وعلى الرغم من أن المشهد السياسي الإيراني شديد التعقيد، ويضم قوى عديدة، إلا أنه يمكن، في العموم، تمييز تيارين عريضين، يشتمل كل منهما على أطراف ذات مواقف سياسية وأيديولوجية متباينة، يتألف الأول من تحالف الإصلاحيين والبراغماتيين، بزعامة الرئيس حسن روحاني، ومعظم رموز هذا التيار من أنصار التوجه القومي الليبرالي، يدعمهم الرؤساء السابقون هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي ومير حسين موسوي. يدعو هذا التيار إلى اندماج إيران في المجتمع الدولي، والانفتاح على العالم، سعياً وراء وضع طبيعي، تتدفق فيه الاستثمارات، وترفع فيه عنها العقوبات، وتنطلق عملية بناء إيران عصرية غير معادية للغرب (وليست حليفة له بالضرورة، إنما تقوم علاقتها به على المصالح المشتركة – غاز و نفط مقابل التكنولوجيا). ووفقاً لأنصار هذا التيار سوف يحول هذا الأمر إيران إلى قوة إقليمية كبرى، من واقع إمكاناتها الاقتصادية وقاعدتها المعرفية، وليس من خلال مواقفها السياسية أو نشاطاتها التخريبية أو تدخلاتها الإقليمية، والتي تضعها في حالة صدام مع الجميع، من عرب وأتراك وغربيين. ويرى هذا التيار أيضاً أنه ما كان في وسع إيران أن تصمد، لو استمرت العقوبات الغربية والأممية عليها بضع سنوات أخرى، خصوصاً في وقت تتعرّض فيه مناطق نفوذها لضغط شديد على امتداد المنطقة. ويفاخر أنصار هذا التيار بأن سياساتهم فقط هي من أنقذ نفوذ إيران في العراق وسورية، حيث تخوض القوتان الكبريان في العالم حرب إيران في المنطقة، إذ تقصف إحداهما (أميركا) خصوم إيران في العراق، فيما تضرب الأخرى (روسيا) خصومها في سورية، ولولا هذا لأنهى “داعش” النفوذ الإيراني في العراق، وأنهت المعارضة السورية نفوذها في سورية.
يتكون التيار الثاني من تحالف الإسلاميين المتشددين والقوميين المتطرفين، ويقوده رموز الحرس الثوري، وفي مقدمتهم الجنرال محمد علي جعفري وقاسم سليماني، يدعمه معسكر كل من الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد ورئيس البرلمان علي لاريجاني والمرجع المتشدد محمد تقي مصباح يزدي ورئيس السلطة القضائية صادق لاريجاني وغيرهم. يحاول هذا التيار التأقلم مع مرحلةٍ لم تعرفها الثورة الإيرانية من قبل، وتثير مخاوف كبيرة لديه، هي مرحلة الانفتاح على العالم، فإيران، بحسب هؤلاء، تآلفت مع فكرة العزلة والحصار. وقد تمكن هذا التيار من السيطرة على مفاصل الدولة، وإزاحة خصومه بفضل هذه السياسات وتوظيف شعارات مقاومة الشيطان الأكبر، وزعم وجود مؤمرات خارجية، تسعى إلى إطاحة النظام من الداخل (نموذج الثورة الخضراء عام 2009).
أما وقد سقطت “المؤامرة”، بعد أن قرر الغرب الانفتاح على النظام الإيراني، ومنحه شرعية
دولية، عبر اتفاق وقعته ست قوى كبرى (5+1) ونص عليه قرار من مجلس الأمن (القرار رقم 2231)، فإن التيار المتشدد يجد نفسه، في المرحلة المقبلة، في ورطة سياسية كبرى، في مواجهة خصومه الذين بدأوا تواً استغلال نتائج الاتفاق النووي، لتحسين مواقعهم السياسية على أبواب انتخاباتٍ برلمانيةٍ، وانتخابات مجلس الخبراء، فها هو روحاني يتحدث عن نسبة نمو متوقعة تصل إلى 8 بالمائة بعد رفع العقوبات، ويتحدث عن 50 مليار دولار استثمارات سنوية تتدفق على إيران، وغير ذلك من توقعات لإنجازات، يدرك العارفون أنها دعائية أكثر منها واقعية. دفع هذا الأمر المرشد خامنئي نفسه إلى التحذير من أن ينجح الغرب الذي سدّت عليه إيران باب “المؤامرات” من أن يتسلل من النافذة، لتحقيق ما عجز عن فعله عبر القوة الناعمة والانفتاح والاستثمارات ونمط الحياة الاستهلاكية والمتطلبات العصرية من تكنولوجيا ورفاهية وقيم تخاطب خصوصاً شرائح الشباب في المجتمع الإيراني (نسبة من تقل أعمارهم عن 30 عاماً تبلغ 60 بالمائة من إجمالي السكان). وقد لا يكون خامنئي مخطئاً كلياً في مخاوفه، لأن نظرية أوباما تقوم بالفعل على فكرة أن الولايات المتحدة، ومن ورائها الغرب، قد فشلت في تغيير إيران عبر أربعة عقود من العزلة والحصار، لكنها قد تستطيع تغييرها من خلال عبوات “اليببسي كولا” ونمط الحياة والثقافة الاستهلاكية الأميركية.
من هذا المنطلق، يمكن القول إن إيران تقف على أبواب مرحلة مفصلية في تاريخ ثورتها. ومن هذا الباب أيضاً، يشتد الصراع بين التيارين الكبيرين في الحياة السياسية الإيرانية على خلافة المرشد. ففي إيران التي يقوم نظامها السياسي، وبنص الدستور، على مبدأ ولاية الفقيه، يعد المرشد صاحب القول الفصل في شؤون البلاد، الداخلية منها والخارجية. من هنا، تتأتى أهمية الصراع على المنصب. صحيح أن مؤسسة المرشد لا تستطيع أن تحكم وحدها، في ظل نظام سياسي لا يقل تعقيداً عن النظام السياسي الأميركي، لجهة التوازنات التي يصنعها بين مختلف مراكز القوى (مجلس الخبراء الذي ينتخب المرشد، مجلس تشخيص مصلحة النظام الذي يتأكد من مطابقة القوانين والتشريعات لنظام الجمهورية ودستورها، مجلس صيانة الدستور الذي يصادق على صحة تقدم المرشحين للانتخابات: السلطة القضائية، مجلس الشورى، رئاسة الجمهورية، الحرس الثوري، الجيش النظامي، قوات التعبئة (الباسيج) وزارة الاستخبارات (اطلاعات)) إلا أن المرشد، في النهاية، وباعتباره السلطة الأعلى في الدولة، هو الوحيد القادر على اتخاذ القرار في ظل حالة توازن دقيقة بين مختلف مراكز القوى، وبما يراه في مصلحة النظام.
ونتيجة وعيه بخطورة المرحلة المقبلة، يحرص المرشد، قبل غيابه عن المشهد، على ترتيب موضوع خلافته لجهتين. الأولى أن يتأكد من استمرار خطه السياسي بعد رحيله. لذلك، هو على الأرجح سيعمل ما في وسعه لوصول أكبر عدد ممكن من المتشددين إلى مجلس الخبراء في الانتخابات التي تجري في 26 من شهر فبراير/شباط الجاري. وثانياً أن يتأكد من أنه لن يكون هناك صراع على خلافته، يؤدي إلى تفجير النظام من الداخل وإسقاطه. من هنا، جاء استبعاد مجلس صيانة الدستور أكثر المتقدمين الإصلاحيين لانتخابات مجلس الخبراء، وفي مقدمتهم حفيد الإمام الخميني. ما يغيب عن بال المرشد الذي يفترض أن تكون سنه ومكانته العلمية قد فاضت عليه شيئاً من الحكمة، هو أنه، مهما فعل، لن يستطيع منع التغيير، خصوصاً أنه وصل إلى السلطة من هذا الباب.