إذا كان هدف رسالة المنسق العام للهيئة العليا للمفاوضات السورية، إلى الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه الخاص قبل 48 ساعة من موعد إجراء المفاوضات في جنيف اليوم الجمعة، هو طرح المواقف والمطالب بصورة واضحة، حسناً يكون اتخاذ هذه الخطوة في سياق استراتيجية التفاوض وفنه. أما إذا كان الدكتور رياض حجاب جدياً بقوله أن الهيئة العليا للمفاوضات تشترط مسبقاً أن يكون «بيان جنيف» لعام 2012 هو «المرجعية للمفاوضات» وأن يتم تنفيذ القرار 2254 لعام 2015 «من دون أي استثناءات أو انتقائية» في التنفيذ على أرض الواقع «قبل بدء جلسات» المفاوضات – من رفع الحصار إلى إيصال المساعدات الإنسانية ووقف الهجمات والاستخدام العشوائي للأسلحة وإطلاق سراح المعتقلين وسجناء الرأي – فإنه بذلك إما يتملص نيابة عن الهيئة العليا من حضور اجتماعات جنيف، أو أنه يرتكب خطأً تكتيكياً في استراتيجية التفاوض. فمهما كانت مطالب المعارضة السورية محقّة، إنسانياً وسياسياً وعسكرياً، فعليها ألا تتصرّف مغمضة العيون. فنحن لسنا في عام 2012 عندما تم إقرار بيان جنيف – قبل تمييعه في مجلس الأمن، روسياً وأميركياً على السواء. بيان جنيف تضمن الدعوة إلى تشكيل «هيئة حكم انتقالي بصلاحيات تنفيذية كاملة بقبول متبادل»، بين ممثلي الحكومة والمعارضة. وواقع الأمر أن أميركا وروسيا والأمم المتحدة استبدلت مسيرة جنيف، فعلياً وعملياً، بعملية فيينا بمبادئ ومرجعية مختلفة، نحن الآن في دفن «عملية فيينا» التي هي أساساً ذات ملكية روسية أتت بتزامن مع الانخراط الروسي ميدانياً في الحرب السورية. وهذا ما غيّر المعادلات على صعد عدة حيث بات القصف الروسي يترافق مع الغارات الديبلوماسية الروسية. أننا في زمن الانبطاح الأميركي أمام إيران ودفن الرؤوس في الرمال إزاء إدارتها الميليشيات المحاربة لمصلحة رئيس النظام السوري الذي تدّعي إدارة أوباما أنها تريده أن يرحل. إننا في محطة من مأساة سورية تتطلب منطقياً مراجعة صادقة لِمن وَعَد وتملّص، ومَن صعَّد وتراجع، ومَن ثابر في ولائه لبشار الأسد لأسبابه الاستراتيجية ومصالحه الوطنية مثل روسيا وإيران و «حزب الله» ومَن انقسم على ذاته في صفوف المعارضة وتنافس لمصالحه الذاتية. إننا اليوم في زمن ضرورة الاختيار بين تكثيف القصف الجوي الروسي أطرافَ المعارضة السورية تدعيماً لإنجازات النظام على الأرض بفضل روسي – إيراني، وبين التوجه إلى جنيف بوفد معارضة محنّك وقدير يثبت الجدية ليجبر روسيا والنظام في دمشق على وقف النار ويفرض مكانه في الصفقة السياسية.
سيسرع كثيرون إلى القول أن هذه دعوة إلى الاستسلام أمام تراجع الأمم المتحدة عن «مرجعية جنيف» الواضحة الأفق لمصلحة مرجعية عائمة لم يتم تحديدها في «عملية فيينا». عائمة بسبب الاختلافات الجذرية بين أقطاب جنيف الـ20، وبينهم السعودية وإيران، بالذات حول مصير بشار الأسد وما إذا كان باقياً في السلطة لخوض الانتخابات بعد 18 شهراً من العملية السياسية، أو أنه سيتلاشى بقرار روسي – أميركي – إيراني قبل عقد الانتخابات، فلا يخوضها.
سيقال أنه إفلاس أخلاقي أن توضع المعارضة السورية أمام اختيار، إما الإذعان للمطالب الروسية – الإيرانية المدعومة أميركياً وتلبيها الأمم المتحدة، أو تحميلها ليس فقط مسؤولية إفشال «عملية فيينا» وإنما أيضاً مسؤولية تكثيف القصف الجوي الروسي وإطلاق اليد العشوائية والهمجية لقوى النظام والميليشيات الداعمة لها.
وسيحتج المعارضون لأنماط التراجع عن الحزم في المطالب على أي تلميح إلى وفاة «بيان جنيف» أو أي اقتراح بأن وفاته أتت عند ولادة «عملية فيينا» وكان الأجدى بالجميع أن يدرك ذلك حينذاك ويستدرك إفرازاته وتداعياته.
والأهم، هو صرخة الاحتجاج على غض النظر المتعمّد، أميركياً ودولياً، عن تجاوزات وتهجير قسري تبدو جزءاً من التفاوض في «عملية فيينا» ومن خطط التغيير الديموغرافي.
كل ذلك صحيح. إنما السؤال هو، ما العمل؟ فإذا ارتأت المعارضة السورية أن المزيد من التنازلات أمام أمر واقع تلو الآخر سيؤدي إلى هدر المرجعيات بلا مقابل، فالأفضل لها وضع استراتيجية تتضمن تشخيص الأولويات وتشخيص المصير في حال رفضها من جانب اللاعبين في سورية. هذا يتطلب أمرين: أولاً وضوح مواقع قوى المعارضة المتعددة ومدى إمكانية جمع الصفوف والتوافق على أولويات المطالب. ثانياً، وضوح هامش الدول الداعمة أطرافَ المعارضة، السياسي منه والعسكري، ذلك أن الغموض والمطاطية في هذا المجال يعززان التنافس المستقر – الآن على الاستقطاب والوصاية – وكلاهما مضرّ جدّياً بالمعارضة السورية وسمعتها.
قد ترتأي المعارضة السورية أن يجبرها ما آلت إليه الأمور داخل سورية من كارثة ومأساة إنسانية، على الأخذ بخيارات كانت لا تتمنى أن تُوضع أمامها من بينها القبول بالصفقات الناقصة في «عملية فيينا» والتوجه إلى محطة جنيف اليوم الجمعة – كما يود مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا – لبدء التفاوض والحصول على وقف النار أثناء المفاوضات. بكلام آخر، قد ترتأي المعارضة السورية أن الأفضل لها ألا تقدّم إلى بشار الأسد أو إلى فلاديمير بوتين هدية مقاطعة المعارضة محادثات جنيف وتحميلها المسؤولية ذات الشقين: مسؤولية إحباط البحث السياسي في عملية انتقالية سياسية في سورية، ومسؤولية استمرار القصف الروسي – السوري بلا اتفاق على وقف إطلاق النار وما لذلك من تأثير ميداني كارثي، إنساني وعسكري.
فإذا قررت المعارضة السورية الممثلة بالهيئة العليا للمفاوضات أن تتوجه إلى جنيف، أول ما عليها أن تقر به ضمناً هو أن هذه ليست جنيف – 3. إنها جولة أولى من «عملية فيينا» وليس الجولة الثالثة من جنيف.
في وسعها، ومن حقها، التوجه إلى المفاوضات بكل مطلب ترتأيه طالما أنه يتسم بالواقعية السياسية وطالما ترى فيه مرجعية أساسية. وبكل تأكيد، يجب أن تتأبط استراتيجية إنسانية واعية كي لا يستمر هذا الاستهتار الدولي الرهيب بالأرواح السورية. إنما الخطوات الأولى تبقى أولاً، في لم الشمل وحنكة التفاوض، وثانياً، في وضوح مواقف الحلفاء للمعارضة بدلاً من دوامة الاستقطاب والوصاية. ثالثاً، في وضع رؤية وتصور واضحين لخريطة الطريق الواقعية.
الواقعية السياسية هي أن العنصر الجديد الحاسم في الساحة السورية هو الدور الروسي المباشر في المعارك العسكرية دعماً لبقاء النظام في دمشق مهما كلّف ذلك من مال أو أرواح. يرى البعض أن سورية ستصبح أفغانستان روسيا إشارة إلى موقع قدم انزلاق الاتحاد السوفياتي في أفغانستان قبل عقود، وأن انتصار روسيا ميدانياً اليوم سيتبخر في مستنقع الغد. هذا وارد. لكن الواقع الميداني لا يوحي بأن المعارضة السورية المسلحة أو تنظيم «داعش» سينتصران في الحرب الروسية – الإيرانية لمصلحة النظام في دمشق بمباركة أميركية واضحة لما يقوم به المحور الروسي – الإيراني – السوري بذريعة أولوية القضاء على «داعش» و «جبهة النصرة».
الواقعية السياسية تفيد بأن تبني الولايات المتحدة الأميركية سياسة النأي بالنفس عن سورية، لا سيما أثناء الانتخابات الرئاسية، هو عنصر حاسم في مشهد إقحام روسيا بالنفس في المعركة السورية. فكلاهما له الأثر ذاته، تقريباً.
ما يقوله كبار المسؤولين المعنيين بهذا الملف في الأمم المتحدة هو أن ستيفان دي ميستورا وفريقه يراهنون على حاجة روسيا للانسحاب من الحرب السورية قبل أن تصبح فعلاً مستنقعاً لها. بالتالي يرى المبعوث الدولي وفريقه أن النافذة مفتوحة الآن على تنازلات روسية في إطار مفاوضات «عملية فيينا»، وأن الفرصة متاحة لمحادثات خلاقة إذا توافرت الحنكة السياسية لدى وفد المعارضة، وأن التغيير الإيجابي على الأرض وارد أكثر في ظل عقد المحادثات وإجراء المفاوضات فيما التغيير السلبي وتكثيف القصف سيكون سيد الساحة لأن أولئك الأقوى حالياً سيتصرفون بحرية عشوائية إذا فشل المسار السياسي في جنيف.
الخيارات المتاحة أمام المعارضة السورية ليست سهلة، لا سيما في ظل انقساماتها ووعود بائسة لبعض الداعمين لها، كما يدّعون. ما آلت إليه الأوضاع في سورية لا أحد أبداً بريء منه، باختلاف النسب، والمعارضة تتحمل جزءاً من المسؤولية.
ما آلت إليه الأمور في سورية ليس من نماذج الربح والخسارة أو الهزيمة والانتصار. فلا أحد منتصر في سورية الممزقة – لا النظام ورئيسه بشار الأسد، ولا تنظيم «داعش» أو «جبهة النصرة، ولا روسيا ولا إيران وميليشياتها. بالتأكيد أن المعارضة السورية ليست منتصرة ولا هي رابحة.
سذاجة أن يقال أن الأسد باستمراره هو الرابح والمنتصر لأنه أحسن البقاء في السلطة وجلب روسيا وإيران إلى الحرب بجانبه والتمسك ببقائه رئيساً – بموافقة دولية أقله لـ18 شهراً وفق البرامج الزمنية لـ «عملية فيينا». فلا ربح ولا انتصار لِمن يحوّل بلاده إلى مغناطيس للإرهاب والميليشيات ومَن يوجّه دعوة مفتوحة للتدخل العسكري الأجنبي كي تبقى كرسي الرئاسة مقعده.
راغده درغام
صحيفة الحياة اللندنية