لم تعد التهديدات، التي يواجهها الشرق الأوسط، تقتصر على الصراعات الداخلية، والنزاعات الطائفية، التي تصاعدت خلال السنوات الخمس الماضية، وأضعفت كيانات عدد غير قليل من هذه الدول، وأثرت في سيادتها. وبرز خلال العامين الماضيين خطر جديد، هو خطر الدويلات التي لم تعد مجرد سيناريو محتمل، ولكن واقع يتمدد.
وجراء الإخفاق في مواجهة العوامل المحفزة على الصراعات الطائفية والإثنية، باتت الدويلات الجهادية خطرا يهدد بأن يؤثر في ملامح المنطقة بأكملها، وليس فقط الدول التي تواجه صراعات داخلية. هذا الخطر هو خطر الدويلات الجهادية، تلك الدويلات التي أعلنت عن نفسها بوضوح، وطرحت نفسها كبديل للدولة، وعكست تحولا جيوسياسيا قد يدفع نحو تشكيل شرق أوسط مغاير.
تحاول الورقة استشراف مستقبل هذه الدويلات، ومدي تأثيرها في الوضعين الإقليمي والدولي، من خلال الوقوف على محفزات ظهورها، وعوامل مأسستها، وتداعيات استمرارها، انتهاء بوضع سيناريوهات مستقبلية يمكن أن تسهم في الحد من آثارها.
أولا- من الفكر إلي الحركة ومن السيولة إلي المأسسة:
الدويلة هي تصغير كلمة دولة، والدولة هي كيان يضم ثلاثة عناصر أساسية: الشعب، والسلطة، والإقليم، مضافا إليها عوامل أخرى كالاعتراف والسيادة. وتهدف أي دولة إلي إشباع حاجات مواطنيها، والحفاظ على سيادة أراضيها. وقد ظل هذا الوضع لسنوات طويلة معبرا عن “النموذج الوستفالي” الذي برز عقب معاهدو وستفاليا عام 1648، وتعامل مع الدول بعدِّها الفاعل الرئيسي في العلاقات الدولية. ولكن مع التحولات الجديدة، والتحديات المستحدثة، بات الفاعلون عبر القوميين، الذين يتبنون أيديولوجيات ذات مرجعيات دينية، يلعبون دورا في مجريات السياسة العالمية(1).
وفي هذا السياق، ظهرت تنظيمات إرهابية وجماعات مسلحة اتخذت من الإسلام راية، ومن تأسيس دولة إسلامية وإعلان الخلافة هدفا، ومن العنف والإرهاب وسيلة. ورغم أن هذا الهدف متفق عليه وغير قابل للتغيير أو المواءمة في فكر هذه الجماعات، فإنها اختلفت حول كيفية تحقيقه. فبينما رأي بعضها – مثل تنظيم القاعدة – أن محاربة الأمريكيين “الصليبيين”، في رؤية تيارات السلفية الجهادية، هي الخطوة الأولي، رأت جماعات أخرى – مثل “تنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق” (داعش) – أن الوقت قد حان لتأسيس دولة إسلامية. وكان إعلان تنظيم “داعش” الخلافة في يونيو 2014، واختيار أبي بكر البغدادي (زعيم التنظيم) خليفة للمسلمين أول تأسيس لدويلة جهادية على أرض الواقع تحت مسمي الدولة الإسلامية، وتتبعها دويلات شبيهة حاولت محاكاة هذا النموذج، بعد أن تأكد لها إنجازاته على أرض الواقع كإمارة “جبهة النصرة” في سوريا، وإمارة درنة بليبيا، وولاية غرب إفريقيا التي أعلنت عنها “بوكو حرام” في نيجيريا،فضلا عن المحاولات المستمرة لتأسيس إمارة في سيناء، مما ينذر بولادة ظاهرة إقليمية ودولية جديدة(2). عكس تنامي هذه الظاهرة مجموعة من التحولات الفكرية والاستراتيجية لدي التنظيمات الإرهابية، يأتي في مقدمتها:
1- التحول من الفكر الرغبوي، أو ما يطلق عليه التفكير بالتمني، إلي التفكير الواقعي القائم على تحقيق الطموحات، ومن الاعتماد على ما هو متاح إلي تحقيق ما هو مطلوب.
2- تحول تكتيكي في النسق الحركي لبعض التنظيمات الإرهابية، والتي يأتي في مقدمتها “داعش”. فبدلا من محاولة إعاقة ما يتصورونه تمددا لسيطرة القوي الكافرة، ومهاجمة هذا التمدد، فيما بدا نموذجا مناوئا لظاهرة العولمة، بدأ بعض هذه الجماعات ينتقل من مجرد موقع “المناوأة” إلي محاولة الحصول على الأرض كنواة لتأسيس دولة تفرض النموذج السياسي والفكري لهذه الجماعات والتنظيمات، ويمكن توسيع حدودها مستقبلا، وهو ما يعبر عن تغيير في الوسائل، وليس الأهداف(3).
3- اتباع تكتيك “اقتناص الفرصة”، حيث انتظرت هذه التنظيمات الفرصة الملائمة، زمنا ومكانا، لتطبيق نموذجها الفكري على أرض الواقع، فاختارت الوقت الذي وصلت فيه المنطقة إلي تدهور غير مسبوق على كافة المستويات، واختارت المناطق الحدودية الغنية بالموارد، مضافا إليها مناطق الصراعات الداخلية والطائفية لتصبح نقطة انطلاق لها.
4- التحول إلي نموذج إيجابي يقتدي به، حيث حاول تنظيم “داعش” – على سبيل المثال – رسم صورة نموذج ناجح للسيطرة على الأرض، والقدرة على إقامة دويلة جهادية، وهو ما جعله بمنزلة التنظيم الملهم لتنظيمات أخرى في أماكن مختلفة من العالم، وأيقونة للنجاح يعول عليها، وتتم محاكاتها.
ثانيا – محفزات ظهور الدويلات الجهادية:
إن ظهور الدويلات الجهادية كان نتاجا لمجموعة من العوامل، يمكن إجمالها في نوعين:
1- عوامل هيكلية:
وهي تلك العوامل الداخلية النابعة من طبيعة التنظيم وقوته وقدرته على التكيف، فضلا عن السياسات والأدوات التي يستخدمها لتحقيق أهدافه، ويمكن وضع هذه العوامل تحت مظلتين كبيرتين تتمثلان في:
أ- القدرات والإمكانيات، ويتمثل أهمها في:
الجمع بين القوة المادية والناعمة:
من أهم العوامل التي ساعدت التنظيمات الإرهابية على تشكيل دويلات هو حصولها على مقدرات القوة المادية والمعنوية التي تكفل لها الحفاظ على ما حصلت عليه من مكتسبات، وهذا لا يقتصر فقط على القوة العسكرية بما تتضمنه من أسلحة حديثة، وإنما أيضا الموارد البشرية التي وصلت في حالة “داعش” إلي آلاف المقاتلين(4)، بالإضافة للتمويل الذي تحصل عليه من دول أخرى مؤيدة لها، أو من الموارد التي تستغلها في الأراضي التي تحتلها.
إلي ذلك، سعت هذه التنظيمات إلي “تصدير” أيديولوجيتها الفكرية ونموذجها الجهادي من أجل إحداث نوع من العدوي التنظيمية التي ستمكنها في مدي قصير من الحصول على أراض جديدة، واكتساب حلفاء ومؤيدين، من خلال استلهام نموذجها، وإصدار نسخ مصغرة منه، أو محاكية له، معتمدة في ذلك على رسم صورة ذاتية مستحدثة للجهاديين، تقوم مفرداتها على الاهتمام بالزي، والجسد، والتناسق العام، بل ونمط التعليم، ومختلف مناحي إدارة الدولة والمجتمع(5).
التطور في تكتيكات القتال:
دائما ما كانت التنظيمات الإرهابية تتبع تكتيكات حرب العصابات، إلا أنها باتت تمزج بين هذا التكتيك وامتلاك قدرات تقليدية وأسلحة، كانت تعد حصرا على الجيوش النظامية، مثل الأسلحة الثقيلة، ومعدات الاستخبارات والشفرات، وهو ما جعل بعض هذه التنظيمات أقرب إلي جيش نظامي منه إلي ميليشيا مسلحة(6). كما باتت التكتيكات المستخدمة تتسم بالابتكار، مثل استخدام الزوارق المطاطية، وابتكار أسلحة جديدة لا تكتشفها أجهزة الرادارات في المطارات، وهو ما دعم القدرات المادية والعسكرية والفنية لهذه التنظيمات، كما جعلها قادرة على خوض حرب هجين تجمع فيها بين أساليب الحرب التقليدية والعمليات الإرهابية، وحروب العصابات، من أجل تحقيق ميزة استراتيجية، وتجنب المواجهة المباشرة مع خصومها المتفوقين عسكريا(7).
الجذب الإعلامي والتجنيد بأساليب العصر:
لم تعد الجماعات الإرهابية، كما كانت في السابق، تحيا في ماض لا تخرج عن أروقته، بل باتت مطلعة على أحدث التطورات التكنولوجية، وأصبحت أكثر وعيا بأهمية الإعلام في معركتها. وقد ظهر ذلك في تصريح أيمن الظواهري، زعيم تنظيم القاعدة، بأن هناك معركة أكثر من نصفها يتم في الإعلام، ونحن في معركة إعلامية من أجل السيطرة على عقول وقلوب أمتنا(8). من هذا المنطلق، تبذل الجماعات الإرهابية جهدا كبيرا في عملية التجنيد، خاصة تجنيد الشباب، من خلال تطوير خطاب يستهدف رغباته وإحباطاته على السواء، ويستخدم وسائط اتصال حديثة، مثل الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، كالفيس بوك وتويتر وغيرهما(9). وفتحت هذه الجماعات حسابات لها على مواقع التواصل الاجتماعي، وأصدرت مجلات إلكترونية، مثل مجلة “دابق” الداعشية، وامتلكت صفحات إلكترونية تنشر عليها صورا ومقاطع فيديو، تستعرض فيها قوتها وتسليحها، كما تشرح فيها كيفية صنع القنابل، وإجراء الاتصالات المشفرة، وهو ما أدي إلي نشأة فضاء جهادي إلكتروني متطور وواسع الانتشار(01).
الانتشار القاعدي والتوسع الجغرافي:
بدأت التنظيمات الإرهابية في تبني فكرة الخلايا العنقودية الأفقية التي تقوم على السيطرة على أقاليم أو أراض في مواقع مختلفة، بينها قنوات اتصال، لتمتلك مصدرا آخر من مصادر القوة الجيوسياسية. وتشير جغرافية الدويلات التي أسستها هذه التنظيمات إلي انتشار جغرافي واسع النطاق يتركز حول بؤر الصراعات الأهلية في الشرق الأوسط. ففي سوريا والعراق، يوجد تنظيم “داعش” الذي أعلن عن دولته على أراض تنتمي إليهما. وتكرر هذا النمط في ليبيا مع إعلان مجلس شوري شباب الإسلام في مدينة درنة مبايعته تنظيم “داعش” في أكتوبر 2014، هذا فضلا عن تنظيم “جند الخلافة” في الجزائر، وتنظيم “أنصار بيت المقدس” في مصر. وفي السودان، أعلنت جماعة “الاعتصام بالكتاب والسنة” السلفية تأييدها لتنظيم الدولة الإسلامية. ولم تقتصر المبايعات على المناطق القريبة جغرافيا من موطن التنظيم الأم، وإنما امتدت لمناطق أخرى من العالم، مثل جماعة “أنصار التوحيد” في إندونيسيا، وجماعة “أبو سياف” في الفلبين، وتنظيم “أنصار التوحيد” في الهند، مما ينذر بانتشار جغرافي غير مسبوق للدويلات الجهادية(11).
ب- السياسات والأدوات، ويتمثل أهمها في:
استنساخ نموذج الدولة المصغرة:
من أجل ضمان استمرار الدويلات الجهادية واستقرارها، رأت التنظيمات الإرهابية القائمة عليها ضرورة استنساخ نموذج مصغر للدولة، يقوم ببعض المهام المنوطة بها، مثل تقديم خدمات ومساعدات للسكان المحليين أشبه بما تقدمه الدول الوطنية، تشمل إمدادات الكهرباء، والتعليم، والصحة، والأمن، وتوفير المواد الغذائية، على أساس أن تقديم هذه الخدمات سيحقق درجة من الرضا المجتمعي تكفل لها القدرة على البقاء والتوسع. وشكلت هذه الدويلات ميليشيات مسلحة تنهض بمهام الشرطة والجيش، وحاولت فرض سيادة القانون المتمثل في نموذجها لـ”الشريعة الإسلامية”، وأنشأت محاكم شرعية، وباتت لها مصادر تمويل ذاتية، تعتمد فيها على عائدات بيع النفط من المناطق التي تسيطر عليها، مثلما يفعل “داعش”، والسلب، والنهب، والسرقة لما تعده غنائم حرب، والاستيلاء على الأموال الموجودة في البنوك، وفرض فدية مقابل إطلاق سراح من يقعون في الأسر، كما تفرض ضرائب وإتاوات – تطلق عليها زكاة لبيت مال المسلمين – على الأفراد الموجودين داخل حدود الدويلة. وتم تأسيس هيكل بيروقراطي قائم على عدد من الدواوين والمجالس المحلية، وإرساء نظام تعليمي غاية في التطرف والغلو(21).
استغلال الهشاشة المجتمعية:
قامت التنظيمات الإرهابية باستغلال الهشاشة المجتمعية جراء ما تعانيه دولها من تسلط، وفساد سياسي، وتدهور اقتصادي، وتردٍ اجتماعي، وإحباط نفسي. وفضلا عن علاقتها الوظيفية بقوي إقليمية ودولية، استغل “داعش” مخاوف السنة، وإحباطاتهم السياسية، والاقتصادية، والأمنية في كل من سوريا والعراق للسيطرة على أقاليم سنية، وتجنيد عدد كبير منهم، إضافة إلي ممارسة تطهير عرقي وإثني ضد الطوائف الأخرى التي تقطن مناطق تقع تحت سيطرة التنظيم(31). وتقدم هذه الدويلات إغراءات مادية ومعنوية لأي عنصر يتبني أيديولوجيتها، ويكون مستعدا للالتحاق بها، من مناطق مختلفة حول العالم، ليس فقط من أجل القتال، وإنما للإقامة، والبقاء، وتحقيق الذات. وهذا يفسر دعوة أبي بكر البغدادي في يونيو 2014 للباحثين، والقضاة، والأطباء، والمهندسين، وغيرهم ممن لديهم مهارات إدارية وفنية للهجرة إلي “داعش(41).
إرساء سيادة مزعومة وشرعية متوهمة:
تدرك الدويلات الجهادية أنها مهما تحتل من أراض، فإنها لا تمتلك الشرعية الحقيقية التي ستمكنها من البقاء، ولذلك بدأت محاولات للحصول على رضا وقبول السكان السنة في المناطق التي تخضع لسيطرتها(51). وسعي تنظيم “داعش” للحصول على دعم أو تأييد لوجوده وسيطرته من بعض الدول، مثل تركيا وقطر وغيرهما من الدول، سواء بصورة علنية، أو ضمنية، وهو ما يمكن أن يصب في مصلحة شرعيته على المدي الطويل(61).
ولا يقتصر الحصول على الشرعية على المستوى الداخلي أو الدولي فحسب، بل تسعي بعض هذه الدويلات للحصول على شرعيتها من التنظيمات الإرهابية المشابهة(71). ولذلك، قدم تنظيم “داعش” نفسه بحسبانه امتدادا لفكر أسامة بن لادن وأيديولوجيته، مؤكدا اختلافه عن الظواهري، رئيس تنظيم القاعدة الآن. إلا أن التنظيم حاول تجاوز سمته التنظيمية تلك، منتحلا صفات الدولة التي تعلو بقية التنظيمات الجهادية وتتفوق عليها. وفي رسالة إلي الظواهري، قال أبو محمد العدناني، المتحدث باسم الدولة الإسلامية، الرجل الثاني في التنظيم “أنتم منظمة ونحن دولة، فلابد أن تتعهدوا لنا بالولاء، وليس العكس”(81).
2- السياقات المحفزة:
وتشتمل على ثلاثة عوامل تعبر عن البيئة الخارجية التي توجد فيها هذه الدويلات، والمعطيات الإقليمية والدولية التي تدفع في اتجاه تشكيلها واستمرارها، وتتمثل في:
أ- البيئة الداخلية .. معضلة الدولة والمجتمع:
كشفت الدويلات الجهادية عن حالة الضعف البنيوي، والهشاشة الهيكلية لدول المنطقة، خاصة بعد موجة الثورات، حيث تحول بعض هذه الدول إلي ساحات للصراع الداخلي والاقتتال الطائفي، ومسرح للتدخلات الخارجية، مما أزاح الستار عن واحدة من أعقد المعضلات التي تواجهها هذه المنطقة، وهي معضلة الدولة والسيادة. وفتح انهيار الدول، جزئيا أو كليا، وما تبعه من فوضي، وعدم قدرة الدولة على السيطرة على أراضيها، أو حماية حدودها، أو حتي تحقيق الأمن لمواطنيها (91)، المجال أمام التنظيمات الإرهابية للسيطرة على أراض، وتشكيل دويلات خاصة بها، وتأسيس نمط مستقل من السلطة في المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة القومية(02).
ولا تقل معضلة المجتمع أهمية عن معضلة الدولة وسيادتها، حيث كشفت الثورات العربية عن مخزون ضخم من المشاعر السلبية، والسخط الاجتماعي، والانكشاف المعرفي، والنضوب الفكري، وعن معضلات سياسية واقتصادية كثيرا ما غيبتها وطأة استبداد الأنظمة الحاكمة. ولم تستطع قوي التغيير التغلب على كل هذه المشكلات، فتفاقمت، وتزايدت معها معدلات العنف، وعادت التقليدية التاريخية لتطفو على السطح من جديد، وتسارعت وتيرة الصراعات الطائفية والأهلية، خاصة في ظل تراجع قدرة الدولة على إنفاذ القانون، واحتكار القوة المادية، وهو ما استغلته التنظيمات الإرهابية، سواء بالتدخل في الصراع مع طرف ضد آخر، أو باختيار بؤر هذه الصراعات كمراكز للدويلات الوليدة(12).
ب- البيئة الإقليمية.. الصراعات المستترة:
بات باديا للعيان أن المناخ الإقليمي الذي تشكلت هذه الدويلات في رحابه مثل بيئة حاضنة لها، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. فالصراعات التي ظهرت في المنطقة – الداخلية منها والخارجية – مهدت الطريق لمأسسة التنظيمات الإرهابية، وتحولها إلي دويلات جهادية، خاصة في ظل نظام إقليمي عربي متهالك يشهد حالة من إعادة التشكيل، عقب اندلاع الثورات، لم تنته ملامحها بعد، وإن كانت أسهمت في إبراز مدي ضعفه، وعدم قدرته على التكيف مع المعطيات المتغيرة، وكشفت عن حالة من القابلية للاختراق تعانيها دول الإقليم سياسيا، واجتماعيا، وأمنيا، كما أظهرت مدي شكلية آليات الأمن الجماعي المتعثرة.
وأسهمت حالة ضعف الدولة العربية، وتفكك النظام العربي في جعل هذه الدول فضاء لتدخلات واسعة من قبل دول الجوار، وساحة لتنافسها من خلال مختلف أدوات التدخل، سواء بمحاولات مد الهيمنة والنفوذ على أطراف سياسية وإثنية داخلية تخوض صراعات بالوكالة عن هذه الدول داخل الدولة العربية، كما يتجلي في الحالة السورية، أو حتي من خلال التدخل العسكري المباشر، كما نشهد من وجود عسكري إيراني في سوريا، أو توغل قوات تركية في العراق(22). وبالرغم من بروز الدورين التركي والإيراني في هذا الصدد، فإن إسرائيل هي الأخرى حاضرة بقوة في معركة اختراق الدولة العربية تلك، التي كانت محصلتها مزيدا من هشاشة العديد من الدول العربية وتفككها. واستغلت دول الجوار العربي التنظيمات الإرهابية كوسيلة لتحقيق مصالح خاصة، مثل تركيا التي دعمت تنظيم “داعش”، وفتحت له طرق التموين والإمداد عبر الحدود لاستخدامه لفرض معادلات قوة وصراع معينة في الساحة السورية، ليس فقط في مواجهة النظام السوري المدعوم إيرانيا، ولكن أيضا في مواجهة الأكراد(32).
كما أن دول القرن الإفريقي، وأهمها إثيوبيا وإريتريا، اتخذت علاقتهما مع النظام العربي شكلا صداميا، حيث اتسعت الصراعات لتتعدي النزاعات الحدودية، وامتدت للتأثير في الأمن المائي العربي، خاصة في مصر والسودان.
ج – البيئة الدولية .. نظام دولي مأزوم:
يمر النظام الدولي بحالة فريدة من التأزم، قوامها الاضطراب في الهيكل، والارتباك في الأداء، والضعف في الإرادة والإدارة، والعجز عن التكيف مع التغيرات الجوهرية، فضلا عن فشل قواه الكبري في احتواء التدهور الآخذ في الانتشار، وهو ما جعل البعض يطلق على هذه الحالة “توازن الضعف”((24). وقد كشفت أزمة الدويلات الجهادية عن هشاشة النظام الدولي، الذي أتاح الفرصة لها لتحقيق أهدافها، وذلك على ثلاثة مستويات، هي: (1) استغلال تضارب المصالح وصراعات القوي الكبري التي لا تزال تخوض مساومات عسيرة لتشكيل تحالف دولي ضد الإرهاب، فيما يتمدد تنظيم “داعش” في الأراضي التي سيطر عليها، ويحاول ترسيخ دولة خلافته، (2) عدم القدرة على احتواء سلوك القوي المتوسطة التي تدعم التنظيمات الإرهابية تحقيقا لبعض الغايات المرحلية في بؤر الصراع الإقليمي، مثل حالة تركيا، وإتاحتها الدعم لتنظيم “داعش” لفترة غير قصيرة، وكذلك قطر التي وفرت للعديد من التنظيمات الجهادية المسلحة – وبحسب اتهامات عدد من الدول الأوروبية – دعما ماديا وإعلاميا، وقناة للوساطة مع أطراف إقليمية ودولية، خاصة لـ”جبهة النصرة”، (3) الاستفادة من حالة السيولة التي يعانيها النظام الدولي، وتردد القيادة الأمريكية، وبروز قوي مراجعة عديدة لانفرادها بقيادة النظام الدولي، خاصة في الشرق الأوسط، مما حال دون قدرة الولايات المتحدة على بناء استراتيجية عالمية متماسكة لمواجهة التنظيمات الإرهابية. ولا ننسي في هذا الإطار خبرة الولايات المتحدة السلبية في التدخل العسكري في العراق وأفغانستان، وهو ما يدفع في اتجاه التأرجح بين التدخل البري، والاكتفاء بضربات جوية لا تحقق الكثير.
ثالثا – التداعيات وسيناريوهات المستقبل:
من خلال القراءة الأولية للمشهد الإقليمي الراهن، يتضح بروز الدويلات الجهادية في صدر هذا المشهد. ويمكن الحديث عن بعض التداعيات والسيناريوهات المستقبلية فيما يأتي:
1- تداعيات الدويلات الجهادية، ويأتي في مقدمتها:
أ- التداعيات السياسية والأمنية:
أساهمت هذه الدويلات في تزايد أزمات الدولة التي تعانيها منطقة الشرق الأوسط، والتي جعلت تهديدات التصدع، والانحلال الداخلي، وتحلل السلطة، وفشل الدولة، وتعرض وحدتها الإقليمية، ووجودها القانوني للخطر، تواجه بالفعل عددا كبيرا من دولها، مثلما يبدو الحال في سوريا، والعراق، وليبيا، واليمن. لكن أيضا، فإن هذا الخطر يبدو محدقا بعدد آخر من الدول، سواء التي يمكن أن تستهدفها الدويلات الجهادية مباشرة، مثل لبنان، أو تحاول نقل عدواها إليها، مثل بعض دول الخليج العربية، وتونس، والجزائر، ومصر. إلي ذلك، فإن ما خلفته هذه الظاهرة من نزوح عدد كبير من اللاجئين إلي دول أخرى بات مصدرا لمشكلات سياسية، وأمنية، واجتماعية للعديد من دول المنطقة، فضلا عن الاختراق الخارجي الذي بات سمة أساسية من سمات المنطقة.
ب- التداعيات الاجتماعية والاقتصادية:
أدت حدة عدم الاستقرار التي خلفها تشكيل هذه الدويلات إلي عودة الانتماءات الأولية، والتكوينات العشائرية، والصراعات الطائفية لتصدر المشهد من جديد في مجتمعات الإقليم، وذلك بسبب ضعف دور الدولة المركزية، وفقدانها السيطرة الأمنية والسياسية على أراضيها، وعلى مكوناتها المجتمعية، فتصاعدت قضايا الأقليات، في ظل مجتمعات معقدة التركيب الإثني، والطائفي، والعرقي، والقومي، وهو ما ينذر بحقبة ممتدة من الحروب الأهلية(52).
ومن شأن فرض نمط للصراع الإثني/المذهبي القائم على انتماءات أولية، وأنساق مصالح جامدة، أن يسهم في تآكل البناء الطبقي في تلك المجتمعات، خاصة الطبقة الوسطي.
أما على الصعيد الاقتصادي، فإن استمرار الاضطرابات الأمنية، والصراعات المسلحة من شأنه أن يفرض مزيدا من الضغوط الاقتصادية على كثير من دول الأزمات بسبب هروب الاستثمارات الأجنبية، وانهيار البنية التحتية، وتفاقم المشكلات الاقتصادية، وضعف القدرة على السيطرة على الموارد الاقتصادية. بل وتسهم نشأة تلك الدويلات الخارجة عن أي أنظمة لإدارة استغلال موارد المنطقة الاستراتيجية في توليد صراعات وأزمات في المنطقة، مثلما حدث عقب انخفاض أسعار النفط – والذي كان أحد أسبابه بيع التنظيمات الإرهابية له بأسعار أقل من السوق العالمية – حيث تصاعد التوتر بين إيران من جهة، والسعودية والكويت من جهة أخرى، حيث اتهمتهما الأولي بالمسئولية عن انهيار أسعار النفط، وهو ما ينذر بأزمة بين الدول الإقليمية المصدرة للنفط. ويهدد استمرار انخفاض أسعار النفط، بتراجع دور الدولة الريعية بشكل يمكن أن يؤدي إلي ارتفاع سقف التوترات الاجتماعية في بعض دول المنطقة.
ج- التداعيات الثقافية والفكرية:
يمكن تسمية هذه التداعيات بتداعيات الأمد الطويل، لأن تأثيرها سيتعاظم بمرور الوقت كنتيجة لسياسات الدويلات الجهادية التي تقوم بعمليات غسل مخ لشباب كان من الممكن أن يشكل قوة ناهضة لمجتمعاته، كما تقوم بنشر أيديولوجيتها الفكرية، وأفكارها المتطرفة، ودينها المغلوط، من خلال نظام تعليمي وإعلامي محنك قائم على استراتيجية فكرية طويلة الأمد، تهدف لتغيير الثقافة القائمة من وسطية معتدلة إلي أخرى متطرفة ومتشددة، مما سيترتب عليه مشكلات ثقافية عديدة لن تقتصر على الأقاليم التي تحتلها هذه الدويلات فحسب، وإنما ستطول مجتمعات كانت تظن أنها بعيدة عن التطرف، فكرا وعملا، كما ستسهم في خلق توجه فكري ونفسي أكثر قبولا للإرهاب والتطرف، وأكثر تماشيا مع استخدام أعنف الأساليب لتحقيق الأهداف، فضلا عن زعزعة الانتماءات الوطنية المنبثقة من الدول القومية لمصلحة انتماء أممي ينبذ فكرة الدولة(62).
د- التداعيات الإقليمية والدولية:
تعد هذه التداعيات الأكثر خطورة وتعقيدا، فقد نالت هذه الظاهرة من استقرار النظام الدولي، وبات التغيير وشيكا، وأكثر عمقا وراديكالية مما كان متوقعا، كما أصبح هدف تحقيق الأمن والسلم الدوليين بعيد المنال، وبرزت على السطح صراعات بين دول إقليمية ودولية، مثل روسيا وتركيا. كما عادت أجواء الحرب الباردة تخيم على النظام، في ظل تصاعد متواتر للدور الروسي في المنطقة، واضطراب الدور الأمريكي، ممايهدد بحدوث حرب بالوكالة في هذا الإقليم المضطرب، فضلا عن إطلاق يد الدول الكبري في مناطق نفوذها، مثلما حدث في أزمة روسيا وشبه جزيرة القرم.
أما على المستوى الإقليمي، فقد شهدت هذه المنطقة ما يمكن أن نطلق عليه “فوضي حروب”، حيث أصبحت مسرحا لكل أنواع الحروب في الوقت ذاته، بدءا من الحروب الداخلية Intrastate Wars وانتهاء بالحروب العابرة للحدود Extra-State War . فثمة حروب تجري بين الميليشيات وبعضها بعضا داخل الدولة الواحدة، وتقاتل جميعها تقريبا ضد القوات النظامية، وتقاتل الأخيرة ضد ما تعده جماعات تمرد على السلطة القائمة، كما في سوريا وليبيا. وهناك حروب بين الدولة وتنظيمات إرهابية في العراق واليمن، وحروب عابرة للحدود، كما في حالة “داعش”(72).
وتشير هذه الفوضي إلي حدوث تحول في النمط التقليدي للحروب نحو نمط من الحروب المركبة، أو الشاملة المدولة، تجمع بين أنواع مستحدثة منها، أولها: الحروب اللامتماثلة بين دول وفاعلين من غير الدول، ، ثانيها: الحروب الهجين التي تستخدم فيها التنظيمات المسلحة خليطا من تكتيكات الحرب النظامية، والحروب اللامتماثلة(28)، ثالثها: الحروب الذكية التي تعتمد على أسلحة تكنولوجية دقيقة ومتطورة ومرتفعة الثمن، لا يستخدمها إلا عدد قليل من الدول، مثلما هو الحال في حرب الدرونز.
كل ذلك يمكن أن يعيد تشكيل خريطة الإقليم، وربما حدود دوله، ومؤسساته، ويعيد النظر في النظام الإقليمي العربي. فمن ناحية، أبرزت ضعفه وعدم قدرته على التكيف مع المتغيرات المستحدثة. ومن ناحية أخرى، تعزز دعاوي إعلان إسرائيل، بحسبانها دولة دينية يهودية، شبيهة بالدولة الدينية الإسلامية، المزمع تأسيسها. كما أسهمت في إضعاف الدول العربية، وتدمير جيوشها، وتمزيق كيانها السياسي والاجتماعي.
2- سيناريوهات المستقبل:
رغم صعوبة التنبؤ بما يمكن أن تئول إليه ظاهرة الدويلات الجهادية، فإنه يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات مستقبلية:
أ- السيناريو الكارثي .. الفوضي وإعادة التشكيل:
يفترض هذا السيناريو نجاح الدويلات الجهادية في البقاء والتوسع، واستنساخها في أماكن أخرى من العالم، وتشعب التنظيمات الإرهابية المؤسسة لها في دول كانت تعد حلما في فكر المجاهدين، ويصنفونها ضمن الدائرة الأبعد، كآسيا، وأوروبا، والأمريكتين، وذلك اعتمادا على استمرار تمويلها، وفشل التحالف الدولي في الاتفاق حول صيغة موحدة لشكل العمليات الموجهة ضد هذه التنظيمات، فضلا عن تزايد قوتها المادية والعسكرية، وقدرتها على تعويض الخسائر البشرية التي تُمني بها، علاوة على نجاحها في نيل رضا السكان الأصليين، وفي إدارة الإمارات التي تشكلت تحت رايتها.
ويشير هذا السيناريو إلي وضع كارثي يمكن أن يحل بالمنطقة بأكملها، فضلا عن التداعيات التي يمكن أن تصيب المجتمع الدولي ككل. فمن ناحية، سيعاد تشكيل منطقة الشرق الأوسط لتصبح بؤرة مركزية للتنظيمات الإرهابية، وإقليما منتجا ومصدرا لكافة أنواع الصراعات الطائفية والمذهبية، وسيتم استنساخ نسخ “داعشية” كثيرة، واستلهام نموذج الدويلات الجهادية، فضلا عن انهيار النظام الإقليمي العربي وما يتبعه ذلك من تفكك للدول العربية، وانفراط عقدها، علاوة على زيادة التدخلات الخارجية، التي ربما تعيد إنتاج مفاهيم جديدة للاستعمار في أشكال أخرى غير تقليدية.
ب- السيناريو الحالم .. الاستقرار والتغيير الجزئي:
يناقض هذا السيناريو التصور سابق الذكر، حيث يفترض فشل الدويلات الجهادية في إحكام السيطرة على المناطق التي تحتلها، ومن ثم تقويض ركائزها، وتجميد توسعاتها إلي أجل غير مسمي. ويعتمد هذا السيناريو على تصورين، أحدهما يتعلق بـ”التداعي من الخارج”، الذي يعني نجاح التحالف الدولي في الحد من هذه الظاهرة، من خلال إعمال كافة الوسائل العسكرية، والاقتصادية، والاجتماعية، والفكرية، وعدم الاقتصار على ضربات جوية موجعة للخصم، لكنها غير منهية للأزمة، وقيام الدول المتقاعسة في المنطقة بإسهام حقيقي في تجفيف منابع تفريغ الإرهابيين والجهاديين، وضمان عدم وصول إمدادات مادية وبشرية إليهم، فضلا عن تعافي الدول العربية من الأزمات التي ألمت بها، وتفعيل الأمن الجماعي العربي، والتوحد حول مواجهة هذا الخطر، ولن يتم ذلك إلا بتحول استراتيجي، وتكتيكي، وفكري حقيقي لدول الإقليم، جنبا إلي جنب مع دول العالم.
أما التصور الآخر، فيراهن على “الانفجار من الداخل”، بمعني تداعي هذه الدويلات بفعل أزمات ذاتية تنفجر من داخلها، يأتي في مقدمتها فشل الدويلة في إدارة المناطق التي تخضع لسيطرتها، نتيجة افتقارها للخبرة والموارد البشرية والمالية. أضف إلي ذلك الانشقاقات التي تحدث داخل الدويلة الواحدة، مثلما حدث في الدولة الإسلامية، التي باتت تواجه استياء عاما داخليا، نتيجة الاختلاف في تطبيق الشريعة من قبل الأمراء ذوي الخلفيات المختلفة، كما تواجه أيضا معارضة داخلية دفعت البعض للفرار، وصراعات بين مقاتليها على الزعامة والسلطة، علاوة على فشلها في التعامل مع الاختلافات الداخلية، ولجوئها لاستخدام العنف داخليا مع من جرؤ على انتقاد الدولة والتنظيم، ومن ذلك إعدام” أبي لقمان”، أمير الرقة، في يناير 2015، بعد أن تحدي أبا بكر البغدادي في يونيو 2014، قائلا إنه كان ينبغي أن تتاح له الفرصة ليصبح أميرا للمؤمنين(92).
ولا ننسي في هذا الإطار الانشقاق المتزايد بين تنظيم القاعدة والدولة الإسلامية، والذي ينم عن صراع على زعامة التنظيمات الجهادية، إلي جانب استعصاء بعض المناطق على السيطرة، كالمناطق الشيعية في العراق، أو الكردية في سوريا، وهو ما يحد من انتشار التنظيم، ويجعله أكثر تمركزا في المناطق التي يسيطر عليها خوفا من فقدانها، فضلا عن التحديات الأمنية التي تواجهها الدولة الإسلامية، والتي دفعت القيادات التنظيمية للتباطؤ في الاتصال بالجماعات الإرهابية الأخرى التي أعلنت تبعيتها لها خوفا من احتمالات التجسس، بالإضافة إلي انكشافها الأمني، بعد تحولها من كيان لا مركزي غامض إلي آخر واضح، يمكن استهداف قياداته، ومقدرات تمركزه.
ورغم أن هذا النموذج هو الأبعد عن الواقع القريب، فإنه يظل سيناريو مرغوبا فيه، كونه الأكثر أمانا واستقرارا. ورغم ذلك فإن حدوثه لا ينفي تحديات كثيرة ستنجم عنه، يأتي في مقدمتها عودة الدويلات الجهادية إلي شكلها الأصلي، المتمثل في التنظيمات الإرهابية، التي تقوم بعملياتها على غرار تنظيم القاعدة، فضلا عن عودة الصراعات الداخلية في الدول العربية لشكلها الطبيعي ذي الخلفية المذهبية، والطائفية، والسياسية بين فصائل داخلية، وأنظمة، ومعارضة. كما ستظهر إشكالية أخرى يعدها الكثيرون بمنزلة قنبلة موقوتة، هي عودة الكوادر الإرهابية والمجاهدين إلي أوطانهم، ليكون أمامهم أحد خيارين، إما الانضمام إلي جماعات إرهابية أخرى، أو التحول لخلايا نائمة تنتظر الفرصة الملائمة للاستيقاظ من سباتها، فضلا عن خطر التعرض للانتقام من التنظيمات الإرهابية التي ستنبثق من رحم الدويلات الجهادية المنحلة، مما سيزعزع أمن الإقليم، بل والعالم كله.
الثالث – الاستقرار المؤجل:
يعد هذا السيناريو الأكثر واقعية، مقارنة بسابقيه، حيث يفترض حدوث صراع طويل الأمد بين قوات التحالف والقوي المضادة لفكرة الدويلات الجهادية من جهة، وتلك الدويلات والتنظيمات الإرهابية الداعمة لها فكريا وماديا من جهة أخرى. ويستند هذا السيناريو إلي حدوث فترة انتقالية غير معلومة مدتها، وإن كانت أقرب للامتداد الزمني، سيحدث فيها صراع بين قوي نظامية، وأخرى غير نظامية، تستخدم فيها كافة أنواع الأسلحة المادية وغير المادية، وستتوقف مدة هذه الفترة الانتقالية على: (1) قدرة هذه الدويلات على إرساء مقومات دول حقيقية، بما فيها من شعب، وإقليم، وسلطة، وعلى استمرار حصولها على الدعم المادي، والفني، والبشري الذي يتيح لها استمرار عملياتها في الوقت الذي تدير فيه الأقاليم التابعة لها، (2) قدرة هذه الدويلات على التكيف مع التناقضات التي تظهر بداخلها، والتحديات التي تواجهها، ومدي مرونتها في إدارة الاختلافات المرجعية لمقاتليها وسكانها، ومنع تحولها لقنبلة تنفجر من داخلها، (3) قدرة التنظيمات الإرهابية على التنسيق الداخلي، وتخطي الخلافات الأيديولوجية تحقيقا لهدف أكبر وأسمي، هو دولة الخلافة، (4) مدي وعي التحالف الدولي وقدرته على تخطي الخلافات الداخلية، ومدي استشعاره خطر هذه الدويلات على أمن دوله القومي، وهو ربما ما حدث جانب منه بعد هجمات باريس، وما تعرضت له روسيا وتركيا، (5) مدي استيعاب دول العالم، لأن الخطر لا يكمن في “داعش” وحده، وإنما في كافة التنظيمات الإرهابية، والدويلات الجهادية الشبيهة، (6) إدراك القوي الوطنية الداخلية في البلدان العربية أن تحالفها مع هذه التنظيمات لن يؤدي لتحقيق أهدافها وتطلعاتها السياسية، وإنما سيؤدي لتقويضها على المدي البعيد، (7) مدي قابلية الدول العربية للتعافي من عثراتها، وقدرتها على التحول من دول فاشلة إلي أخرى ذات سيادة حقيقية على أراضيها، (8) مستقبل الصراعات الداخلية القائمة في المنطقة، لاسيما في العراق، وسوريا، واليمن، وليبيا، والتي تقدم للمنطقة مخزونا هائلا من الفوضي الأمنية، والخدمات اللوجيستية، والبيئات الحاضنة للتنظيمات الإرهابية، (9) نتائج عمليات التحالف الدولي ضد “داعش”، والتي بدأت في أغسطس 4102، والتي يمكن أن تضع حدا لظاهرة الدويلات الجهادية.
ستحدد العوامل مجتمعة طول الفترة الانتقالية التي سيمر بها الإقليم، وملامحها. ورغم صعوبة التكهن بأي من هذه السيناريوهات ستكون له الغلبة على أرض الواقع، فإن السيناريو الأخير هو الأكثر ترجيحا، لأن الدويلات الجهادية – رغم كونها خطرا داهما – ليست عصية على المجتمع الدولي، في حالة اقتناعه بأنها خطر عالمي يمكن أن يصل إلي أراضيه. كما أن هذه الدويلات أبعد عن أن تكون”قوة لا تقهر”، فمواردها، رغم تزايدها، لا تزال محدودة بالنسبة لدول العالم، كما أنها ظاهرة غير طبيعية نشأت في إقليم، مستغلة نقاط ضعف مجتمعية وسياسية فيه، يمكن معالجتها في آجال ليست بعيدة. ولا ننسي في هذا الإطار إمكانية استغلال التناقضات الداخلية داخل هذه الدويلات، والتي يمكن أن تؤدي إلي انهيارها من الداخل.
ومع هذه التكهنات، وتلك الاحتمالات، يظل المؤكد أمرا واحدا، هو أن هذه الدويلات ستظل عامل توتر في النظام الدولي لأمد ليس بالقصير. والأغلب أن الصورة التي كان عليها إقليم الشرق الأوسط لن تعود إلي سابق عهدها، فقد حدث تحول، إن لم يكن جذريا، فهو كبير لدرجة ستغير أجزاء الصورة، وتعيد ترتيبها.
خاتمة:
رغم أن الدويلات الجهادية باتت مصطلحا متداولا معبرا عن واقع ملموس، فإنها تظل في حقيقتها أقرب إلي كيانات شبه دول منها إلي دويلات. وإذا كانت تلك الكيانات باتت تسيطر على أرض، فإنها تظل بلا شعب حقيقي راغب طواعية في العيش تحت لوائها، ومعظم الموارد المالية المتاحة لها من وسائل غير مشروعة، وتمتلك هيكلا تنظيميا هرميا أقرب إلي هياكل التنظيمات، وليس الدول، فضلا عن ضعف في الجهاز البيروقراطي – إذا سميناه كذلك تجاوزا – علاوة على نظام قضائي هش لا يصلح لإدارة مجتمعات تتنوع فئاتها وطوائفها، ولا تملك من أدوات الدولة الدبلوماسية والقانونية سوي العنف والإرهاب، ومهما يطل الأمد، فلن تحصل على اعتراف دولي، أو سيادة مشروعة، فكيف لها أن تحيا كدول وهي لا تملك أقل القليل من مقومات الدولة؟
إن محاولات اصطناع هذه الدويلات تخالف النشأة الطبيعية للدول التي يوجد فيها شعب يريد العيش في هذه الأرض ليختار بحريته سلطة يرتضيها. وإن طال الوقت أو قصر، فسيأتي اليوم الذي تنتصر فيه قوي الاستقرار على التغيير، لتعود هذه الدويلات إلي شكلها الأصلي كتنظيمات إرهابية تعمل في السر، لا العلن.
الهوامش:
(1) Cullen S.Hendrix, “Measuring State Capacity: Theoretical Implications for the Study of Civil Conflict”, Journal of Peace Research, Vol47., No3., 2010, pp. 273-275.
(2) Rob Page, “ISIS and the Sectarian Conflict in the Middle East”, Research Paper, No.15-16, House of Commons, March 2015, pp. 26-28.
(3) Jessica Lewis Mcfate, “The ISIS Defense in Iraq and Syria: Countering an Adaptive Enemy”, Middle East Security Report, No. 27, Institute for the Study of War, May 2015, p.9.
(4) “Nations Trying to Stop Their Citizens From Going to Middle East to Fight for ISIS”, New York Times, 12 September 2014.
(5) “March of the Armchair Jihadi”, Financial Times, 14 January 2015.
(6) Jessica D.Lewis, “The Islamic State: a Counter Strategy for a Counter-State”, Middle East Security Report, No21., July2014, p.17.
(7) Joseph Schroefl & Stuart Kaufman, “Hybrid Actors, Tactical Variety: Rethinking Asymmetric & Hybrid War”, Studies in Conflict & Terrorism, Vol. 37, Issue 10, 2014, pp. 866-868.
(8) George Michael, “The New Media and the Rise of Exhortatory Terrorism”, Strategic Studies Quarterly, Vol7., Issue1, Spring 2013, pp. 50-55.
(9) لمزيد من التفاصيل، انظر:
– Jytte Clausen, “Tweeting the Jihad: Social Media Networks of Western Foreign Fighters in Syria and Iraq”, Studies in Conflict and Terrorism, Vol38., No1., January 2015.
(10) T.X. Hammes, “Fourth Generation Warfare Evolves, Fifth Emerges”, Military Review, Vol87., No3., May-June 2007, pp. 22-23.
(11) على بكر، أبعاد الحالة الداعشية في ليبيا، السياسة الدولية، عدد 200، أبريل 2015، ص.166
(12) حسن أبو هنية، البناء الهيكلي لتنظيم الدولة الإسلامية، في: فاطمة الصمادي (تحرير وإشراف)، تنظيم الدولة الإسلامية: النشأة، التأثير، المستقبل، الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، نوفمبر 2014، ص ص35-.40
(13) David Siddhartha Patel, “ISIS in Iraq: What We Get Wrong and Why 2015 Is Not 2007 Redux”, Middle East Brief, Crown Center for Middle East Studies, No87., January 2015, pp. 4-5.
(14) Lina Khatib, The Islamic State’s Strategy: Lasting and Expanding, Carnegie Middle East Center, June 2015, pp. 11-12.
(15) Charles C.Caris, Samuel Reynolds, “ISIS Governance in Syria”, Middle East Security Report, No22., July 2014, pp. 17-22.
(16) “Qatar Urges West to Back Syrian Moderates against Assad”, Financial Times, 14 September 2014.
(17) Ahmed Rashid, “ISIS Extends its Reach but the Roots of Other Groups go Deeper”, Financial Times, 11 December 2014.
(18) Lina Khatib, Op.Cit, pp. 10-15.
(19) محمد عز العرب، الحدود السائبة: المشاكل المستعصية لضبط مناطق الحدود بالشرق الأوسط، اتجاهات الأحداث، المجلد الأول، العدد الأول، أغسطس 2014، ص.49
(20) Arnaud Blin, “Armed Groups and Intra State Conflicts: The Dawn of anew Area”, International Review of the Red Cross, Vol93., No882., June 2011, pp. 2-4.
(21) Nava Sonnenschein, Zvi Bekerman & Gabriel Horenczyk, “Threat and the Majority Identity”, Group Dynamics: Theory, Research and Practice, Vol14., No1., 2010, p.48.
(22) “Iran Says It’s Willing to Fight ISIS, for a Price”, Newsweek, 29 September 2014.
(23) “Turkey Accused of Colluding with ISIS to Oppose Syrian Kurds and Assad following Surprise Release of 49 hostages”, Independent, 21 September 2014.
(24) وحيد عبد المجيد، توازن الضعف في النظام العالمي، السياسة الدولية، العدد 201، يوليو 2015، ص.6
(25) Dina Esfandiary, Ariane Tabatabai, “Iran’s ISIS Policy”, International Affairs, 91: 2015, 1, p.1.
(26) Martin Wolf, “How to Share the World with True Believers”, Financial Times, 14 January 2015.
(27) Craisor-Constantin Lonita, “Is Hybrid Warfare Some Thing New”, Strategic Impact, No4., 2014, p.62.
(28) Robert Wilkie Hon, “Hybrid Warfare, Something Old, Not Some Thing New”, Air& Space Power Journal, Vol23., No4., Winter 2009, pp. 14-15.
(29) Lina Khatib, Op.Cit, p.21.
د.داليا رشدي
مجلة السياسة الدولية