رغم هذا التفاؤل الأمريكي وخطاب السلام الإيراني فإن مناخات القلق والريبة في النوايا الإيرانية فرضت نفسها عملياً وسريعاً في شكل حدوث هزات واضطرابات في سوق أسعار النفط قبيل أيام قليلة من صدور قرار إلغاء العقوبات، كما حدثت تراجعات درامية في أسواق الأسهم. فقد تراجعت أسعار النفط دون 30 دولاراً للبرميل يوم 12 يناير/ كانون الثاني الجاري للمرة الأولى منذ ديسمبر/ كانون الأول من عام 2003، وسط تداولات طغت عليها وفرة العروض وشكوك حول الطلب، وفسر «إندي ليبوف» من شركة «ليبوف وشركاه للنفط» تعرض سوق النفط لضغوط «بسبب الآثار المترتبة على عودة مرتقبة لإيران مع رفع وشيك للعقوبات المفروضة عليها وعدم توقع أي قرار من أوبك».
هذه التوقعات السلبية في مجال الاقتصاد والتجارة لا تقارن مع توقعات أخرى أشد سلبية على المستويين السياسي والاستراتيجي ناتجة عن تخوفات من أن إيران سوف تستخدم الوفرة المالية الجديدة لتمويل أنشطة تدخلها على الأرض العربية ودعم حلفائها والتمادي في ممارسة سياسات الهيمنة وبسط النفوذ، وتوظيف رفع العقوبات في اتجاه تطوير علاقات تفاهم مع الولايات المتحدة وأطراف دولية أخرى باتت تواقة للاستفادة من السوق الإيرانية خاصة روسيا والصين ودول بارزة في الاتحاد الأوروبي على رأسها ألمانيا التي تعد إيران الشريك التجاري الأول لها في المنطقة إضافة إلى إيطاليا وفرنسا.
مجمل هذه التخوفات تستدعي البحث في إجابة للسؤال المهم والمحوري وهو: أي إيران ستفرض نفسها بعد رفع العقوبات؟ أو كيف وإلى أي مدى سيؤثر رفع العقوبات عن إيران في علاقاتها الدولية وسياساتها الإقليمية وبالذات مع العالم العربي وإقليم الشرق الأوسط؟
الإجابة عن هذا السؤال تستلزم البحث في حدود الأزمة الاقتصادية الإيرانية ومدى تجذرها في هياكل الاقتصاد الإيراني بسبب توقيع العقوبات الدولية (الصادرة بقرارات من مجلس الأمن) والأمريكية والأخرى الصادرة من الاتحاد الأوروبي، لمعرفة الإجابة على سؤال: إلى أي مدى سيتيح قرار رفع العقوبات وفورات مالية فائضة لتمويل أنشطة التوسع والنفوذ وبسط الهيمنة الإيرانية على المستوى الإقليمي؟
لكن إجابة هذا السؤال لا تكفي، فسياسة تخصيص الموارد الجديدة لإعادة بناء الاقتصاد وإصلاح الخلل البنيوي المتجذر في الاقتصاد الإيراني، والوفاء بالتطلعات الشعبية لتحسين الأوضاع المعيشية أو للتسليح وتمويل سياسة بسط النفوذ والتدخل في الشؤون الداخلية للدول ومعاودة ممارسة سياسة «تصدير الثورة» يتوقف على إجابة سؤال آخر هو: ما هو التيار السياسي الذي ستكون له الغلبة في إيران ما بعد رفع العقوبات خصوصاً وأن إيران مقبلة على انتخابات تشريعية (انتخابات مجلس الشورى «البرلمان») وانتخابات مجلس خبراء القيادة (المسؤول عن انتخاب المرشد الأعلى للجمهورية) يوم 26 فبراير/ شباط المقبل؟
بالنسبة للمردود الاقتصادي الإيجابي لرفع العقوبات عن إيران فإن هذا المردود سيبقى محدوداً ومرتبطاً بالتدرج في رفع العقوبات التي لن ترفع مرة واحدة. كما أن الفوائد الاقتصادية الناجمة عن رفع العقوبات لن تؤتي ثمارها قبل النصف الثاني من هذا العام، مع القيود التي يفرضها التراجع المتزايد المتوقع في أسعار النفط مع دخول إيران مجدداً سوق المصدرين، على النمو وتردد المستثمرين الأجانب عن المجازفة بالاستثمار في سوق متدنية اليقين الاقتصادي والسياسات الاقتصادية الحكومية المتوقعة في ظل تنافر الرؤى الاقتصادية للتيارات السياسية المتنافسة، إضافة إلى محددين أساسيين أولهما عمق التأثيرات السلبية للمقاطعة في الاقتصاد الإيراني، وثانيهما التوقعات الشعبية العالية لتحسين الأوضاع المعيشية المتردية التي من شأنها استنزاف القدر الأكبر من العائدات الجديدة في سياسات اجتماعية لإشباع تلك الحاجات.
فبسبب تلك العقوبات فقدت إيران أكثر من 60% من عائداتها النفطية، كما فقدت عملتها نحو ثلثي قيمتها أمام الدولار، وارتفع معدل التضخم إلى نحو 40% منذ تشديد العقوبات في عام 2011. فحسب تقديرات صندوق النقد الدولي أدت العقوبات التي فرضت خلال الأعوام الثلاثة الماضية إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 20%، كما ارتفع معدل البطالة إلى 10.3%. وبسبب تشديد العقوبات حدث تدهور كبير في الصناعات المحلية خاصة صناعة السيارات والأدوية، وتراجع الاستثمار الأجنبي من 4 مليارات دولار في عام 2010 إلى الصفر في عام 2012.
هذا معناه أن الوفورات والعائدات الاقتصادية الجديدة سوف يجري توظيفها داخلياً بدرجة أساسية لتلبية حاجات إنعاش الاقتصاد وتجديد الهياكل الإنتاجية ومعالجة البطالة وتحسين الأوضاع المعيشية، وسيكون الصراع حاداً بين القوى السياسية حول سياسات تخصيص الموارد للانتعاش الاقتصادي أو لشراء الأسلحة والإنفاق الأمني وغيرها من متطلبات سياسة التدخل وبسط النفوذ والهيمنة.
هذا الصراع سوف تحسمه بدرجة كبيرة نتائج انتخابات مجلس الشورى (البرلمان) المقبلة التي سوف تتنافس فيها ثلاثة تيارات أساسية: المحافظون المدعومون من الحرس الثوري، والإصلاحيون وبالذات حزب «نداء إيران» الذي يعبر عن تيار الرئيس الأسبق محمد خاتمي ويقوده صادق خرازي، وبينهما تيار الوسط أو الاعتدال وبالتحديد تيار «كوادر البناء» بزعامة علي أكبر هاشمي رفسنجاني رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام ومعه الرئيس حسن روحاني.
وإذا كان المحافظون وبالذات الأصوليون وحراس الثورة سيقاتلون من أجل تخصيص القدر الأكبر من الموارد للإنفاق العسكري والأمني وتمويل الأعوان في الخارج فإن التيار الإصلاحي سيسعى إلى إعادة بناء إيران اقتصادياً من أجل أن تصبح أحد النمور الآسيوية أو إحدى القوى الاقتصادية الكبرى في العالم، ومن ثم ستقف بقوة ضد استنزاف الموارد في حروب وصراعات خارجية وإنفاق عسكري. ويقف التيار المعتدل أو «كوادر البناء» الذي يجمع بين صفاة الإصلاحيين ونوازع المحافظين ويقوده رفسنجاني وروحاني ومعهما حسن الخميني حفيد الإمام الخميني بين نوازع المحافظين المتشددين والحرس الثوري في التوسع في الإنفاق العسكري وبين حرص الإصلاحيين على أولويات أعادة بناء الدولة والتحديث الاقتصادي وإعطاء الأولوية للمصلحة الوطنية على حساب الدوافع الإيديولوجية وتصدير الثورة الإيرانية.
نجاح الرئيس حسن روحاني في كسب معركة أزمة البرنامج النووي سوف توظف حتماً في هذه الانتخابات لصالح تيار المعتدلين وتيار الإصلاحيين، لكن هذا لا يعني أن المحافظين والحرس الثوري سوف يستسلمون بل سيخوضون معركة ضارية ضد النفوذ الأجنبي وحماية الثقافة الوطنية ومحاربة ميول رفسنجاني وخاتمي وروحاني للانفتاح على الخارج، وستوظف الإيديولوجية بقوة في هذه المعركة التي سوف تحسمها الاختيارات الشعبية في الانتخابات المقبلة.
د.محمد السعيد إدريس
صحيفة الخليج