ما عاد موضوع الثروة البترولية العربية، موضوعاً عادياً حتى يكتفى بمسه دورياً، ثمُ يطويه النسيان ليعاد طرحه بعد حين.
هذا ما عودتنا عليه مع الأسف دول البترول العربية إبان فترات الهبوط الحاد في أسعار البترول. دعنا نذكر بمناسبتي هبوط سعر البرميل في عام 1986 من 42 دولاراً إلى أقل من عشرة دولارات، وبهبوطه من 147 دولاراً في شهر يونيو/حزيران 2008 إلى أقل من أربعين دولاراً بنهاية ذلك العام، أي خلال خمسة شهور فقط. والآن، ما أشبه الليلة بالبارحة، نعيش مناسبة هبوط جديد من تسعين دولاراً إلى أقل من ثلاثين دولاراً، خلال بضعة شهور أيضاً.
لقد ابتلعت من الممارسات كل فوائض أيام يسر الأسعار العالية، حتى إذا ما هبطت الأسعار بدأ التفكير في ممارسة التقشف المؤقت الذي في أغلبه يطال المواطن العادي، أو يربك حياة الذين شُجعوا، من خلال نشر ثقافة استهلاكية عولمية نهمة، على العيش في الديون المتراكمة، من أجل بهرجات بذخية معيشية مظهرية تؤدي إلى الأمراض والجنون والتنازل عن كل الحقوق الإنسانية والمواطنة الحقة.
هذا ما حصل، سواء كنا نقصد حصوله أو لا نقصد. وأمام ذلك المشهد المفجع بحّ صوت المفكرين والمثقفين والنشطاء السياسيين وهم يحذرون، ويطالبون بانتهاج سياسات مختلفة للتعامل مع ثروات البترول والغاز الناضبة المؤقتة.
ولنترك جانباً الفجوة المعروفة بين المثقفين والأنظمة السياسية في بلاد العرب، والمبنية على الشكوك وسوء الظن والاختلاف في المنطلقات الفكرية والإيديولوجية. أما كان بالإمكان التساؤل عن الأسرار وراء النمو الاقتصادي والمعرفي الهائل الذي حققته العديد من الدول الآسيوية، المنتمية لعالمنا الثالث، في مدد زمنية قصيرة تقل عن مدة تواجد الثروة البترولية والغازية عندنا؟ تلك الأسرار كانت معروفة ومتداولة. لنذكّر بأهم تلك العناصر التي كانت وراء تلك النجاحات الآسيوية:
لقد كان المدخل الرئيسي، هو معدل الادخار الوطني العالي من حصيلة الناتج الإجمالي المحلي لاستعماله في استثمارات اقتصادية متنوعة، وعلى رأسها بناء أشكال من الصناعات الوطنية الكفؤة الحديثة القادرة على إنتاج بضاعة قادرة على المنافسة والانتشار في الأسواق المحلية والخارجية. وقد وصلت نسبة الادخار في بعض تلك الدول إلى ثلاثين في المئة من حصيلة الناتج المحلي. ألم يكن باستطاعتنا نحن أيضاً اقتطاع ثلث عوائد الثروة البترولية لبناء اقتصاد إنتاجي وصناعي مماثل؟
وكان المدخل الرئيسي الثاني، هو تهيئة تعليمية ومهنية جيدة لقوى عمل محلية قادرة على القيام بمتطلبات تلك النهضة الصناعية بكفاءة وإخلاص ومرونة، أفما كان ممكناً وبوجود فوائض مالية هائلة، أن نقوم بذلك؟
وكان المدخل الرئيسي الثالث، هو إنشاء مراكز دراسات وبحوث، لتطوير وتحسين القدرات العلمية والتكنولوجية والتطويرية للمنشآت الصناعية والخدمية لتصبح في مستوى عالمي متميَّز قادر على منافسة الآخرين. أفما كان ذلك ممكناً عندنا؟
نعم، لقد كان كل ذلك ممكناً، بل وأكثر، لو توفرت الأنظمة المؤسسية الرشيدة التي تحفز وتدعم وتحمي وتموّل مثل هكذا نهضة تنموية اقتصادية مستدامة. لكن ذلك مع الأسف لم يحدث لانغماس تلك الدول في جحيم الصراعات العربية.
ما يأمله الإنسان هو أن تكون مناسبة الهبوط الحاد في أسعار البترول الحالية مناسبة مراجعة استراتيجية ومنهجية صارمة للخروج من عبثية دوامة التأرجح في أسعار البترول من خلال بناء اقتصاد واجتماع لا ينهار أمام تذبذبات أسعار البترول.
لتدرس دولنا تجربة دولة النرويج في تعاملها مع ثروتها البترولية التي نجحت في حماية اقتصادها الوطني وميزانياتها، بطرق كثيرة لا يسمح المجال لذكرها، من الصدمات الاقتصادية المحلية والعولمية الناتجة عن الذبذبات الشديدة في أسعار البترول.
لقد أصبح من الضروري أن تكون ثروة البترول والغاز في بلاد العرب موضوع مناقشة واسعة في دوائر الحكم ومجالس البرلمانات والشورى والوسائل الإعلامية ومراكز البحوث وساحات المجتمع المدنية.
ستخطئ المجتمعات وأنظمة الحكم كثيراً لو أنها تجاهلت مرة أخرى التعلم من درس الهبوط الجديد في أسعار البترول.
د.علي محمد فخرو
صحيفة الخليج