“أيام العزّ لحزب الله في أميركا الجنوبية معدودة، أحيانا أي تحوّل في السياسة الخارجية يؤدي إلى فتح الدفاتر القديمة”، هكذا علّقت كاتبة برازيلية عن كشف الشرطة الفيدرالية البرازيلية عن وجود علاقة وطيدة بين حزب الله وإحدى أكبر عصابات الجريمة المنظّمة في البلاد.
الخبر البرازيلي يعود تاريخه إلى مطلع سنة 2015، لكن يبدو أن تداعياته وملفّاته بقيت مفتوحة، على رأي أنـا ماريـا لوكـا، حيث تواترت الأخبار التي تتحدّث عن تورّط أفراد من حزب الله في عمليّات غسيل أموال وتجارة أسلحة وأيضا مخدّرات مع كبرى العصابات في أميركا اللاتينية وأميركا الوسطى.
أحدث هذه الأخبار ما أعلنت عنه، منذ حوالي أسبوعين، إدارة مكافحة المخدرات الأميركية التي قالت إنها اعتقلت مجموعة من اللبنانيين يعملون في قسم الأعمال التجاريّة في جهاز الأمن الخارجي التابع لحزب الله مهمّتم التواصل مع العصابات المتخصّصة في تجارة المخدرات وتبييض الأموال.
وذكرت الإدارة، في خلاصة تقريرها الذي نشرته على موقعها الرسمي، أن عائدات هذه الأنشطة يتمّ استخدامها لتمويل شراء أسلحة لحزب الله لدعم أنصاره الذين يحاربون في سوريا. وما يزال هذا التحقيق مستمرا ليمتد إلى أنحاء مختلفة من العالم، وذلك ضمن مشروع يسمى بـ”كاسندرا”، ويستهدف شبكة حزب الله الدوليّة المسؤولة عن تجارة كميات كبيرة من الكوكايين بين الولايات المتحدة وأوروبا.
ولا يعدّ خبر تواصل حزب الله مع كارتيلات المخدّرات والأسلحة وغسيل الأموال في أميركا اللاتينية، جديدا، فمنذ سنوات عديدة يتم تداول مثل هذه الأخبار والاتهامات، لكنها تأخذ بعدا أكبر هذه المرّة، وفق الخبراء، نظرا للتغيرات في السياسة الخارجية لكثير من الجهات المعنية، وتطورات الوضع في منطقة الشرق الأوسط ودور السلاح، الذي يحصل عليه حزب الله في سوريا، بالإضافة إلى توقيع الاتفاق النووي مع إيران، المذكور اسمها في هذه الاتهامات، ناهيك عن تغير العلاقة بين بعض دول أميركا الجنوبية والولايات المتحدة.
ونشاطات حزب الله في أميركا الجنوبية ظلّت غامضة، وفق أنـا ماريـا لوكـا، بسبب أنّ العديد من البلدان في المنطقة، وخصوصا البوليفاريين، الذين تقودهم فنزويلا، كانوا معادين للولايات المتحدة وأصدقاء لإيران، وبالتالي يقفون في صفّ حزب الله، لكن يبدو أن التغييرات السياسية الحاصلة في هذه المنطقة سيكون لها تداعياتها على هذا الملف.
من المخدرات إلى الملايين
قال جاك رايلي، نائب مدير في إدارة مكافحة المخدرات الأميركية، إن “المخططات لتهريب المخدّرات وغسيل الأموال التي يستخدمها هذا الجهاز التابع لحزب الله يؤمّن تدفق العائدات المالية والأسلحة لمنظمة دولية إرهابية مسؤولة عن هجمات إرهابية مدمرة في جميع أنحاء العالم”.
وذكر التقرير أن جهاز الأمن الخارجي التابع لحزب الله (يعرف بي “باك”) أنشأ علاقات تجارية مع عصابات المخدرات في أميركا الجنوبية، مثل لاأوفيسينا دي إنفيغادو، المسؤولة عن توريد كميات كبيرة من الكوكايين إلى الأسواق الأوروبية والأميركية؛ بالإضافة إلى ذلك، تقوم الذراع التجارية لحزب الله بعمليات غسيل مبالغ كبيرة ضمن ما يعرف بنظام “بلاك ماركت بيزو اكستشاينج” (السوق السوداء لصرف البيزو). وتصف وكالة مكافحة المخدرات هذه السوق السوداء الناشطة منذ التسعينات بأنها أكبر آلية لتبييض أموال المخدرات في النصف الغربي للكرة الأرضية، وهو الطريقة الأساسية للشبكات الكولومبية، التي توطّدت علاقتها بحزب الله في السنوات الأخيرة.
وابتداء من فبراير عام 2015، بدأت السلطات الأوروبية، من بينها سلطات فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا، بالتعاون مع إدارة مكافحة المخدرات الأميركية والسلطات الكولومبية، في تنفيذ عمليات استقصاء استهدفت أنشطة لـ”باك”. وكشف التحقيق عن شبكة معقدة من مرسلي الأموال الذين جمعوا وحوّلوا الملايين من عائدات المخدرات من أوروبا إلى الشرق الأوسط، عن طريق السوق السوداء لصرف البيزو.
وتتم عملية تبيض الأموال، وفق ما كشف عنه تقرير الإدارة الأميركية لمكافحة المخدّرات، من خلال دفع العملة في كولومبيا لتجار المخدرات باستخدام نظام صرف الحوالات. وتم الكشف عن جزء كبير من عائدات المخدرات التي تم تحويلها إلى لبنان، ونسبة كبيرة من هذه العائدات يستفيد منها حزب الله.
في سنة 2011، كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” عن خارطة التهريب التي أفضت إلى الإدانة الأولى للحزب بقضية مخدرات وتبييض أموال في أميركا. وفقا للصحيفة، ترسل شحنات الكوكايين من كولومبيا عبر أفريقيا إلى أوروبا. وتمزج عائدات المخدرات بصادرات السيارات الأوروبية وتصب في المصرف اللبناني، ومن ثم تُحول إلى الولايات المتحدة لشراء المزيد من السيارات المستعملة. ولحزب الله، وفقا للصحيفة الأميركية، حصة من هذه التجارة.
حزب الله تمكن من دخول أميركا اللاتينية عبر إيران التي قوت علاقاتها مع فنزويلا وبوليفيا والإكوادور ونيكارغوا
وبدأت خيوط هذا التحقيق تتكشف بعد قضية البنك اللبناني الكندي، التي تعود وقائعها إلى سنة 2013، حيث أشار المتحدث الإعلامي باسم إدارة مكافحة المخدرات الأميركية، لورانس باين أن التحقيقات التي جرت، قبل خمس سنوات، حول تورط البنك اللبناني الكندي، في تجارة المخدرات وتبييض الأموال، أدت إلى كشف تورط حزب الله في هذه الأنشطة.
وقال إن تلك العملية أدت إلى اكتشاف ذراع حزب الله في أوروبا، التي تعمل في تجارة المخدرات، وتقوم بدور في تبييض الأموال القادمة منها، وأضاف أن ذلك الفرع قام بالاتفاق مع عصابات المخدرات في كولومبيا، ببيع كميات كبيرة من الكوكايين في أوروبا والولايات المتحدة، ومن ثم تبييض الأموال الناجمة عن المبيعات، عبر البورصة السوداء والحوالات. ولفت إلى أن العمليات المتعلقة بحزب الله لا تزال مستمرة، متوقعا أن تشهد الأيام المقبلة اكتشاف المزيد من التفاصيل في هذا الصدد.
وفي تعليقه على هذا الخبر، قال مصدر لبناني لـ”العرب”، طالبا عدم الكشف عن هويته، إن نشاطات حزب الله في مجال المخدرات ليست جديدة، بل تعود إلى التسعينات. والجديد والذي يمثل خطرا وجوديا على لبنان يكمن في أن حزب الله الآن هو مشارك في الحكومة اللبنانية، وتاليا فإن تصنيفه كمجموعة من تجار المخدرات تطال الحكومة والبلد ككل، وتهدد بإقصائه عن الاقتصاد العالمي.
وأضاف المصدر أن حزب الله مضطر للسير في هذا الطريق بعد خفض الاعتمادات المالية المقدمة له من إيران. ما يعني أن تجارة المخدرات باتت المصدر الأساسي الذي يعتمد عليه الحزب لتمويل نفسه، ودفع رواتب مقاتليه، والتعويضات لأهالي من يقضون في المعارك التي يخوضها في سوريا والعراق، مشيرا إلى أن تجارة المخدرات باتت بمثابة عقيدة اقتصادية للحزب، هذا ما يمكن لنا استخلاصه من سلوك حزب الله على امتداد فترة طويلة من تاريخه، وصولا إلى هذه اللحظة.
تاريخ معقد
يقول الخبراء إن اهتمام حزب الله زاد بأميركا اللاتينية، وأيضا منطقة غرب أفريقيا، بداية من سنة 2006، ووصل ذروته في السنوات الأخيرة بعد أن تقّلص دعم إيران له، لذا بحث عن مصادر أخرى لجمع الأموال، لكن الأمر لا يتعلق كله بالأموال إذ يستعمل حزب الله معقله اللاتيني كقاعدة لتجنيد أنصاره له من بين الـ”توركوس” وهو مصطلح يطلق على المهاجرين اللبنانيين والعرب عموما.
وذكر الباحث الأميركي ارتثر برايس، في دراسة له عن نشاط حزب الله في أميركا اللاتينية، أن عملية التجنيد تحدث في المساجد والمراكز الإسلامية والجمعيات التي يقوم نشطاء حزب الله باختراقها أو بتأسيسها لخدمة المجتمعات المسلمة المزدهرة في المنطقة.
ويتفق المحللون بأن حزب الله بدأ تسلله لأميركا اللاتينية في أواسط الثمانينات حيث أنشأ أول معقل كبير له في منطقة حدودية ثلاثية، وهي منطقة خارجة عن القانون نسبيا على حدود ثلاث دول وهي الأرجنتين والبرازيل والبراغواي.
|
ومن هذه القاعدة الواقعة في قلب أميركا الجنوبية أسّس حزب الله شركات غير قانونية لتمويل عملياته في الشرق الأوسط وغيره من الأماكن. ومن بين أهم المشاريع التي يتعهد بها التنظيم هناك نجد تبييض الأموال والتزوير والقرصنة والاتجار في المخدرات. وهذه النشاطات غير القانونية مدرة لأرباح كبيرة بكل المقاييس، إذ أفادت دراسة جرت في سنة 2004 لحساب كلية الحرب البحرية الأميركية أن عمليات حزب الله في منطقة الحدود الثلاثية أكسبته قرابة 10 مليون دولار في السنة.
ويقول تقرير صدر سنة 2009 عن مؤسسة ‘راند’ الأميركية، إن حزب الله كسب قرابة عشرين مليون دولار في السنة في تلك المنطقة. ومن ثم فإن المنطقة الحدودية الثلاثية تشكل أهم مصدر تمويل مستقل لدى حزب الله، وذلك حسب رأي الخبيرة الأميركية في شؤون الإرهاب ريتشل اهرن فيلد مؤلفة كتاب “تمويل الشر، كيف يتم تمويل الإرهاب وكيف نوقفه” (صدر في 2003).
ولم يمض وقت طويل على تأسيس حزب الله لموطئ قدمه الثابت في منطقة الحدود الثلاثية حتى تم ربط اسمه بالهجومين الإرهابيين في الأرجنتين التي تضم أكبر جالية يهودية في جنوب أميركا وأكبر الجاليات خارج إسرائيل، والذي وقع سنة 1994.
دور إيران
يقول الباحث الأميركي دوغلاس فرح، “كان الإيرانيون ينشئون هياكل استخباراتية وعملياتية في أميركا اللاتينية منذ الثمانينات”، وما فتئ ذلك الاختراق ينمو منذ ذلك الحين، وهو يمتدّ من البرازيل والأرجنتين إلى كولومبيا والشيلي والبارغواي والأوروغواي ليتوسع خارج حدود المنطقة اللاتينية إلى أفريقيا وآسيا.
ويضيف فرح قائلا “إنهم الآن متورطون في تجارة الكوكايين أكثر من أي وقت مضى ولديهم نفاذ أكبر للمنطقة بفضل حلفائهم في فنزويلا والإكوادور وبوليفيا وغيرها، لذا لديهم حرية أكبر للتحرك وقيود أقل. وهذا ما زاد كثيرا في قدرتهم على تنفيذ عمليات استخباراتية وتدريب المنفذين وتركيزهم في مواقعهم والتحضير للهجمات”.
وفي شهادته أمام اللجنة الفرعية البرلمانية في يوليو 2011 قال فرح “حضور حزب الله في أميركا اللاتينية في ازدياد. إنه ينمو في قدراته الاقتصادية وفي تركيزه للنشطاء في المنطقة عبر التوسع السريع للبعثات الدبلوماسية والاستخباراتية والأعمال والاستثمارات الإيرانية”.
يقول روجر نورييغا، وهو سفير أميركي سابق لدى منظمة الدول الأميركية “حيثما تذهب إيران يكون حزب الله خلفها”، تأكيدا لربط الخبراء بين نشاط حزب الله وإيران، في أميركا الجنوبية أو أفريقيا، أو في أي بقعة من العالم.
ويؤكّد المراقبون أن إيران بدورها متورّطة في عمليات غسيل الأموال والكارتلات الدولية للمخدرات والجريمة المنظمة، مشيرين إلى أن هذا أحد الأسباب التي تجعل من هذا الملف يتّخذ بعدا جديدا بعد رفع العقوبات على إيران وتوقيعها الاتفاق النووي.
ويتحدّث ارثر برايس، في دراسته، عن علاقة بين حزب الله والقوات المسلحة الثورية الكولوبية، (فارك)، وقال إن الحزب يستخدم المرابيح من تجارة المخدرات لشراء السلاح، فيما ذهب الكاتب دانييل فالنسيا، في دراسة حول علاقة حزب الله بثاني أقوى عصابات المخدرات في المكسيك، وهي كارتيل لوس زيتاس، إلى القول إن لوس زيتاس، بدأت تهتم لجماعات مثل حزب الله لتقلّد نموذجه في الممارسات والتكتيكات، وقد تأثرت عصابة زيتاس بالمثال اللبناني واستراتيجياته، حيث تمكن من أن يرسخ قدميه في الحياة السياسية في لبنان وسوريا ويلعب دورا هاما في المجالات العسكرية. وقد حظي هذا التنظيم بقاعدة جماهيرية في منطقة الشرق الأوسط.
وينقل دانييل فالنسيا عن سامويل لوغان، المدير المؤسس لشبكة ‘ساذرن بالس’، وهي شبكة معلومات على الإنترنت مركزة على أميركا اللاتينية، حين قال “إنهم مهتمون بجمع الأموال لعملياتهم في الشرق الأوسط”.
الضرورات تبيح المحظورات
رغم التقارير والأدلة التي تكشفها السلطات الأوروبية والأميركية عن تورّط حزب الله مع عصابات الجريمة المنظّمة، يأبى كثيرون، تصديق هذا الأمر، خاصة في ظلّ الصفة الدينية التي يسبغها حزب الله على نفسه، بما تجعله وفق أنصاره، وبعض المؤيّدين له من خارج دائرته الشيعية، معصوما.
لكن، بعض المراقبين أكّدوا أن بعض المراجع الشيعية أصدرت فتاوى تبيح مثل هذه العمليات عند الضرورة، ويستشهد المراقبون في هذا السياق بما نقله الميرزا جواد التبريزي في كتابه صراط النجاة – الجزء 2، عن فتوى للخوئي يردّ فيها بشأن هل تجوز زراعة الترياق والهيروين وبيعهما، خصوصا مع فرض إمكان الانتفاع بهما ببعض الفوائد؟(سؤال ١٢٨٦)، وقد جاء فيها “لا مانع من ذلك في حد نفسه، ما لم يترتب عليه مفسدة”.
ويشير ماثيو ليفت، مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن، إلى أنه وعقب تأسيس حزب الله في أوائل الثمانينات، عمل هذا الحزب على تجنيد أعداد غفيرة من القبائل والعائلات من سهل البقاع حيث استفاد من الفتوى الدينية الصادرة في منتصف ذلك العقد والتي منحت مبرراً دينيا للأنشطة غير المشروعة والفاسدة للاتجار بالمخدرات.
وينقل ليفيت عن تقرير من مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي كُشف النقاب عنه في نوفمبر 2008، “صرح الزعيم الروحي لحزب الله (تم حذف الاسم من التقرير) أن تجارة المخدرات مقبولة أخلاقيا في حالة بيعها للزنادقة الغربيين كجزء من الحرب ضد أعداء الإسلام”.
صحيفة العرب اللندنية