في العشرين من الشهر الحالي طلب رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي من مجلس النواب تفويضًا له في تشكيل حكومة جديدة ذات طابع تكنوقراطي، يرى فيها وسيلة لحل أزمات الدولة العراقية. وهنا نتساءل، في حال وافق مجلس النواب على طلب رئيس الوزرا، هل ستتمكن تلك الحكومة من تجاوز كل أزمات العراق، أم أن أزماته أعمق من مجرد تشكيلها؟
أفرزت العملية السياسية العراقية في مرحلة ما بعد عام 2003م، وإصدار دستور جديد في تشرين الأول/أكتوبر نظامًا سياسيًا نيابيًا مجردًا من الناحية، لكنه من الناحية العملية بُني وبتوافق من شركاء العملية السياسية العراقيةعلى المحاصصة الطائفية والقومية، إذ توافقوا فيما بينهم على أن يكون رئيس جمهورية العراق من أبناء القومية الكردية العراقية، ورئيس مجلس الوزراء من العرب الشيعة ورئيس مجلس النواب من العرب السُنة. هذا التوافق السياسي وليس الدستوري وبعد أكثر من عقد من الزمان على ممارسته كان قد أوصل العراق في المرحلة الراهنة إلى حافة الهاوية.
لأن هذا التوافق السياسي أوجد بنية سياسية عراقية غير مترابطة ولا منسجمة بين أجزاء النظام السياسي العراقي الأمر الذي انعكس بشكل سلبي على أداء كل مؤسسات الدولة العراقية. وبالطبع لم يعمل هذا التوافق السياسي على بناء دولة ديمقراطية كان الشعب العراقي بأمس الحاجة إليها بعد عقود من نظام حكم شمولي. بل عمّق من أزمات النظام السياسي العراقي، وخاصة بعد أن تسلم نوري المالكي رئاسة وزراء العراق لدورتين متالتين، فمعه لم يعد العراق يعاني من أزمة أو أزمتين من أزمات النظام السياسي المتعاف عليها في النظم السياسية، بل تجمعت كل أزماته في عراق كأزمة التوزيع والمشاركة التغلغل، وخلال مدة قياسية من الزمن لم تتجاوز الثمان سنوات من حكمه.
فأزمة التوزيع ونقصد بها هنا توزيع ثروات البلاد على أبناء الشعب العراقي بشكل متساوي ويكون هذا التوزيع على شكل قيم مادية ومعنوية، إلا أن هذا التوزيع لم يتحقق على الرغم من العوائد المالية النفطية التي جناها العراق خلال مدة حكمه تجاوزت مئات المليارات، هذه الأموال لو وظفها رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي بشكل صحيح لكان بمقدروه أن يحقق هدفين في آن واحد وهما تحقيق الرفاهية المعقولة للشعب العراقي بعد فترة حصار دولي قاسية فرضت عليه، كما بإمكانه أيضا إعادة بناء الدولة العراقية، وهذا ما لم يتحقق في عهده بل عمد على تبديد أموال العراق بطرق مختلفة. إذ كان الفساد المالي أحد أبرز معالم حكمه.
ولأن النظام السياسي العراقي الذي تأسس بعد عام 2003م، لم يكن نظامًا ديمقراطيا فيقينًا أن تبرز هنا أزمة المشاركة فبدل أن ينتهج رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي سياسة انفتاح على جميع مكونات الشعب العراقي، بل انتهج سياسة الاقصاء والتهميش ضد أبناء الطائفة السًنية في العراق فكان مصيرهم إما المعتقلات أو الإبعاد، وكان ورده على مطالبهم بالمشاركة في إدارة البلاد يتم عن طريق استخدام القوة، كإستخدام قواته القوة المفرطة في فض الاعتصامات في المحافظات السُنية في نهاية عام 2013م.
قادت السياسات الأمنية المفرطة لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي إلى بروز تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام”داعش” في حزيران/يونيو عام 2014م، ومن ثم ظهور أزمة التغلغل، إذ لم تعد الحكومة العراقية منذ ذلك التاريخ تسيطر على كامل التراب العراقي. أما عن أزمة الهُوية فهي من الناحية النظرية قد تكون معروفة الهوية العربية لكن من الناحية العملية كان على النقيض منها، إذ أصبح العراق بعهده تابعًا لإيران ومعاديًا للبيئة العربية في سياساته.
يمكن القول أن تطبيق التوافق السياسي في النظام السياسي العراقي كان قد استوحى من التجربة اللبنانية القائمة أيضًا على المحاصصة الطائفية على أساس اتفاق الطائف إذ اتفق اللبنانيون والدول الإقليمية الراعية لذلك الاتفاق على أن يكون رئيس جمهورية لبنان من الطائفة المارونية المسيحية، ورئيس الوزراء من الطائفة السُنية ورئيس مجلس النواب من الطائفة الشيعية، فبعد أكثر من عقدين على تطبيق التوافق السياسي في لبنان من الممكن الحكم عليه بأنه كان عديم الفائدة على المجتمع اللبناني كما كانت أيضًا عديم الفائدة على المجتمع العراقي، فكلتا التجربتين تتشابة بمسألة في الغاية الأهمية أن أصبح النظام الإيراني له تأثير كبير عليهما. ويختلفان في الخلفية التي بني عليها التوافق السياسي ففي الحالة اللبنانية بُني التوافق على خليفة الحرب الأهلية اللبنانية والتي استمرت ما يقارب خمسة عشر عام، أما في الحالة العراقية فقد بُني على خلفية مرحلة الإحتلال الأمريكي للعراق في التاسع من حزيران عام 2003م.
وبناء على ما تقدم، نخلص للقول أن حكومة تكنوقراط التي يسعي لتشكيلها رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي قد تكون علاج مرحلي لبعض أزمات العراق التي كانت من صنيعة رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي والذي أورثها لرئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي لكنها لن تكون علاج لجوهر أزمات النظام السياسي العراقي، لأنه ليس باستطاعة نظام سياسي بُني على التوافق السياسي أن يبني دولة بل على العكس من ذلك قد يعمل على هدمها، وهذا ما يحدث حاليا في العراق، فهو من أجل تجاوز أزماته الراهنة عليه أن يتجاوز مسألة التوافق السياسي لأن نتائجه كانت كارثية على العراق وقد يقود مستقبلًا إلى تقسيم العراق، وثانيا يؤسس لعقد اجتماعي عراقي يُغلب الهوية العراقية الجامعة على الهويات الفرعية لتكون هوية العراقي من زاخو حتى البحر.
معمر فيصل خولي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية