تقترب الذكرى الخامسة لاندلاع انتفاضة الشعب السوري بوجه حكم بشار الأسد، ومعها جولة أخرى من المحاولات الدپلوماسية للتوصل إلى صيغة حل سياسية. وقد أودت الأزمة لتوّها بحياة مئات الألوف، وحصدت من الجرحى والمهجرين الملايين، ودمّرت معظم البنية التحتية للبلاد. أما الأسرة الدولية، إزاء توالي هذه الفظائع التي لم يشهد العالم مثيلاً لها منذ الحرب العالمية الثانية، فقد بدت عاجزة، ولم يتمخّض عنها إلا اجتماعات رتّبت تفاصيلها الشكلية بتأنٍ، في محافل دولية مختلفة، ومعها خطوات تدريجية مفترضة لبناء الثقة بين الأطراف ومعالجة شؤون إنسانية محلية، على أمل أن يكون في ذلك تمهيداً للمباشرة بعملية سياسية تنتشل سوريا من الهوّة التي وقعت فيها. وليس في هذا الأمل، للأسف، إلا إيهاماً للذات لدى البعض الصادق، أو نفاقاً يكاد أن يكون سافراً لمن يسعى إلى حلول أبعد ما تكون عن السلمية.
في الأسبوع الأول من شباط/فبراير عُقدت في جنيڤ جولة جديدة من المباحثات غير المباشرة بين ممثلي النظام وممثلي المعارضة، وبانعقادها ظهر جلياً أن الولايات المتحدة دون غيرها كانت هي القادرة على إعادة التوازن مع روسيا من خلال اعتراض عبثيتها، للخروج من الحلقة المفرغة التي تعيشها سوريا.
فحين سعت روسيا، وهي عضد النظام ومصدر تأييده الأول، إلى فرض تشكيلة وفد المعارضة إلى المباحثات الأخيرة، فإنها كشفت عن جسارة غير مسبوقة في رسم معالم مسعاها للحسم العسكري على أنه حل سياسي. وقد أدى قبول الولايات المتحدة بالخطوات الروسية، وممارستها للضغوط على الأطراف المعارضة إلى تحقيق نجاح بعقد اللقاءات الأخيرة. غير أن انعقاد تلك اللقاءات كان عندها الحد الأقصى لذلك النجاح المفترض، فيما تُدفع الأثمان الباهظة بتآكل فرص حلول حقيقة للأزمة السورية. ويستتبع ذلك طبعاً المزيد من الاهتراء لصورة الولايات المتحدة في المنطقة كقوة عاجزة عن تحقيق الإنجاز، أو ضالعة بما ما يصيب المنطقة من ضرر.
والواضح أن روسيا قد عمدت إلى تصوير كاذب للواقع لتبرير تدخلها العسكري المباشر لصالح نظام دمشق. وفي حين تزعم موسكو أنها تستهدف تنظيم «الدولة الإسلامية»، فإنها تبذل طاقاتها للقضاء على القوى المعارضة للنظام في جزء من سوريا تقتطعه له. وقد تعرضت مواقع تنظيم «داعش» بالفعل لبعض الضربات الروسية، إلا أن حصيلة أشهُر التدخل الروسي هي أن النظام قد أحرز قدراً من المكاسب، والمعارضة المسلحة قد تعرّضت للإنهاك في أكثر من موقع، فيما تبقى خسائر تنظيم «الدولة الإسلامية» عَرَضية. غير أن مكاسب النظام نفسها تبقى متواضعة بالنسبة لما ضختّه الآلة الحربية الروسية من جهود، كما أن الاحتفاظ بهذه المكاسب ليس محسوماً، بل أن المعارضة المسلحة قد تمكنت من استرجاع بعض ما خسرته رغم استمرار القصف الروسي.
ولا شك أن التدخل الروسي قد كشف عن الخلل والتناقض في صفوف المعارضة للنظام، بل نجح بفك عرى بعض تحالفاتها الموضعية وتفتيتها، ما أتاح المجال أمام قوى النظام، تؤازرها فصائل من خارج البلاد بإدارة إيران، أن تحقق انتصارات محلية. غير أنه ليس بوسع التدخل الروسي مهما توسّع أن يبدل حقيقة أن الثورة السورية قد تحوّلت منذ زمن غير وجيز إلى انتفاضة سنيّة. فالانتصار الحاسم للنظام يتطلب العودة إلى قمع ممنهج وثابت للأكثرية السكانية، وهو هدف غير قابل للتحقيق وفق أية قراءة موضوعية لأسباب داخلية وخارجية على حد سواء. فكل ما يسع التدخل الروسي تحقيقه على أرض الواقع هو دفع الانتفاضة السورية باتجاه تحول سلبي جديد.
فلمّا بدأت الاحتجاجات بوجه النظام عام ٢٠١١، كان طابعها الغالب وطنياً جامعاً، قادراً على ضبط التجاوزات الكلامية الفئوية التي اعترضته أحياناً. إلا أن النظام سعى سعياً دؤوباً إلى تظهير الفئوية وتعميمها على الاحتجاجات من خلال استهداف الأصوات المعارضة المدنية والوطنية والجامعة، وغضّ النظر عن الأصوات الفئوية بل تمكينها في أكثر من حالة. فمع ذلك، بالإضافة إلى اللامبالاة الدولية تحوّل الطرح الفئوي من تجاوزات تطال الخطاب الاحتجاجي إلى حالة سائدة من الاعتراض على المظلومية السنية. وكان هذا تحولاً إيجابياً بالطبع من وجهة نظر النظام، إذ أنه يخرج السوريين غير السنة من دائرة الاستقطاب للثورة ويضعهم على الحياد، بل يجعل منهم حلفاء موضوعيين للنظام.
إن قابلية الثورة السورية على الاستهلاك بهذا الأسلوب تعكس تصدعات وحدود سياسية وثقافية في المجتمع السوري. غير أن الصياغة الخطابية للثورة السورية، حتى بعد أن سادت عليها الفئوية، استمرت بلغة الحقوق الإنسانية والقيم العالمية. ويوم كان الخطاب السائد جامعاً، كانت الفئوية هي التحدي. أما بعد أن هيمن الخطاب الفئوي، فالتحدي أمسى قادماً من القطعية، أي من الطرح القائل بأن المعايير الدولية والشرعية العالمية لا اعتبار لها، بل الاعتبار لتأطير شمولي قائم على أساس قراءة دينية (سلفية). وتنظيم «الدولة الإسلامية» هو طبعاً المثال الأبرز لهذه القطعية.
والتدخل الروسي في سوريا، إذ يعتمد النفاق في تصويره لأهدافه، فإنه عند تركيزه على المعارضة المسلحة غير المنضوية في إطار تنظيم «داعش»، يهدف إلى إرساء ثنائية جديدة في قراءة الأزمة السورية. فبدلاً من الحديث عن «ثورة في مواجهة القمع»، يراد أن يصبح الكلام عن «الشرعية في مواجهة التطرف». ولا يخفى المقدار المرتفع من التجاوب مع الثنائية الجديدة في العواصم العالمية والتي أتعبتها المسألة السورية واستعصى عليها فهم دقائقها. ولكن مهما ارتفعت أهمية ضبط تصوير المسألة الروسية عالمياً من وجهة نظر موسكو ودمشق، فإن التطبيق الداخلي للثنائية الجديدة هو المقصود في البحث الروسي الحثيث عن حل سياسي مزعوم.
إذ من خلال السعي إلى القضاء على المعارضة المسلحة غير المنتمية إلى تنظيم «الدولة الإسلامية»، يبدو أن النظام وحليفه الروسي يسعيان إلى استنساخ نجاح سابق. فكما أن انتقال المعارضة من الطرح الجامع إلى الطرح الفئوي أخرج غير السنة من دائرة استقطابها، هل يمكن قصر المعارضة على القطعيين من خلال القضاء على من دونهم، بما يدفع السنة غير المتماهين مع القطعية والسلفية إلى الانشقاق عن المعارضة، بل ربما حتى العودة إلى أحضان النظام؟
يبدو أن نوايا موسكو ودمشق، وقناعاتهما ورغباتهما تنصب في هذا الاتجاه، وجنوح موسكو إلى تطبيق ثنائية «الشرعية في مواجهة التطرف» يندرج في هذا الإطار. غير أن مسعى إعادة رسم التفاصيل السياسية والوطنية للواقع السوري يقع خارج مقدور روسيا، ويتنافى مع طبيعة النظام السوري. ففي وقت ضيقه، سار النظام باتجاه تعزيز هويته الأقلياتية، بل وإلى تمتين ارتباط الطائفة العلوية التي يعتمدها كخزّان بشري للمقاتلين، بالمسمّى الشيعي، طلباً للدعم والتأييد. ومع قدوم الجماعات المسلحة الشيعية من أرجاء العالم نصرة للنظام في معاركه، لم يعد بالإمكان التراجع عن السمة الفئوية للمواجهة. فإنزال الهزيمة بالتشكيلات المختلفة لفصائل المعارضة المسلحة للأكثرية السنية قد يمنح النظام بعض المجال للمناورة، ولكنه يشكل كذلك فرصة جديدة لإعادة الانتظام والاصطفاف داخل محيط سني واسع يعجز النظام عن ضبطه والسيطرة عليه بشكل دائم.
والنتيجة الفورية لمسعى النظام وحليفه الروسي والمناسية لهما هي تعزيز القطعية وتقوية مظاهرها، سواء بشكل تنظيم «الدولة الإسلامية» أو بأشكال أخرى جديدة. غير أن مكاسب القطعية لن تكون آنية. فمع استمرار الشلل أو الامتناع الدوليين إزاء المغامرة الروسية، ترتفع القناعة في أوساط السوريين السنة أنه لا جدوى من الاعتماد على المنظومة الحقوقية الدولية أو استدعاء القيم العالمية. فمهما كانت نتائج المعركة على الأرض، يتأكد بذلك صواب الطرح القطعي. أما ألاعيب اللقاءات الدپلوماسية الهادفة إلى تغطية مسعى الحسم العسكري فإنها لن تحقق حلاً سياسياً أو أمنياً على الأرض في سوريا، بل تضمن وحسب أن المقتلة السورية، بما تحويه من بؤس وعذاب واحتمالات تمدد، سوف تستمر على المدى المنظور.
فمحادثات جنيڤ ٣ تتضمن من المقترحات ما يبدو عقلانياً وواضح المعالم باتجاه تسوية سياسية ومصالحة وطنية. إلا أن المسألة لم تكن يوماً غياب الحلول المبتكرة للقضية السورية بل كانت دوماً أن الطرفين غارقان في معركة تنافٍ وجودي، تمتنع معها التسويات. فالنظام الذي أعلن مراراً أن المعارضة ليست سوى شراذم من المرتزقة في خدمة إسرائيل والسعودية والولايات المتحدة ليس قادراً على الدخول في مفاوضات تسوية مع هذه المعارضة. ولكنه ليس قادراً على استعادة هيبته وقدرته على الترهيب لتوطيد حكمه. وفي المقابل، فإنه من المحال أن تقبل المعارضة باستمرار النظام بأي شكل كان، إذ تحمله مسؤولية الموت والدمار في سوريا. أي أنه حتى لو كانت محادثات “جنيڤ ٣” عملية تسوية صادقة فإنها واجهت معضلات مستعصية.
ولكن تلك المحادثات ليست عملية صادقة، بل هي أداة بيد روسيا سعت من خلالها لتحقيق أغراضها. وعلى أي حال، ففي غياب المحادثات المباشرة، فإن الحوار الحقيقي في جنيف كان بين ثلاثة اصطفافات دولية، أولها مؤيدو النظام، أي روسيا وإيران وأدواتها، وثانيها داعمو المعارضة، وأهمها الولايات المتحدة والسعودية وتركيا، في ارتباك هذه الأطراف وسعيها المستمر إلى إيجاد صيغة مشتركة، وثالثها لقاء دولي يحبذ نهاية الأزمة بغضّ النظر عن الشكل السياسي الناتج، للتصدي للإرهاب والهجرة، ولإنها النزيف وتحقيق الاستقرار. ومع تضاؤل الخيارات، بدا طرح موسكو الحازم أكثر قدرة على استقطاب الرأي العام الدولي.
فلو تُركت تلك المحادثات لتبلغ مآلها التلقائي، لكان من شأنها أن تنتج وهم مسار سلم أهلي، ولكان بوسع المسؤولين في الأمم المتحدة ترقب تنازلات ممكنة في المواضيع الإنسانية، فيما كان الفريق الأمريكي قد اضطر الاكتفاء بالنجاح الشكلي الذي تحقق مع جلوس المفاوضين إلى طاولاتهم المتباعدة. أما روسيا فقد رضت عن تعرض الإطار الذي رسمته المحادثات السابقة للتعديل للإقرار بحقيقة أن النظام سوف يبقى على قيد الحياة لا محالة. وسوف يستمر الارتباك والفوضى في صفوف المعارضة السورية فيما المعارضة المسلحة تجنح بتدرج نحو القطعية، بما يشكله ذلك من نجاح بالنسبة للطرف الروسي.
إن الولايات المتحدة وحدها قادرة على اعتراض تلك النتائج الوخيمة. فالرئيس أوباما قد أشار عدة مرات إلى الترابط بالعلاقة بين النظام القمعي في دمشق وإرهاب تنظيم «الدولة الإسلامية»، وعلى السياسة الأمريكية أن تشكل تجسيداً لهذه القناعات من خلال المطالبة الحاسمة بإنهاء حكم آل الأسد في سوريا، وذلك دون أدنى إبهام يسمح لروسيا وإيران وحلفائهما باستغلاله في السعي لتحقيق حسم عسكري.
فالمعارضة للنظام لن تتلاشى، وهي أن حصلت على الدعم وتمكنت من الانتظام، من شأنها أن تحقق لسوريا مستقبلاً ديمقراطياً. وما بروز تنظيم «داعش» وتحوله إلى شبكة إرهاب دولية إلا حصيلة وإن جزئية لإهمال واشنطن ما يشكله نظام دمشق من تحديات دولية. فدعم المعارضة السورية ليس فعلاً اختيارياً في سياق هيمنة مفترضة أو تولي دور شرطي العالم، بل هو أمر ينصب في صميم المصلحة الوطنية للولايات المتحدة.
وقد كان للولايات المتحدة دوراً رئيسياً في تطوير بعض المفاهيم لرفع مشروعية النظام الدولي، ولا سيما منها الحق بالحماية وواجب الحماية. وروسيا اليوم عند تعمدها قصف المنشآت المدنية في سوريا تتحدى هذه المفاهيم. فلا يجوز السكوت عن هذا التعدي، بل على واشنطن إدانة استهداف موسكو المباشر للشعب السوري بشكل قاطع والاعتماد على كافة مكونات النظام الدولي لوضع حد له.
ومهما تأخر الموقف الأمريكي الحازم، فإنه لا بد منه. ولو أن واشنطن تحركت قبل أعوام لكان ما تطلّبه الأمر من التزام وأثمان أقل كثيراً منه اليوم. وإذا استمر التأجيل، فإن الكلفة والأعباء سوف ترتفع. وفي جميع الأحوال، لا مفر للولايات المتحدة من مواجهة الحاضنة الحقيقية للإرهاب والتي سمح لها أن تستمر على الأرض السورية، ومعها في هذه المواجهة ضمن خطة دولية شركاء من المنطقة، تركيا والسعودية تحديداً. وكان الرئيس أوباما قد أصاب في إشارته خلال العام الأول من الانتفاضة السورية إلى أنه على الأسد أن يرحل. وما كان صحيحاً عام ٢٠١١ يبقى صحيحاً اليوم في عام ٢٠١٦.
ولو أبدت الولايات المتحدة الحزم بخطة طويلة الأمد لتحقيق هذا الهدف، وسعت في الآن نفسه إلى حوار جدي مع روسيا، فالتوقع الأقرب إلى التحقق هو أن موسكو سوف تصغي وتمتنع عن مغامرتها الخطيرة في سوريا.
حسن منينمة
معهد واشنطن