ما جاء القرار السعودي بإيقاف المساعدات للجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، مفاجئًا. لكنْ على الرغم من ذلك فقد كان صادمًا، وأربك حسابات داخلية لبنانية كثيرة. فقد انفرد وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل بالنأي بالنفس عن قرار الجامعة العربية بالإجماع على الاستنكار وإدانة إحراق السفارة السعودية بطهران، وقنصليتها بمشهد. ورغم ما أثاره هذا الموقف الشاذ من سخطٍ في الأوساط السياسية اللبنانية والإعلام السعودي والعربي؛ فإنّ جبران باسيل طلب من السفير اللبناني لدى السعودية اتخاذ الموقف نفسه في اجتماع مجلس منظمة التعاون الإسلامي!
جبران باسيل بدا «ملكيًا أكثر من الملك» كما يقول المَثَل السائر، لأنه ما حسب حسابًا إلا لمصلحة تياره السياسي مع حزب الله وإيران، إذ أراد منهم تأكيد الاستمرار في دعم ترشيح الجنرال عون لرئاسة الجمهورية. وقد تلقّى من نصر الله مكافأة مباشرة؛ إذ خرج الأمين العام للحزب على الإعلام ليقول إنّ عونًا هو مرشحه الأوحد، ولن يسمح بالذهاب إلى مجلس النواب لانتخاب رئيس للجمهورية إلا إذا صار متأكدًا أنّ الأكثرية هي في جانب عون!
أما الآخرون، كل الآخرين في لبنان تقريبًا؛ فإنهم خشوا كثيرًا وما يزالون من تداعيات القرار بالداخل ومن الناحيتين الأمنية والاقتصادية. من الناحية الأمنية والعسكرية لأنّ الجيش هو بالفعل بحاجة إلى السلاح والذخيرة، والتي كانت الهبة السعودية تؤمّنُها بمقتضى اتفاقٍ مع فرنسا. أما من الناحية الاقتصادية؛ فلأنّ الوضع الاقتصادي شديد التردي، والعملة اللبنانية خسرت 25 في المائة من قيمتها في العام 2015. وهكذا فإنّ الخزينة اللبنانية لا تستطيع تأمين الاحتياجات العاجلة والمتوسطة للجيش، ثم لأنّ اللبنانيين العاملين في السعودية ودول الخليج (وهم بمئات الآلاف) يرسلون إلى لبنان سنويًا بين 6 و7 مليارات دولار، وقد تكون وظائفهم وتجاراتهم مهدَّدة إن استمرت السياسات المعادية للمملكة والتي يقودها حزب الله وحلفاؤه من سنواتٍ لصالح إيران والمحور الإيراني. وقد بلغ من سيطرة الحزب ومعسكره على الدوائر الاقتصادية والإدارية والسياسية بالداخل، أنّ الولايات المتحدة الأميركية اتخذت وتوشك أن تتخذ قراراتٍ ضد القطاع البنكي المخترق جزئيًا من الحزب وأعوانه بغسل الأموال، وبتجارة المخدرات الدولية.
لا يستطيع أحدٌ أن يهبك أو يُنعم عليك بدور. بل إنّ الدور يقتضي التصدي للمسؤولية والزعامة. والمملكة العربية السعودية تتصدى منذ مجيء الملك سلمان بن عبد العزيز إلى السلطة للدفاع والحماية لشعبها وللشعوب العربية والبلدان الأُخرى في مواجهة «داعش» التطرف، وولاية الفقيه الإيرانية العابرة للحدود. ولا شكّ أنّ موقف باسيل يزيد من استتباع لبنان للمحور الإيراني المعادي للسعودية والعرب في تقدمهم لصون أمنهم وحدودهم واستقرارهم. إذ ما بقي عاملاً ولا فاعلاً في المشرق العربي بالمعنى القومي غير دائرة القرار المتمثلة بمجلس التعاون الخليجي.
إنّ هذا هو معنى القول إنّ القرار السعودي السيادي لم يكن مفاجئًا. إذ سيطر المسمَّى بحزب الله – بحسب التعبير السعودي – على المؤسسات والقرار بالبلاد، والسياسة الخارجية للدولة.
وما اكتفى الحزب وحلفاؤه بذلك، بل إنّ الأمين العام للحزب ذكر مرارًا في خطاباتٍ مثيرة أنه رأس حربة في التصدي للمبادرة السعودية من أجل الأمن العربي والقرار العربي. ولذلك ما كان القرار السعودي والدعم الإماراتي والبحريني مفاجئًا لهذه الناحية. إذ إنّ حزب الله أعلن شنّ الحرب على العرب في كل مكانٍ وانطلاقًا من لبنان. وقد دأب أهل الخليج منذ عقود على غضّ النظر، والاتجاه دائمًا لإنقاذ لبنان وإعادة إعماره بعد كل حربٍ أو خراب. وكانوا يعتبرون ذلك أمرًا طبيعيًا باعتبار أنّ لبنان كان دائمًا ضحية لنزاعاته الداخلية أو لحروب إسرائيل عليه أو للسيطرة السورية وأخيرًا لسيطرة حزب الله. وحتى بعد السيطرة استمرت المملكة ومعها دول الخليج في دعم لبنان. لكنْ عندما يبادر الخليجيون للدفاع عن الدول والشعوب العربية في وجه الإرهابين الداعشي والإيراني، ويقوم حزب الله كما «القاعدة» و«داعش» بإعلان الحرب بالمقابل، ومن على منصّة الدولة اللبنانية، ومركز القرار اللبناني؛ فإنّ السياسات الجديدة للمملكة وسائر دول مجلس التعاون، تقتضيها المصالح العربية الردَّ على الحزب من جهة، وتنبيه اللبنانيين إلى ما يصيب دولتهم ووطنهم نتيجة ضياع القرار السياسي، وتهدد الدخول في محورٍ مُعادٍ للعرب. لقد أعلنت المملكة من قبل حزب الله تنظيمًا إرهابيًا. ثم بادرت بعد ازدياد مظاهر الخروج على مقتضيات الانتماء العربي والإجماع إلى التنبيه لما يحصل، ودعوة اللبنانيين شعبًا وحكومة إلى مكافحة هذا التوجه المستولي والقاتل.
لقد قال مجلس الوزراء السعودي إنه لن يتخلى عن لبنان، لكنه تمسك بقراره إيقاف المساعدات عن الجيش وقوى الأمن. والسعوديون وأعضاء مجلس التعاون الآخرون يعلمون أنّ فريقًا كبيرًا من اللبنانيين يقاومون استيلاء حزب الله وحلفائه منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005. وبسبب هذه المقاومة استمرت الاغتيالات حتى العام 2013. وفي عام 2008 احتل حزب الله بيروت لإخماد المقاومة الوطنية. ولذا فإنّ على اللبنانيين أن يعرفوا بالفعل أنّ المملكة لن تتخلّى عنهم، وستظل مع الشعب اللبناني والدولة الواحدة الحرة والمستقلة، الخالية من الميليشيات، ومن الانقسام الطائفي، والعاملة على إدارة شؤون شعبها بكفاءة، والباقية بقرارها الحر وتضامُنها مع أشقّائها، ومع العالم المتمدن، الذي دخل لبنان إلى أرجائه الشاسعة منذ أكثر من قرنٍ ونصف.
إذا كنا نقاتل «القاعدة» و«داعشا» لعدوانهما على ديننا وأوطاننا، فكيف لا نقاوم الاستيلاء على لبنان من جانب ميليشيا طائفية ومذهبية، لا تكتفي بالسيطرة على القرار، بل تضيف إلى ذلك محاولة إلغاء الهوية والانتماء.
إنّ هذه الأهداف جميعًا تحتاج لمتابعة النضال السياسي والاجتماعي السلمي والحازم. وكما ما كان لبنان قادرًا بمفرده على مواجهة الحروب الداخلية والاستتباع السوري والتغلغل الإيراني إلا بالعرب ومعهم؛ فإنه محتاجٌ إليهم الآن أكثر من أي وقت مضى. إسرائيل احتلت وانسحبت. والجيش السوري استولى وانسحب. أمّا هؤلاء فالأخطر فيهم ومعهم أنهم فئاتٌ من الشعب اللبناني، تلقت خلال العقود الثلاثة الماضية ثقافة طائفية ومذهبية، سواء في الأوساط الشيعية أو المسيحية. ولذا فإنّ العمل السياسي المدني والسلمي وحده هو الدواء الممكن من هذه الأمراض. ومرة أُخرى فإنّ الإخوة في الخليج، والمجتمع الدولي، يظلُّون الأقدر على التضامن مع الشعب اللبناني والدولة اللبنانية، لأنه لا هدف لهم غير صون أمن لبنان وأمانه، كما كان شأن أسلافهم، وجيل خادم الحرمين الملك سلمان بن عبد العزيز، الذين أحبوا جميعًا لبنان الحر والمسالم والمتقدم، والذي توشك ميليشيات إيران أن تتهدد مستقبله بأفدح الأخطار.
رضوان السيد
صحيفة الشرق الأوسط