مع بداية موسم الانتخابات الرئاسية التمهيدية في الولايات المتحدة الأسبوع المقبل، ينصب التركيز على دونالد ترامب الأوفر حظًا للترشح عن الحزب الجمهوري.
ويستفيد رجل المال، الذي يحظى بشهرة واسعة، بظهوره المتكرر على شاشات التلفزيون، من أن أغلب المعلقين يعتقدون أن الديمقراطيين قد اختاروا هيلاري كلينتون بالفعل كحاملة راية النضال في الانتخابات المقررة هذا العام.
وبناء عليه لم يتبق سوى حسم الجدل عمن يختاره الحزب الجمهوري.
وحتى الآن لا توجد سوى إجابة واحدة وهي ترامب.
لكن هل الإجابة صحيحة؟
أظهر استقصاء جرى منذ ستة شهور أن ترامب يتمتع بدعم نحو ثلث المتعاطفين مع الحزب الجمهوري. وعلى اعتبار أن الحزب الجمهوري يمثل نحو ثلث عدد الناخبين، نستطيع أن نفترض أن القاعدة المساندة لترامب تبلغ نحو 10 في المائة من الإجمالي. وعليه فإن نحو 70 في المائة من الجمهوريين و90 في المائة من إجمالي الناخبين لا تساند ترامب.
ليس في حكم المؤكد أن ترامب سوف يكون المرشح عن الحزب الجمهوري، أو حتى في حال ضمن ذلك لنفسه، فمن غير المؤكد أنه سيستطيع الفوز في الانتخابات المقررة في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
والسبب في ذلك، وبالمقارنة بشعوب أقدم، هو أن ذاكرة الأميركيين قصيرة، ويرى الكثيرون ترامب مفاجأة غير متوقعة.
على أي حال، ومن دون تكرار للوصف في كل مرة، من الممكن اعتبار ترامب آخر عنقود رجال المال الأميركيين ذوي الطموح السياسي، وفى بعض الحالات، نجحوا في التأثير على نتائج الانتخابات الكبرى.
كان الإعجاب برجال الأعمال دوما، جزءا من الثقافة الأميركية التي تقدر المشروعات الحرة والنجاح المالي.
وبسبب الهجرات الجماعية من مختلف أنحاء العالم، فإن المواطن الأميركي العادي اليوم ينظر بحسد للأثرياء أكثر مما كان عليه الحال منذ 30 أو 40 عاما مضت. حتى في تلك الفترة أيضا كان الأميركيون ينظرون للنجاح في الأعمال كشرف، على عكس الكثير من الأوروبيين الذين ينظرون لرجال الأعمال نظرة دونية باعتبارهم أنانيين في «طريقة جمعهم للمال».
السؤال المثار هنا هو: هل يمكن ائتمان رجل أعمال ناجح على أعمال دولة بكاملها؟
في الربع قرن الأول لنشأة الولايات المتحدة كشعب، كانت الإجابة هي لا بكل تأكيد.
وبسبب حرب الاستقلال، وبعد ذلك حرب الانفصال، ناهيك بتوسع السكان في مختلف الاتجاهات، جرى تفضيل الناس ذوي الخلفيات العسكرية لتولي المناصب القيادية. إلى جوارهم جاء المحامون المحترفون الذين تحولوا إلى ساسة وجرى تعيينهم في المناصب العليا ليشكلوا البنية القانونية للبلاد، وكان الدستور بمثابة الملهم لذلك.
منذ نهاية القرن التاسع عشر عندما برزت الولايات المتحدة الأميركية كأكبر قوة اقتصادية في العالم، بدأ جيل جديد من رجال الأعمال يتبوأ مكانة بارزة إلى جوار الجنرالات وكبار المحامين.
أول رجل مال تغريه قمة السلطة كان ويليام راندلوف هيرست الذي أسس أكبر إمبراطورية صحافية أميركية بدأها بجريدة سان فرانسيسكو إكسامينر التي ورثها عن أبيه.
وفى عام 1902، أصبح هيرست أهم من شكلوا الرأي العام الأميركي، وشرع سرا في جمع الأصوات ليتبين فرصة في الترشح لرئاسة الولايات المتحدة.
لكن بسبب عدد من المشكلات الشخصية وبسبب نقص المهارات السياسية التي يحتاج إليها المرشح في الديمقراطيات الغربية، قرر رجل الأعمال على مضض أن يتراجع عن قرار الترشح وأن يعود إلى مكانه الطبيعي عام 1904.
وبعد ذلك بعقود، أصبح الرجل ملهما لقصة فيلم أورسون ويلس بعنوان «ستيزين كين»، الذي جسد فيه تراجيديا رجل سحرت السلطة عقله وخياله.
وبعد مرور عقدين من محاولة هيرست الفاشلة لدخول معترك السياسية، ظهر رجل مال آخر يدعى هنري فورد، وسعى وراء إغراء الترشح للسياسة. وعلى الرغم من محاولته الفاشلة للفوز بمقعد في مجلس الشيوخ عن ولاية ميشيغان، سعى فورد للترشح عن الحزب الجمهوري عام 1923 لكنه خسر أمام كالفن كوليدج الذي كان «بالكاد محاميا انخرط في السياسة».
تأكد درس هيرست، وهو أن الأميركيين يحبون اللعب مع فكرة انتخاب رجل مال كرئيس للدولة لكنهم يتراجعون بعد رؤية الخيارات الأخرى.
على عكس هيرست، لم يصبح فورد قصة لفيلم، لكن الأيام أبانت جانبا سيئا في الرجل ظهرت بعد عدة عقود واتضح أنه لا يصلح لقيادة دولة.
وفى حقبة الثلاثينات، جاء دور تشارلز ليندبيرغ، الطيار الذي تحول إلى رجل أعمال، وأغراه حلم دخول البيت الأبيض.
كان لدى ليندبيرغ كل المواصفات المطلوبة، كان بطلا أميركيا وسيما وله زوجة من أرقى الأوساط الاجتماعية من عائلة بنكية. كان له أيضا ميزة لم تكن في هيرست أو فورد، وهو مؤسسة سياسية تمثلت في المؤسسة الألمانية الأميركية التي كان يديرها نازيون.
الأهم هو أنه استطاع اللعب على المشاعر المناهضة للحرب في الوقت الذي كان فيه أغلب الأميركيين يتوقون للعيش بعيدا عن أجواء حرب كبيرة أخرى كتلك التي دارت رحاها في أوروبا (على غرار النغمة المناهضة للحرب التي استخدمها أوباما لدخول البيت الأبيض في 2008).
تبخرت طموحات ليندبيرغ عندما هاجم اليابانيون مضيق بيرل هاربر، مما أجبر الولايات المتحدة على دخول الحرب العالمية الثانية بهدف تحقيق نصر كاسح ضد المحور الذي تقوده ألمانيا.
استمرت الانتخابات الرئاسية الأميركية من دون رجال مال حتى عام 1992 عندما ترشح روز بريوت – الذي جمع ثروته من بيع المعدات لإيران – للانتخابات الرئاسية. وبسبب حصوله على أصوات من الرئيس جورج دبليو بوش، كان بريوت سببا في فوز المرشح الديمقراطي بيل كلينتون بفارق ضئيل في الأصوات يعتبر الأقل في تاريخ الولايات المتحدة.
لم يكن بريوت بنفس ثراء سابقيه من رجال المال لكنه كان أكثر قوة، وفي عام 1996، ترشح مرة أخرى مسببا هزيمة أخرى للجمهوريين.
شكل هيرست، وفورد، وليندبيرغ، وبريوت كوكتيل مبادئ حزب الشعب الأميركي «بالحديث عن الحلم الأميركي» الذي يهدده آخرون، بدءا من اليهود في حالة فورد وليندبيرغ، إلى الإيطاليين والشرق أوروبيين في حالة هيرست، إلى اللاتينيين في حالة بريوت. كلهم زعموا أن الحكومة في واشنطن أصبحت كبيرة وأن المواطن العادي لم يعد سيد مصيره.
كلهم تبنوا مواقف مناهضة للحرب في الوقت الذي كان فيه المزاج العام في الولايات المتحدة معارضا للعنف.
يسير ترامب عن نهج هؤلاء بمعارضته للاتينيين، والمسلمين باعتبارهم مصدر تهديد لغيرهم، ويهاجم واشنطن والصفوة من الساسة.
بيد أن لديه مشكلة لم تكن في أسلافه، وهي أنه يريد أن يبدو مناهضًا للحرب بأن يدعي، شأن أوباما، أنه عارض التخلص من صدام حسين في العراق، لكنه يعد بشن حرب ضد «داعش» وغيرها من «الأعداء المسلمين».
هل يكون مصير ترامب كسلفه من رجال المال؟
سوف تكون الإجابة الأولى الأسبوع المقبل في ولاية أيوا؟
الشعار: دونالد ترامب آخر عنقود رجال المال الطامحين للرئاسة الأميركية.
أمير طاهري
صحيفة الشرق الأوسط