نقلت الأخبار أن الولايات المتحدة الأميركية طلبت، أو ستطلب، العون مِن حلف شمال الأطلسي (النَّاتو) لمواجهة تنظيم «داعش»، وهذا له معنيان، إما أن دول العالم بشرقه وغربه لم تتمكن مِن زعزعة «داعش»، أو القصد من ذلك هو تضخيم التنظيم كي تبقى دول المنطقة أسيرة الخوف والرَّهبة من جماعة إرهابية هيمنت على مساحات ومدن مهمة في العراق وسوريا، إضافة إلى ما تعلن عنه من تشكيل ولايات وكأنها تحكم العالم، فإذا وصل الأمر إلى استدعاء «الحلف الأطلسي»، فمعنى ذلك أنها حرب كونية، العالم كله في جانب و«داعش» في جانب آخر.
كان تأسيس حلف الأطلسي بغرض حماية الكتلة الرأسمالية ضد الكتلة الاشتراكية، أي في إطار الصراع بين الشَّرق والغرب، وبعد إعلانه (1949) بسنوات ظهر «حلف وارسو» (1955). وقد تأسس الأول من: بريطانيا وأميركا وفرنسا وإيطاليا وآيسلندا وهولندا والدَّنمارك والنرويج وتركيا والبرتغال، ثم انتمت إليه دول أُخرى.
أما «حلف وارسو» فتأسس بعد ستة أعوام وتشكل من الدول التي كانت تسمى بالمنظومة الاشتراكية: الاتحاد السوفييتي وبولندا وألمانيا الشرقية ورومانيا وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا وهنغاريا وألبانيا، ولم تدخل فيه يوغسلافيا لاختلاف نهجها السياسي عن الكتلة الاشتراكية. وفي عام 1968 انسحبت ألبانيا من الحلف، وذلك بعد ظهور الخلاف الصيني السوفييتي، وبسقوط الأنظمة الاشتراكية حُل الحلف (1991)، أي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي بشهور.
لم يتواجه الحلفان سوى بتصعيد التسليح، والتهديد الإعلامي، والضغط على الكتلة الاشتراكية بسباق التسلح طوال فترة الحرب الباردة، وكان بمثابة حرب استنزاف للاتحاد السوفييتي وحلفائه الأعضاء في «وارسو» أو من دول العالم الثالث، والتي عُرفت بالأنظمة الوطنية الشَّعبية التي نهجت طريق الاشتراكية، مثل كوبا واليمن الديمقراطي وكوريا الشمالية وكمبوديا وغيرها. كان من المنتظر بعد حل «حلف وارسو» أن يعلن «الناتو» حل نفسه، وقد قرأت لكتُّاب وباحثين يساريين آنذاك، بأن حل حلف الأطلسي قضية حتمية، حسب أحد قوانين «الديالكتيك» الثلاثة، جوهر الفلسفة المادية أو الماركسية على العموم، وهو قانون «وحدة وصراع الأضداد»، فبزوال أحد الضدين حتمياً ينتفي وجود الضد الآخر.
لكن لم يحصل ذلك، بل على العكس، فإن الدول التي كانت منظمة في «حلف وارسو» انضمت لحلف شمال الأطلسي، وبأسرع ما يكون، ربما خلال شهور من تغير الأنظمة بها، وعلى هذا المثال لنا قياس الفجوة بين النظرية والتطبيق. كان ذلك في وقت لم يكن تنظيم «القاعدة» قد أعلن عن نفسه، ولا وجود لخطر إسلامي يُهدد البلدان المؤتلفة في «النَّاتو»، كتنظيم «داعش» مثلاً، فما الغاية من وجود الحلف بعد رفع الحلف الضد الراية البيضاء، وانتهاء ما عُرف بالحرب الباردة؟ ولماذا جرى تعزيزه بأعضاء جُدد؟
لا ندري على وجه الدقة، هل أن حرب أفغانستان شكلت عدواً أممياً جديداً، كالتنظيمات الإسلامية الجهادية؟ وهي الحرب التي ساهمت فيها الولايات المتحدة بالتخطيط والسلاح، تحت سياسة التضييق والبدء بانهيار الاتحاد السوفييتي و«حلف وارسو»، وهل كان لسياسيي بلدان حلف الأطلسي حدس لا يخطئ بوجود العدو الدولي، أم أنها صناعة الخصوم لغايات سياسية واقتصادية، تحركها أسواق السلاح الدولية؟
على ما يبدو، أن غزو العراق بذريعة وجود أسلحة الدمار الشامل، يكشف لنا وجود أكاذيب كثيرة، ومنها الخطر السوفييتي الذي تأسس من أجله حلف «الناتو»، وبعد زوال الخطر زاد «الناتو» قوة، وبات يمارس مهام التأديب لمَن يحاول التطاول على مركز القوة العالمية من زعماء وشعوب، ومثال بنما وغيرها ما زال حياً، فحماية المصالح تبرر تدخل جيوش الحلف في أي مكان مِن العالم.
غير أن مواجهة حلف الأطلسي لتنظيم «داعش» أمر يثير العجب، وبطلب من الولايات المتحدة التي احتلت دولاً وأسقطت عروشاً. مع السؤال الذي مازال بلا إجابة: مَن «داعش»؟ ومن أين جاءت بهذه القوة التي يُستقدم لها حلف الأطلسي؟ ومن أين لها السلاح الثقيل والخفيف؟ وما مصدر قوتها الإعلامية والمالية؟ ومن أي البوابات دخلت إلى العراق واحتلت الموصل وأعلنتها إمارة، وهي على حدود تركيا أحد الأعضاء المؤسسين لحلف «الناتو»؟
أرى في الطلب الأميركي من الحلف لمواجهة خطر «داعش»، تهويل إعلامي لهذا التنظيم، أسدى منفعة كبيرة بتخويف دول المنطقة منه، كما كان حال التخويف مِن الخطر السوفييتي. أقول: إذا صار تنظيم داعش معادلاً لحلف الأطلسي بالقوة والهيبة، فعلى الدُّنيا السَّلام، ولعلي بن المفضل المقدسي (ت 611 هـ): «لقد هُزلت حتى بدا من هزالها/ كلاها وحتى سامها كل مفلس».
رشيد الخيون
نقلا عن صحيفة الاتحاد