كان ذات مرة نصباً تذكارية محفوظة لتخليد ذكرى مئات المدنيين العراقيين الذين قتلتهم القنابل الأميركية وهم نائمون، والذي يشكل رمزاً قوي الدلالة للمعاناة، والذي اعتنقته الآلة الدعائية لحاكم استبدادي.
كان تدمير ملجأ العامرية، الواقع في ضاحية بغدادية للطبقة الوسطى يوم 13 شباط (فبراير) من العام 1991 في بداية حرب الخليج الأولى، قد أسفر عن مقتل 408 من المدنيين بأسوأ طريقة ممكنة: معظمهم دُفنوا أحياء. وتقف تلك الحادثة لتكون الأكثر إماتة من نوعها من حيث الخسائر المدنية في التاريخ المؤلم للولايات المتحدة في العراق، والذي مضى عليه الآن ربع قرن.
على مدى أعوام، حرص صدام حسين على إبقاء ذلك الحادث محفوراً في الذاكرة الجماعية العراقية، وعلى استحضاره في الأفلام والأغاني والأشعار والمناسبات. وكان الملجأ مكاناً دائماً للتوقف، حين يتعين على الوفود الزائرة والمراسلين الصحفيين الأجانب التعريج عليه في عراق صدام حسين المسيطر عليه بإحكام.
وهذه الأيام، بعد 25 عاماً لاحقاً، مرت الذكرى مرور الكرام ومن دون أن تلحظ تقريباً. وتجدر الإشارة إلى أن ثمة وحدة من الجيش العراقي تشغل راهناً مكان الملجأ. ولم يعد الموقع مفتوحاً أمام حج العامة إليه، على الرغم من أن بعض الناجين أو أفراد عائلات القتلى يلقون الترحيب بين الفترة والأخرى من جانب الجنود الذين يأخذونهم في جولة في جنبات الصرح.
قبل أيام قليلة، وفي يوم الذكرى، استقبل رجلان من الضاحية هما الآن في الستينيات من العمر أحد المراسلين الصحفيين وتحدثا عن ذكرياتهما. وطبقاً لهما، فإن كلا منهما فقد العديد من أفراد عائلته في الهجوم، كما ساعد كل منهما في جمع الأشلاء المقطعة ووضعها في سيارات الشحن.
وأشار أحد الرجلين، حسين عبد الله، 63 عاماً، وهو سائق شاحنة متقاعد، إلى القبور المهملة والمتشظية التي نمت عليها الأعشاب والنباتات البرية وقال: “هذه مجرد أسماء. ليست هناك جثامين مدفونة هنا. كانت الأجساد قد احترقت عن بكرة أبيها. ولم نستطع معرفة الجثامين”.
والآن، بعد تجريده من هدفه السياسي، يقف الصرح نفسه ليكون كبسولة زمن حزينة ومهملة. وفي الأثناء، ما يزال البناء تماماً مثلما تركته القنابل الأميركية المضادة للتحصينات، أشبه بندبة في مشهد المدينة فاقدة المعالم هي أيضاً بفعل الضربات منذ اندلاع الحرب في العام 2003. ثمة ثقب عملاق في السقف وحفرة ضخمة في الأرض، ولفائف متشابكة ومعقدة من الأسلاك وقضبان الفولاذ الناتئة.
في زوايا مظلمة في الأسفل، ثمة بقايا مغبرة لما كان المكان يعنيه ذات يوم -وما يزال يعنيه بدرجة ما- للأمة العراقية: صور بالأبيض والأسود للضحايا، مرتبة حسب العائلات، مثبتة إلى لوحات إعلانية، لكنها لم تعد تتدلى من الجدران. وتعود العديد من تلك الصور لأطفال صغار: حسين علاء إبراهيم وشقيقته سماح؛ مراد خادم عباس وشقيقه أمجد؛ كرار طالب وشقيقته هديل.
وثمة ملصق ممزق من الذكرى الثانية للتفجير، والذي يحمل وجه السيد صدام حسين إلى جانب كلمات: “الانتماء والتحدي: الذكرى الثانية لأم المعارك الخالدة”.
بالنسبة لرجلي الضاحية، كانت ذكرى قصف الملجأ مناسبة للتذكير بفكرة صارخة: لقد بدأت حرب الخليج في كانون الثاني (يناير) 1991، وما تزال الولايات المتحدة تستخدم جيشها حتى الآن لتأطير التطورات في العراق منذ أكثر من ربع قرن. وما من نهاية في الأفق. وسيكون الرئيس الأميركي التالي بالتأكيد تقريباً هو الخامس على التوالي الذي يصدر أوامره بتوجيه ضربات جوية في العراق.
على الدوام، كانت هناك الكثير من التسويغات: طرد جيش السيد صدام حسين من الكويت واحتواء برامج أسلحته غير التقليدية؛ وحماية الأكراد في الشمال والشيعة في الجنوب؛ والقيام بغزو واسع النطاق واحتلال من أجل خلع السيد حسين وتأسيس ديمقراطية في قلب الشرق الأوسط؛ والآن، محاربة متشددي “داعش”.
ودائماً، كان هناك الكثير من الأعداء: الدولة العراقية؛ والميليشيات الشيعية؛ وتنظيم القاعدة في العراق والدولة الإسلامية.
يشبّه الأستاذ المتقاعد محمد جمال، 60 عاماً، التورط الأميركي الطويل في العراق بمسلسل تلفزيوني يستوعب الحدث تلو الآخر. ويقول “إنني أخشى مما هو قادم تالياً، وربما سيكون المستقبل أكثر سوءا. ربما تصنع أميركا شيئاً جديداً سيكون حتى أسوأ من الآن”.
في تأملاتهم للإرث الأميركي هنا، يزن العراقيون مزايا التحرر من حكم دكتاتور وحشي في مقابل التكلفة التي تبدو غير منتهية من التدمير والموت. وبالنسبة للعديد من العراقيين، يبدو الأمر أشبه بقصة ملحمية من دون نهاية، خاصة الآن فيما هم يرون الصور على شاشات التلفزيون للتدمير شبه الكامل لمدينة الرمادي، مدينة محافظة الأنبار الغربية التي طرد منها أخيراً تنظيم “الدولة الإسلامية” بفعل الضربات الجوية الأميركية والقوات البرية العراقية.
ويقول السيد جمال عن غزو العام 2003: “كنا سنة وشيعة نعيش جنباً إلى جنب. لكنهم فرقوا الناس وقسموهم. ودمروا المدن”.
واستعاد السيد عبد الله نشوة العام 2003 عندما استقبل العديد من العراقيين الأميركيين كمحررين، وكانوا ممتنين لرؤية صدام حسين وقد هلك. وقال عراقيون، بنصف مزاح، أنهم توقعوا أن يصبح العراق الولاية الأميركية الحادية والخمسين.
والآن مع ذلك “فقدنا أملنا في الأميركيين… هذه خبرتنا على مدار 25 عاماً منذ العام 1991 وحتى الآن”، كما قال.
وتجدر الإشارة إلى أن معظم ضحايا قصف ملجأ العامرية كانوا من السنة، الطائفة التي كانت تقبض على السلطة في ظل حكم صدام حسين. ويشكل عدم الاحتفاء بالذكرى في الأوقات الأخيرة مصدر ألم بالنسبة للسنة الذين يعتقدون بأن معاناتهم لا تهم ولا تقض مضاجع الحكومة العراقية ذات القيادة الشيعية.
لكن لدى العقيد فراس حسن، المسؤول عن وحدة الجيش العراقي التي تعسكر الآن في الملجأ تفسير أكثر وضوحاً: “الدم العراقي رخيص جداً”.
مع ذلك، تم إحياء الذكرى بطرق أصغر في الكتابات على المواقع الإلكترونية، وفي إرساليات عاطفية على مواقع التواصل الاجتماعي.
أحد الكتاب، رجل يدعى علي هاشم، كتب على “فيسبوك” قائلاً: “لقد اعتدنا أن نتذكر هذه الجريمة قبل الغزو. أما الآن، فقد طويت في غياهب النسيان بسبب المجازر اليومية والقتل. رحم الله شهداء العراق”.
وأيضاً على “فيسبوك”، كتبت لميس الجبوري قائلة: “ما أزال أتذكر ذلك اليوم مثلما أتذكر كم صرخنا عندما شاهدنا الأشلاء المقطعة والناس الموتى. لقد دمرتنا أميركا وهي مستمرة في تدميرنا. ندعو الله أن ينتقم لنا”.
في أعقاب القصف في العام 1991، وبعيد بث صور الكارثة المدنية للعالم من جانب قلة من المراسلين الأجانب في بغداد، دافعت وزارة الدفاع الأميركية عن الهجوم في البداية، وقالت إن معلومات الاستخبارات أظهرت أن الحصن كان مركز قيادة وتحكم للجيش العراقي. وراجت تقارير في حينه تقول إن السيد صدام حسين كان يزور بنفسه الملجأ.
ثم في وقت لاحق، تقرر أن الحادث كان خطأً تراجيدياً: لم يكن السيد حسين يستخدم المدنيين كدروع بشرية كما كان قد زعم من قبل. كما أن الملجأ لم يكن أيضاً مرفقاً عسكرياً مهماً بالرغم من أن بعض مسؤولي الاستخبارات العراقيين كانوا هناك. وكتب مايكل أر. غوردون، مراسل صحيفة “نيويورك تايمز” وبيرنارد اي ترينر، الجنرال المتقاعد في سلاح البحرية الأميركية في كتابهما بعنوان “حرب الجنرالات: القصة الداخلية للصراع في الخليج” أنه “من الواضح أن قصف المرفق كان خطأ استخباراتياً”.
أحد الجنود المتمركزين في الموقع، تيسير مهدي (31 عاماً)، أصبح الدليل السياحي غير الرسمي للناس القلائل الذين يجيئون لزيارة الموقع. وهو يتذكر الحادثة منذ كان فتى يافعاً، ويقول أن والده كان قد روى له القصة بأكملها. ويقول عن الناجين الذين قابلهم: “أريد خدمة العائلات”.
وكانت له، كجندي في الجيش العراقي، حصته من اللقاءات مع أميركيين تدرب معهم جنباً إلى جنب. وكما يفعل العديد من العراقيين، يفصل بين المشاعر الدافئة لعلاقاته الشخصية التي أسسها معهم وبين اعتقاده بأن السياسة الأميركية في العراق قد ألقت ببلده في أتون الدمار.
ويقول مهدي: “لقد ساعدونا في التخلص من صدام حسين… لكنهم جلبوا لنا ألف صدام حسين”.
عبدالرحمن الحسيني
صحيفة الغد الإردنية