يغادر الرئيس الأميركي، باراك أوباما، البيت الأبيض، هذا العام، تاركاً وراءه بصمة مهمة في السياسة الخارجية لبلاده تجاه الشرق الأوسط وعموم المنطقة العربية فيما أصبح يعرف، في تحليلات الأكاديميين، بعقيدة أوباما الانعزالية، حيث سحب الرئيس الأسود جيوش بلاده من العراق وأفغانستان، وامتنع عن التدخل في ليبيا وسورية، وفتح الباب لعودة إيران إلى الساحة الدولية، ولم يخف خلافاته مع إسرائيل، واتجه إلى الدفاع عن مصالح أميركا في الخارج بأساليب دبلوماسية ناعمة، لا حروب فيها…
مع كل النقد الذي وجه إلى هذه الإدارة، فإن أوباما ليس قوساً في واشنطن سيقفل، بذهابه إلى تقاعد مبكر. عقيدة أوباما الاحترازية من التدخل العسكري في الشرق الأوسط مبنية على حسابات دقيقة، وعلى تكيف استراتيجي مع المتغيرات التي دخلت على الخارطة الدولية والإقليمية. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى تسعينيات القرن الماضي، كانت واشنطن تهتم بالشرق الأوسط من خلال ثلاث قضايا استراتيجية:
أولاً، التصدي للنفوذ السوفياتي ومحاصرة المد الشيوعي تحت عنوان الحرب الباردة، وأصبح الاتحاد السوفياتي في خبر كان. وحتى عودة المشاكسات الروسية إلى المنطقة هي حسابات تكتيكية لقوة إقليمية، وليست تحركات استراتيجية لقوة عالمية. ولهذا فإن أميركا مستعدة لتفهم الطموحات الروسية في المنطقة، لأنها لا تزعج القوة الأكبر في العالم. ثانياً، حماية الثروة النفطية، وضمان تدفق الذهب الأسود إلى الأسواق الغربية بأثمنة معقولة. لم تعد أميركا محتاجة نفط الخليج، ويقول الخبراء إنها ستصير أكبر مصدر للنفط في العالم في غضون سنوات، مع تطور تكنولوجيا استخراج النفط الصخري. ثالثاً، إسرائيل وأمنها، وحماية وجودها من محيط كان معادياً لها ورافضاً وجودها، غير أن هذه أصبحت اليوم قوية من جهة، لأنها بنت قوة عسكرية رادعة، واقتصاداً قوياً وعلاقات ديبلوماسية متعددة مع الصين وروسيا والهند، وعدد من الدول الإفريقية، ولم تعد كياناً معزولا في المنطقة والعالم. كما أن إسرائيل اليوم قوية بضعف العرب وانقسامهم، حتى أن دولاً عربية كثيرة بدأت ترى أن إيران هي المشكلة وليست إسرائيل. زد على هذا أن علاقات إسرائيل بواشنطن تغيّرت، لأن أصواتاً معتبرة في مؤسسات صناعة القرار في أميركا بدأت تحذر من عواقب التحالف مع إسرائيل على حساب المصالح الأميركية، وقد ظهرت نتائج هذا التحذير في تجاهل أوباما الحملة المسعورة التي شنها نتنياهو على اتفاقية فيينا مع إيران. ومع كل مخاوف إسرائيل وتحذيراتها، تحدى البيت الأبيض ساسة تل أبيب واللوبي التابع لها في أميركا، ووقع على الاتفاق مع إيران.
كل هذه المتغيرات هي التي أعطت التوجه الجديد لأوباما تجاه المنطقة العربية. ولهذا، ليست العقيدة الجديدة في البيت الأبيض مرشحة للزوال بخروج أوباما من السلطة، خصوصاً إذا فازت هيلاري كلينتون بالرئاسة، لكن هذا لا يعني أن أميركا ستدير ظهرها للعالم العربي. ستظل واشنطن مهتمةً بهذه الرقعة الجغرافية الحساسة من العالم، لأن لواشنطن مصالح اقتصادية في هذه المنطقة، ولأن دولنا للأسف منبع الإرهاب العالمي الذي يهدد أكثر من دولة في الغرب والشرق، ولأن العرب يجلسون على مفاصل حساسة من الجغرافية السياسية. لكن نظرة المصالح الاقتصادية ونظرة المخاوف الإرهابية لا تصنع علاقات استراتيجية في عالم الدول، بمعنى أن البراديغم السابق الذي كان يجعل من أميركا مظلة حماية للخليج ومصر، وحليفة كبيرة للخليج، انتهى، وحل محله جديد مبني على مواقف متغيرة من كل ملف على حدة. هناك مثلاً اتفاق على محاربة داعش بين أميركا ودول الخليج. ولكن، هناك اختلاف جوهري بشأن نفوذ إيران في المنطقة مثلاً. هناك اتفاق على إزعاج الأسد في دمشق. ولكن، هناك اختلاف بين واشنطن والرياض على مستقبله الآن. وهكذا ستقترب الرؤى وتبتعد بين الدول العربية وواشنطن، في ظل نموذج جديد من العلاقات بين الخليج وأميركا، حسب الظروف والأحوال والملفات والحسابات. وكم كان حسني مبارك بليغاً، عندما عبّر، بطريقةٍ عفويةٍ، عن هذا التغير الكبير في نظرة أميركا إلى حلفائها. قال، أياماً قبل مغادرته السلطة “المتغطي بأميركا عريان”.
توفيق بوعشرين
صحيفة العربي الجديد