون ونحلم ببلد ديمقراطي لكل العراقيين بلا طائفية” فرد “ستندمون لأننا ذاهبون للعراق وهذا هو مشروعنا”.
كانت اللعبة واضحة ومرتبة من قبل الأميركان المحتلين وبرضى إيران؛ تحطيم وإذلال العرب السنة، ثم سحق من يعارض بعد قتل وإقصاء كل من انتمى “للبعث” وسموه “البعث الصدامي” وسموا ذلك بالدستور الذي تحمس له الحزب الإسلامي من العرب السنة. واشتغلت معركة السحق والإبادة وقبول الطائعين بعد أن منحوهم فرصة تشكيلات انتخابية مثل جبهة التوافق ثم جبهة الحوار وكتل ومجموعات أخرى وقعت في ضياع الهوية والغموض ففيها كان المتطرفون والمعتدلون من السنة وابتلعهم الحزب الإسلامي الذي وافق على لعبة سحق العرب السنة.
وبذات الوقت خدع هؤلاء حكومات الخليج وجنوا منها الأموال تحت شعار “دعم العرب السنة في العراق” وهو شعار مموه وكاذب لأن الأموال كانت تذهب إلى حساباتهم الشخصية. وكانت إيران تعلم تلك اللعبة وتباركها، فيما تم سحق المناهضين الحقيقيين لتسيّد الطائفية السياسية، وهم المطالبون بحكم عادل لا طائفي يجمع السنة والشيعة والأكراد وباقي الطوائف.
كانت اللعبة كبيرة وتطلبت تنظيف الساحة، واستغرقت وقتا منذ عام 2006 حيث العملية الإرهابية بتهديم مرقدي الإمامين علي الهادي وحسن العسكري. الكل كانوا راغبين بذلك المشهد الأسطوري الذي لم يشهده العراق من قبل، كانت الصدمة مطلوبة لكي يسهل قبول القادم.
وهكذا أصبحت الحرب الطائفية مستمرة حتى وإن خمدت نيرانها لأشهر، الإجهاز على جميع المعارضين لسلطة المحاصصة الطائفية وهي في حقيقتها ليست محاصصة، وإنما قبول مكسوري الجناح فاقدي المهابة من العرب السنة وفق لعبة تزييف الانتخابات.
حصل تمويه عام بأن المتصدرين للعملية السياسية من السنة هم ممثلوهم الحقيقيون، وهي كذبة كبيرة، وصفقة فضحها دخول داعش للعراق في يونيو 2014 الذي كشف الجميع رغم تحصنه خلف فعلته الحقيرة باحتلال أرض العراق وفق مؤامرة انكشفت أطرافها.
كان المطلوب أن تعلن القوى الطائفية الميليشياوية عن عودتها بقوة، من خلال عمليات حرق البيوت في تكريت وقتل شبابها غير الداعشيين. كانت صفحة اللعبة تحمل مخادعة كبيرة، تضع المتبقين من شباب العرب السنة بين مطرقتيْ الانضمام إلى داعش أو محرقة الموت الطائفي، وآخر المشهد الإجرامي في مدينة المقدادية بعد الفلوجة والرمادي وتكريت وبيجي والحويجة، في عملية تغيير ديموغرافي عبر جرائم القتل والتهجير لم يشهدها التاريخ المعاصر تجاوزت جرائم البوسنة، وقبلها عمليات تهجير الكيان الإسرائيلي للعرب من أراضيهم في فلسطين، حيث اكتفى العنصريون الصهاينة بتهجير العرب وليس قتلهم، أما الميليشيات في العراق فلم تكتف بحرق المساجد وتدمير المساكن، وإنما أوغلت في قتل المدنيين تحت مرأى ومسمع من انتخبتهم ديالى ليصبح من بينهم رئيس البرلمان المتفرج على مشهد الجريمة الطائفية، وليتحول ومعه جميع النواب والوزراء من العرب السنة شهود زور على الجرائم، ولم يحرك الرأي العام ضميره الميت مع أنها من أبشع جرائم الحرب، لأن دول المصالح الكبرى منشغلة بترتيب أوضاع سوريا المعقدة التي اشتبكت حول ملفها الإرادات الكبرى، أمام نمو القوة السياسية السعودية والخليجية بعد أن وجدت نفسها في حالة الدفاع عن النفس ومواجهة الخطر المماثل لما حصل في العراق بعد 2003، يعمل الأميركان على تمريرها لتحصل المعركة الطائفية داخل السعودية، فكسر العمود “الإسلامي” ورمز الكعبة ضروري في الأيام المقبلة.
ومن هنا فإن السعودية لا تدافع عن سنة العراق مثلما يروجه الإعلام الإيراني والطائفي في العراق، إنها استشعرت الخطر على أبوابها الداخلية من الخاصرة اليمنية، وورطوها في تلك المعركة الاستنزافية. تحاول الميليشيات اليوم في العراق رمي جريمة حرق الرمادي وتحويلها إلى ركام بعد إفراغها من ساكنيها على الأميركان، وكأن الأميركان لم يكونوا شركاء في جريمة إبادة البشر وحرق الأرض منذ عام 2003 موهمين الرأي العام العراقي، بأن دور الأميركان مختلف، وليس صفقة تدمير واحدة.
تعتقد طهران أنها ستحصل على محيطها الحيوي لأمنها القومي في ديالى عن طريق التغيير الكامل لديموغرافية المدينة متنامية الأطراف والتي تشكل صورة التعايش الطائفي مثلما هي بغداد، بعد أن خسرت الأنبار بسبب طمع الأميركان بهذه المنطقة الحيوية.
وبعد ذلك كله تظهر سخرية المشهد بما يقوم به التشكيل، الذي يطلق على نفسه اتحاد القوى العراقية، من لعبة التهديد بالخروج من العملية السياسية، إزاء جريمة المقدادية، وهي لعبة مكررة وسقيمة وباهتة لدرجة الغثيان. وهم غير قادرين على اتخاذ موقف يعبر عن أهل النكبة، لخشيتهم فقدان المغانم والمكاسب الشخصية، تحت تبرير “ما هو البديل”. أهل النكبة حسموا أمر من يمثلهم في الأيام المقبلة، وهم أولئك الذين لم يتوسخوا بالرذيلة والفساد وبقوا على مبدئيتهم خارج العملية السياسية.
لقد أفرزت المرحلة الحالية من هم قادرون على تحمل المسؤولية عبر مشروع سياسي يتبلور الآن، وتجمع عليه القوى والشخصيات الوطنية من بين العرب السنة الليبراليين، إلى جانب القوى الوطنية الكردية والتركمانية، وهو مشروع ينطلق من المحنة الراهنة للأنبار وديالى وصلاح الدين ونينوى التي تنتظر وضعا أكثر مأساوية، إضافة إلى معاناة مدن العراق الوسطى والجنوبية. ورغم أهمية تبني مشروع تعبوي لمساندة المظلومين والمهجرين والمحروقة منازلهم، إلا أن المشروع الأهم هو مشروع الإنقاذ الوطني لتعديل جذري للعملية السياسية، وإزاحة جميع المتورطين بالكارثة العراقية.
د. نزار السامرائي
صحيفة العرب اللندنية