على الرغم من محدودية حجم القوات المشاركة فيه، مقارنةً بحجم المعارك الكبرى في التاريخ، فإن نتائج الصراع الذي يشهده الشمال السوري سوف تحدّد ليس فقط مصير سورية (كياناً ودولة) ومن يحكمها، بل ستحدّد مستقبل المنطقة كلها، بل ربما مستقبل النظام العالمي، حيث تحاول روسيا، من بوابة الشمال السوري، رسم ملامحه الجديدة.
أطراف الصراع
في هذه المعركة الفاصلة، تتواجه على الأرض عدة قوى محلية، هي: وحدات حماية الشعب الكردية – التي تحاول أن تتخفى تحت مسمى “قوات سورية الديموقراطية”، بضمها بعض العشائر العربية (فكرة أميركية على الأرجح). وتسيطر هذه القوات على الجزء الأكبر من الشريط الحدودي السوري التركي إلى الشرق من نهر الفرات، بعد أن تمكّنت، بدعم من التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن، من طرد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من مناطق عين العرب وتل أبيض، وأفشلت محاولاته السيطرة على القامشلي.
أما الشريط الحدودي الواقع في منطقة غرب النهر، والذي يصل طوله إلى نحو 160 كم، فيستأثر تنظيم الدولة بالسيطرة على الجزء الأكبر منه، في المنطقة بين جرابلس وأعزاز (بطول حوالى 98 كم وعمق يصل إلى 65 كم)، فيما تسيطر قوات المعارضة السورية على حوالى 12 كم تقريباً من الشريط، وهو المنطقة المعروفة بـ”كوريدور” أعزاز. أما الجزء المتبقي في منطقة/كانتون عفرين، فتتحكم به قوات حماية الشعب الكردية، وقد أعلنت فيها إدارة ذاتية ثالثة إلى جانب الإدارة الذاتية في كانتوني الجزيرة وعين العرب شرقاً. ويتمثل الفريق الرابع في الصراع على الشمال بقوات النظام السوري والمليشيات الأجنبية التي تؤازرها، وهي توجد على تماس مع القوى الثلاث الأخرى في الريف الحلبي.
أما خارطة القوى الدولية والإقليمية التي تشارك، مباشرة أو بالوكالة، في هذا الصراع، فتشمل روسيا التي تدخلت في سبتمبر/ أيلول 2015 لإنقاذ النظام المترنح، وتسيطر على معظم الأجواء السورية، كما أنشأت، استعداداً لإقامة طويلة، قواعد عسكرية في مناطق مختلفة يسيطر عليها النظام. وهناك الولايات المتحدة التي تقود تحالفاً دولياً ضد تنظيم الدولة، منذ سبتمبر/ أيلول 2014، وتسيطر على جزء من الأجواء السورية في الشمال والشرق، وتعمل، هي الأخرى، على إنشاء نقاط ارتكاز برية لها على الأراضي السورية (مثل تحويل مطار الرميلان الزراعي في أقصى شمال شرق سورية إلى مهبط للطائرات الحوامة).
تشمل القوى الإقليمية المنخرطة في الصراع إيران التي تتولى مهمة سد العجز في الموارد
البشرية لدى النظام السوري، من خلال المليشيات متعددة الجنسيات التي تديرها، إلا أن نفوذ إيران تراجع كثيراً في الآونة الأخيرة، بعد فشلها في إنقاذ النظام، مما استدعى تدخلاً روسياً، غدت بعده موسكو صاحبة اليد العليا في سورية، بعد أن كانت لإيران، ليس فقط عبر الغطاء الجوي الذي تؤمنه لقوات النظام، إنما عبر وجودها على الأرض السورية أيضاً، حيث تملك روسيا اليوم، وفق معلومات مؤكدة، قوات برية يناهز قوامها 15 ألف جندي، شاركت وحدات منها في معارك ريف اللاذقية الشمالي. وهناك السعودية التي لها نفوذ واسع بين فصائل المعارضة السورية، وقد غدت تؤدي دوراً أكبر بكثير مما كانت تؤديه سابقاً، بعد أن تمكّنت من جمع الطيف الأوسع من قوى المعارضة السورية في الرياض، وتحولت إلى مقر للهيئة العليا للتفاوض. أخيراً، هناك تركيا التي لها حلفاء مؤثرون على الأرض بين فصائل المعارضة السورية من العرب والتركمان، لكن تركيا، وعلى الرغم من أنها الوحيدة من بين كل القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في الصراع على الشمال السوري التي تملك حدوداً مشتركة مع سورية، إلا أنها، في الوقت نفسه، كانت الأقل قدرة على الحركة والمناورة، حيث تحولت متاخمتها الحدود السورية (نحو 900 كم)، بسبب تردّدها وكثرة حساباتها وعدم رغبتها في أخذ أية مخاطرة، إلى عبءٍ عليها، بدل أن تكون نقطة قوةٍ لها.
تصطف القوى الدولية والإقليمية والمحلية الفاعلة في الصراع السوري في معسكرين كبيرين، يشمل كل منهما دولاً وجماعات، يضم الأول روسيا وإيران والنظام السوري والمليشيات المتحالفة معه. ويضم الثاني الولايات المتحدة وتركيا والسعودية وفصائل المعارضة السورية. أما الأكراد فهم موزعون على المعسكريْن، بحسب الهدف والحاجة والاستخدام. وعلى الرغم من أن المعسكر الذي تقوده روسيا لا يخلو من تناقضات، فإن المعسكر الثاني يكاد يكون غير متسق لجهة الأهداف والغايات، الآنية منها والاستراتيجية، وهو ما يجعل هذه الاصطفافات أيضاً نظريةً أكثر منها حقيقية، حيث تتداخل مصالح أطراف المعسكرين، فتلتقي حيناً وتتعارض أحياناً. إذ تتفق روسيا وإيران، ومعهما واشنطن، في منع إسقاط النظام السوري، كما يتفق الطرفان على دعم الأكراد، وإن خدمةً لأغراضٍ مختلفة، حيث تستخدمهم واشنطن في قتال تنظيم الدولة، فيما تستخدمهم موسكو في قتال فصائل المعارضة السورية.
على ماذا يدور الصراع؟
يدور الصراع في الشمال السوري حول السيطرة على الأرض وأدوار القوى الإقليمية والدولية
في المسألة السورية. ويمكن تمييز مواجهتين فرعيتين داخل مشهد الصراع السوري الكبير. الأولى تجري ضد تنظيم الدولة، وفي الجزء من سورية الذي يسيطر عليه التنظيم، وتستأثر هذه المواجهة تحديداً بتركيز واشنطن. وتدور المواجهة الثانية حول من يسيطر على سورية ومن يحكمها، وتستأثر بتركيز روسيا وبقية أطراف الصراع في الإقليم. هاتان المواجهتان متداخلتان إلى درجةٍ يصعب التمييز بينهما، فنتائج الواحدة سوف تؤثراً تلقائياً في الأخرى.
يدور جزء كبير من الكباش الدائر اليوم في الشمال السوري حول وراثة تنظيم الدولة، فالنتيجة الحتمية الوحيدة في الصراع القائم الآن أن التنظيم سوف يخسر، لسبب بسيط، هو أنه وحّد العالم المتناقض على حربه وإزالته، لا بل يتراكض الجميع اليوم على قتاله، ويتزاحمون في مواجهته، لأن نتيجة هذه المواجهة سوف تصب، في المحصلة، في مسار الصراع الأكبر. أما دعائياً، فتعد محاربة التنظيم “معياراً للسلوك الحضاري”، ورفضاً للإرهاب والتطرف، وانسجاماً مع الأجندة الدولية التي تحددها واشنطن. وكانت الولايات المتحدة قد اتجهت، بادئ الأمر، نحو استخدام جزء من المعارضة السورية في قتال التنظيم، لكن نتائج معركة عين العرب التي تمكن فيها الأكراد، بدعم جوي أميركي مكثف، من هزيمة التنظيم، دعتها إلى اعتماد وحدات حماية الشعب الكردية، بدلاً من المعارضة السورية، قوة محلية للإمساك بالأرض التي يخليها التنظيم. وبعد أن نجح الأكراد في طرد التنظيم من معظم الشريط الحدودي مع تركيا إلى الشرق من نهر الفرات، بدأت واشنطن تفكّر في استخدامهم، لاستخلاص الجزء الذي يسيطر عليه التنظيم غرب النهر، في مسعىً إلى إغلاق آخر نقاط تواصله مع العالم الخارجي الذي يمده بالمال والمتطوعين.
أثار هذا الأمر حفيظة الأتراك المتوجسين من نيات الأكراد في إنشاء دولة كردية على حدودهم مع سورية، فعرضوا أن يقوموا، هم أنفسهم، بالمهمة عبر إنشاء منطقة آمنة، أو “خالية من داعش” بين جرابلس وأعزاز، تستخدم أيضاً لإقامة مخيمات لإيواء اللاجئين السوريين وقاعدة انطلاق للمعارضة السورية، لكن الأميركيين ظلوا يماطلون في الموافقة على الطلب التركي، خشية إثارة إيران، حتى تمكّنوا من التوصل إلى اتفاق معها حول برنامجها النووي. وبالفعل، لم يمض أسبوع على صدور قرار مجلس الأمن رقم 2231 الذي تضمن الاتفاق النووي مع إيران في 20 يوليو/ تموز 2015، حتى سرّب البيت الأبيض إلى صحيفة “واشنطن بوست” تفاصيل الاتفاق مع تركيا حول إنشاء المنطقة الخالية من تنظيم الدولة.
وما إن ذاعت أنباء توصل الأميركان والأتراك إلى اتفاق لإنشاء “منطقة آمنة” في الشمال السوري، حتى هرع النظام السوري الذي كان يفقد الأرض بسرعة في الشمال والغرب لصالح قوات المعارضة إلى موسكو، وأغراها بالتدخل لإنقاذه، عبر منحها اتفاقاً حوّل بموجبه سورية إلى محمية روسية، بكل ما في الكلمة من معنى، إذ جاءت الاتفاقية التي سرّبها الكرملين، ونشرتها “واشنطن بوست” شبيهةً، في بعض بنودها، باتفاقيات الانتداب الأوروبية في فترة ما بين الحربين. وقد تلقف الروس عرض النظام اليائس، وقرّروا استعمال سورية ساحة لاستعادة مكانتهم الدولية، بعد أن غدوا متيقنين من درجة الزهد الأميركي فيها. وقد قضى التدخل الروسي الذي جاء، هو الآخر، بذريعة محاربة تنظيم الدولة على كل احتماليةٍ، لقيام الأتراك بإنشاء “منطقة آمنة” كانوا يسعون إليها منذ عام 2012، خصوصاً، بعد أن أسقطت أنقرة طائرة روسية، اخترقت حدودها يوم 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015.
أهداف عديدة دعت روسيا إلى القدوم إلى سورية، لا مجال لذكرها هنا، بيد أن هدفها الرئيسي يتمثل، في هذه المرحلة، في إخراج تركيا تماماً من ساحة الصراع السوري، وهذا لا يتم إلا باستخلاص المناطق الحدودية المتاخمة لتركيا التي تسيطر عليها المعارضة السورية، وتتلقى دعمها منها. ويتركز الاهتمام حالياً على إتمام عزل حلب وريفها، والتي تعد بحق بوابة تركيا إلى سورية، وذلك من خلال السيطرة على ما يسمى “كوريدور” أعزاز، بواسطة قوات حماية الشعب الكردية.
من جهة ثانية، يُرجّح أن يؤدي ضغط تركيا والسعودية على واشنطن، لتغطية تدخل بري تقوم
به الدولتان، للحيلولة دون إجهاز روسيا على ما تبقى من وجودٍ للمعارضة السورية في الشمال، ولتقديم بديل لواشنطن للإمساك بالأرض التي يخليها تنظيم الدولة بين جرابلس وأعزاز، بدلاً من اعتماد الأكراد للتصدي لهذه المهمة، إلى إشعال سباق للسيطرة على أراضي التنظيم، فروسيا التي زعمت أنها جاءت إلى سورية، لمواجهة تنظيم الدولة، آخذةً على واشنطن فشلها في ذلك، لم تكن مهتمة حتى اللحظة، إلا بالقضاء على قدرات قوى المعارضة السورية، وإنهاء النفوذ التركي في الشمال السوري. لكن روسيا سوف تجد نفسها، في المرحلة المقبلة، مضطرةً، على الأرجح، لفتح جبهة مع تنظيم الدولة، لا لشيء إلا لإغلاق الباب أمام أي احتمال (وهو قليل جداً على أية حال) لحصول تدخل بري تركي- سعودي، تحت قيادة التحالف الذي تقوده واشنطن.
لذلك، من المتوقع أن تعد روسيا قريباً لهجوم كبير على مناطق سيطرة داعش في اتجاهين: الأول تدفع من خلاله بقوات حماية الشعب الكردية باتجاه السيطرة على خط جرابلس- أعزاز، وهو عملياً الخيار نفسه الذي تفضله واشنطن، على الرغم من اعتراضات أنقرة. والثاني هو التحضير لهجوم واسع، يقوم به النظام والمليشيات الإيرانية المتحالفة معه باتجاه معقل التنظيم في الرقة. وسوف تكون الأولوية، بالتأكيد، للسيطرة على خط جرابلس- أعزاز باعتبار أن أي تدخل بري لقوات التحالف سيأتي، من خلاله، في حال اقتنعت واشنطن بإعطاء دور للسعودية وتركيا في معركة القضاء على تنظيم الدولة.
تتوهم روسيا أن مخططها يسير على ما يرام في سورية، إذ تتجه إلى عزل تركيا، بإغلاق المنافذ عليها من ريف اللاذقية الشمالي إلى ريف حلب، وتتجه إلى إكراه الجميع على التسليم بوجودها الطويل في سورية، وفرض نظام الحكم الذي تريده عليها. لكن روسيا تتناسى، أو تتجاهل، أربع حقائق كبرى: الأولى أن هذا يحصل فقط نتيجة غياب الإرادة، وليس القدرة على مواجهة دورها في سورية، فلو قرّرت دول الإقليم (السعودية وتركيا خصوصاً) تجاهل الاعتراض الأميركي، ومواجهة روسيا في سورية على نمط ما فعلت (السعودية وباكستان) في أفغانستان بين 1979-1989، ستأتي النتيجة، بالتأكيد، مشابهة. الحقيقة الثانية، أن سورية مهمة جداً لجميع أطراف الصراع، وبالتالي، لن يكون بمقدور لا تركيا ولا السعودية ولا عموم النظام الإقليمي تحمل خسارتها. لذلك، لن يحصل استقرار في سورية، ما لم يتم التوصل إلى تسوية مرضية للجميع. الحقيقة الثالثة، أن روسيا لن تستطيع، مهما فعلت، أن تتحدّى إرادة شعب، وأن تفرض نظام حكم من صناعتها في سورية، وهي إذا كانت قد أخفقت في فعل ذلك في أوكرانيا، فالأحرى أن يكون فشلها مضاعفاً في سورية. الحقيقة الأخيرة التي تتجاهلها روسيا تتمثل في أن الجغرافيا، وليس القوة، هي ما سيقرر نتيجة الصراع السوري في نهاية المطاف، فتركيا ستبقى حيث هي جارة لسورية، روسيا فقط هي من سيرحل، لأنها لا تنتمي إلى هذا المكان.
مروان قبلان
صحيفة العربي الجديد