مرت الدولة التركية المعاصرة منذ نشأتها في العام 1923م في العديد من الأزمات الداخلية والخارجية، استطاعت الحكومات التركية المتعاقبة في التعامل معها بشكل يحافظ على وحدة البلاد وبأقل الخسائر الممكنة. لكن هذه المرة تشهد الدولة التركية أزمة إقليمية حادة لها انعكاساتها السلبية على الداخل التركي، وهذه الأزمة ترتبط بمجريات الثورة السورية وما يشهده شمالي سوريا من تقدم قوات وحدات حماية الشعب الكردية الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي باتجاه الحدود التركية، كمحاولة لإقامة الإدارة الذاتية تقود في المستقبل إلى قيام دولة كردية في شمالي سوريا، إذ تعتبر هذه الخطوة انتهاكا للخطوط الحمر في السياسة الخارجية التركية.
وفي هذا السياق أكد رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان موقف بلاده الرافض لإنشاء الكيان الكردي شمالي سوريا بالقول:” لن نقبل بقيام كيان كردي على حدودنا مع سوريا” وأضاف أن “تركيا ستقف ضد أي محاولات للمسلحين الأكراد لإقامة ممر بين المناطق التي يسيطرون عليها شمالي سوريا، أن بلاده لن تسمح لحزب الاتحاد الديمقراطي، بإقامة ممر في الشمال السوري” وقال أيضًا “نحن قلنا إننا لن نسمح بإقامة مثل هذا الممر( المدن والمناطق” أعزاز ومنبج وجرابلس ومارع)، وسنفعل ما يمليه الواجب علينا في هذا الخصوص، فوجود مثل هذا الممر للتنظيمات الإرهابية يمثل مشكلة وخطرا بالنسبة إلينا”.
وتعتبر الحكومة التركية هذه المدن والمناطق خطاً أحمر لن تسمح بوقوعها تحت سيطرة وحدات حماية الشعب الكردي، إذ إنها قلقة من أن تؤدي سيطرة هذه الوحدات على تلك المناطق إلى ربط المناطق الكردية في أقصى الشرق أي الحسكة والقامشلي بمنطقة عفرين في أقصى الشمال الغربي، وهو ما يعني أن الحدود التركية ستصبح بالكامل مع كيان كردي سيشكل في المستقبل سنداً لحركة الأكراد في تركيا ولمطالبهم بإقامة حكم ذاتي في المناطق الكردية بتركيا، حيث ترى أنقرة أن هذا المشروع هو مشروع حزب العمال الكردستاني.
وهذا ماذا يعني؟ أن الحكومة التركية لن تقبل أي تغيير سيطرأ على الحدود السياسية التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو قبل قرن من زمان، لأن أي تغيير سيطرأ عليها قد يؤثر بشكل سلبي وبمرور الوقت على اتفاقية لوزان التي رسمت حدود الدولة التركية الحالية وهذا ما ترفضه، فهي تخشى في حال قيام كيان كردي في شمالي سوريا العودة مجددا إلى بنود بنود معاهدة “سيفر” التي أقرت قيام كيان كردي قبل أن تتخلى الدول الاستعمارية عن وعودها للأكراد، فهل الظروف الإقليمية والدولية الراهنة ومجريات الأحداث الإقليمية أعلنت عن نهاية العمل ببنود اتفاقية سايكس بيكو واتفاقية لوزران، أم أن الأمر لا يعدو عن أزمة إقليمية لها أبعادها الدولية سبق وأن مرت بها الجماعة الدولية دون التأثير أو تغيير ما تم اعتماده بموجب الاتفاقيتين سالفتا الذكر، أم أن الأمر قد تغير؟
دفعت المكتسبات العسكرية الميدانية مؤخرًا لقوات وحدات حماية الشعب الكردية المدعومة عسكريًا من قبل الولايات المتحدة الأمريكية و المسنودة بغطاء جوي روسي في شمالي سوريا، الحكومة التركية تغيير أولوياتها تجاه الأزمة السورية، فقد كانت أولى أولويات السياسة الخارجية التركية ولاسيما بعد الإطاحة بحكم الرئيس التونسي زين العابدين بن علي والرئيس المصري حسني مبارك، وقبل اندلاع الانتفاضة السورية وبعد اندلاعها بعدة شهور أن يقبل الرئيس السوري بشار الأسد على معالجتها عبر مقاربة إصلاحية وليس الاعتماد على المقاربة العنفية. ولما رفض الرئيس السوري بشار الأسد ذلك وانتهج العنف باعتباره الوسيلة الأمثل لقمع الانتفاضة السورية، تطورت الأولوية التركية ليصبح إسقاط حكمه أولى أولوياتها. إذ دعمت الحكومة التركية المعارضة السورية بشقيها العسكري والدبلوماسي، ولتضييق الخناق على الرئيس بشار الأسد والإسراع في إسقاط حكمه طالبت الحكومة التركية من الأمم المتحدة وحلفائها الدوليين وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية بإنشاء “منطقة الآمنة” لاستيعاب اللاجئين السوريين الفارين من بطش حكم الرئيس السوري بشار الأسد، وكخطوة وقائية أيضًا لقطع الطريق على أكراد سوريا في السيطرة على الشريط الحدودي بين تركيا وسوريا. ولكن قوبل هذا الطلب التركي من قبل الولايات المتحدة الأمريكية بالرفض، ومن المؤكد لم يكن رفضها هذا عبثًا وإنما ورقة ابتزاز أو ضغط قد تستخدمها في أي مرحلة من مراحل الأزمة السورية ضد الحكومة التركية أو ورقة تستخدمها ضد جميع الدول والتنظيمات المعنية في الأزمة السورية.
ونظرًا لتداخل مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا من جهة وتناقضها مع الحكومة التركية من جهة أخرى في الأزمة السورية، فقد أصبح من أولويات السياسة الخارجية التركية منع قيام كيان كردي محاذي لحدودها من الناحية الشمالية مع سوريا. فالحليف الأمريكي والشريك الروسي السابق لا يعارض من سيطرة وحدات حماية الشعب الكردي-والتي تعتبر من قبل الحكومة التركية جناحا عسكريا لتنظيم “إرهابي”.
فالولايات المتحدة الأمريكية تتعاون مع وحدات الحماية الشعب الكردي لمحاربة تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام “داعش” وقد يفسر هذا التعاون أيضًا في السياق الاستياء الأمريكي من الموقف التركي الذي وقف من وجهة نظر أمريكي موقف غير إيجابي وسلبي من سيطرة تنظيم الدولة”داعش” على مدينة عين العرب “كوباني” الذي لم يقدم الدعم الكافي من أجل تخليص المدينة منه.
ويمكن تفسيره أيضا في إطار الزيارة التي قام بها “بريت ماكفورك” مبعوث الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى المناطق الكردية السورية في مطلع شباط/ فبراير 2016م، إذ مثلت الزيارة عهداً جديداً من الانفتاح الأمريكي على أكراد سوريا، في وقت فيه يبحث الأكراد عن اعتراف إقليمي ودولي بهم، وتمكينهم من المشاركة في الجهود الدولية لتسوية الأزمة السورية، وهو ما أثار ردود فعل غاضبة من قِبل رئيس جمهورية تركيا رجب طيب أردوغان، وصلت إلى حد مخاطبة الإدارة الأمريكية على الهواء مباشرة، ومطالبتها بالاختيار بين التحالف التاريخي مع بلاده أو أكراد سوريا.
لاشك أن الأكراد السوريون يطمحون إلى نوع من الحماية الدولية في ظل مخاوفهم الدفينة بسبب ما تعرضوا له من هجمات من قِبل الجماعات المسلحة، لاسيما من قبل تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام “داعش”، حيث مناطقهم الغنية بالنفط والغاز والمياه في شمال سوريا وشرقها. كما يتطلعون إلى الحصول على أسلحة متطورة في إطار الصراعات والحروب الحالية في البيئة الإقليمية، فضلاً عن طموح قديم في الحصول على اعتراف دولي بحقوقهم القومية والمتمثلة بحق تقرير المصير.
في المقابل، تدرك الولايات المتحدة الأمريكية أهمية الأكراد كلاعب إقليمي مهم من الضروري الاستفادة بدوره في الحرب ضد “داعش”. وبالتالي فإن الانفتاح الأمريكي على أكراد سوريا يحمل معه طابع الحاجة الأمنية لدورهم أكثر من الانطلاق من موقف داعم لحقوق الشعب الكردي وتطلعاته. لكن الثابت أن هدف الأكراد من التحالف مع واشنطن يتجاوز التنسيق والتعاون العسكري ضد “داعش” إلى دعم قضيتهم سياسياً، فمشروع الإدارة الذاتية التي أعلنها حزب الاتحاد الديمقراطي قبل أكثر من سنة يحتاج إلى الدعم والاعتراف، كما أن الحزب ينشد من الانفتاح عليه الاعتراف به مُمثلاً للحركة الكردية في سوريا في ظل الانقسام والخلافات بينه وبين أحزاب المجلس الوطني الكردستاني المنضوية في الائتلاف الوطني السوري.
كما أن دعم العسكري المقدم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية لوحدات الحماية الشعب الكردي يمكن تفسيره في إطار الخلاف الأمريكي التركي بشأن محاربة “داعش” إلى تضارب في الاستراتيجيات العامة تجاه الأزمة السورية. وبينما تؤكد الإدارة الأمريكية على أولوية محاربة تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام “داعش” والانتقال إلى حل دبلوماسي للأزمة السورية، تصر الحكومة التركية على ربط إسقاط حكم الرئيس السوري بشار الأسد، ولهذه الغاية تدعم الحكومة التركية المعارضة السورية المسلحة وتعمل من أجل تدخل بري على الرغم من المخاطر الشديدة لمثل هذا التدخل واحتمال تحوله إلى حرب إقليمية ودولية ستكون لها تداعيات مدمرة على المنطقة.
وفي ظل هذا التباين، فإن الخلاف الأمريكي – التركي بشأن وضع أكراد سوريا وصل إلى مرحلة متقدمة، خاصةً أن إمداد الولايات المتحدة للأكراد بالسلاح يلقى رفضاً من قِبل الحكومة التركية التي تؤكد دوماً على وصف حزب الاتحاد الديمقراطي بالإرهابي، فيما ترفض الإدارة الأمريكية مثل هذا التصنيف للحزب. إذ تجنب نائب الرئيس الأمريكي جون بايدن خلال زيارته الأخيرة لتركيا في شهر كانون الأول/يناير الماضي، ذكر وحدات حماية الشعب ضمن التنظيمات الإرهابية، وقال: «الولايات المتحدة تدرك أن داعش ليست التهديد الوحيد للشعب التركي، فحزب العمال الكردستاني هو تهديد لهم بالقدر نفسه.. لا فرق بين داعش وبي كي كي وجبهة النصرة» في حين قال رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو لنائب الرئيس الأمريكي جون بايدن مخاوف تركيا وأن حزب الاتحاد الديمقراطي يقع ضمن التنظيمات التي تشكل تهديداً للأمن القومي لبلاده.
أما روسيا فهي تتعاون مع وحدات حماية الشعب الكردي لمحاربة المعارضة السورية الحليفة لتركيا، وليس كما دعت بأن تدخلها لمحاربة الإرهاب في سوريا والمتمثل في تنظيم الدولة، كما أن روسيا تتعاون مع هذه الوحدات كأحد أدوات الانتقام من الحكومة التركية على اسقاط إحدى طائراتها المقاتلة في تشرين الثاني من العام الماضي. بل أن روسيا في تعاونها مع حزب الاتحاد الديمقراطي ذهبت أبعد من ذلك من التعاون الأمريكي معه، إذ فتحت روسيا مؤخراً باب التعاون السياسي المباشر مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي بزعامة “صالح مسلم”. فبعد سلسلة لقاءات بين الجانبين، فتحت روسيا ممثلية للإدارة الذاتية الكردية في موسكو، وكثفت تعاونها العسكري مع وحدات حماية الشعب الكردية وقوات سوريا الديمقراطية، وبات الطيران الحربي الروسي يؤمن الحماية الجوية لهذه القوات في التقدم غرب الفرات عقب سيطرتها على سد تشرين في محافظة الرقة، وعزمها على تحرير المدن الحدودية مع تركيا، لاسيما أعزاز ومنبج وجرابلس ومارع من سيطرة تنظمي “داعش” و”النصرة”. وهذا التقارب الروسي مع أكراد سوريا، يعيد إلى أذهان إلى تلك العلاقة المتميزة التي جمعت بين روسيا وحزب العمال الكردستاني، فقد كان لهذا الحزب مكاتب رسمية فيها حينما كانت علاقاتها متوترة مع تركيا في مرحلة التي سبقت مجيء فلاديمير بوتين إلى حكم روسيا، ووصول حزب العدالة والتنمية إلى حكم تركيا، فهل سيتكرر هذا المشهد ثانية بمعنى هل ستقدم روسيا على اغلاق ممثلية حزب الاتحاد الديمقراطي في حال التقارب التركي الروسي مجدداً؟.
ويندرج في سياق هذا التعاون الأمريكي الروسي مع حزب الاتحاد الديمقراطي السؤال الآتي: هل هذا التعاون سيقود إلى تحقيق الحلم الأكراد في إقامة دولتهم ولو بشكل مرحلي وتبدأ من شمالي سوريا، ليتم ربطها -فيما بعد- مع باقي التواجد الكردي في دول الجوار الإقليمي؟، أم أن هذا التعاون ليس إلا تعاون مرحلي يزول مع زوال أسبابه، وتبقى المسألة الكردية ورقة ضغط يتم استخدامها من قبل تلك الدول كما تم استخدامها من قبل الدول الاستعمارية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى.
تكشف الأزمة السورية بأن هناك تباعد وصل مع زخم الأحداث الجارية على الأرض السورية إلى تناقض المواقف بين الولايات المتحدة الأمريكية والحكومة التركية، فيما يتعلق في ترتيب الأولويات بينهما، وكذلك الأمر في نظرتها لحزب الاتحاد الديمقراطي، هذا التناقض قد يدلل على أن العلاقات الأمريكية التركية ليست علاقات قائمة على التحالف، فعندما تعلن الدولة التركية أن حزب الاتحاد الديمقراطي حزبًا ارهابية يهدد أمنها واستقرارها وبينما حليفها يتعاون معه فهذا الأمر يشكل استفزاز لها، فهل كانت ستقبل الولايات المتحدة الأمريكية من تركيا اعتبار تنظيم القاعدة تنظيمًا ليس إرهابيا وتقبل من تركيا التعامل معه؟! فمن مستلزمات قيام أي تحالف بين دولتين أو أكثر أن تراعي الدول الاعتبارات الأمنية فيما بينهما، وهذا ما لا يحدث في الحالة حزب الاتحاد الديمقراطي. كما تكشف الأزمة السورية أنه بإمكان الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا اللتنان تتصارعان في شرق أوروبا أن تتعاونان في محطة من محطات الأزمة السورية ليدلل هذا الصراع والتعاون على أن العلاقات بين الدول تقوم على أساس المصالح وليس لمجرد التحالف، فالدولتين المتحالفتين تاريخيا كتركيا والولايات المتحدة الأمريكية تتناقض مصالحهما في الأزمة السوريا بينما تتلاقى تلك مصالح الأخيرة مع منافس التاريخي لها وهي روسيا في ذات الأزمة.
تفيد التجربة التركية في التعامل مع كردستان العراق في مرحلة مابعد عام 2003م، بأنها أسقطت “مقاربة الخطوط الحمر” لمستقبل كردستان العراق والتي كانت تقوم على ضرورة السعي إلى تلافي دولة كردية في شمالي العراق، والامتناع عن الحوار مع السلطات الكردية العراقية ورفض أي اتصال بممثلي الأكراد العراقيين أو الاعتراف بإدارة الحكم الذاتي لإقليم كردستان في شمالي العراق. واستندت هذه المقاربة إلى فرضية أنه للتطورات السياسية في شمالي العراق انعكاسات حيوية مباشرة على الدولة التركية بسبب تمركز حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل شمالي العراق ونزوع أكراد العراق إلى تحويل الحكم الذاتي إلى دولة مستقلة تهدد بتعزيز الاتجاهات الانفصالية لدى أكراد الأناضول.
واعتمدت روح جديدة من الواقعية في الموقف التركي من كردستان العراق تقوم على العوامل الدبلوماسية والاقتصادية والتخلي عن المقاربة الأمنية الضيقة تجاه كردستان العراق، وبفضل هذه الواقعية تقدمت العلاقات الثنائية على كافة المستويات بين الدولة التركية وإقليم كردستان العراق، إذ يكفي نشير هنا أن تركيا مع مرور الوقت أصبحت الشريك الاقتصادي الأول لإقليم كردستان العراق، والسؤال الذي يطرح في هذا السياق هل ستعتمد الحكومة التركية نفس الروح الجديدة في حال سيطرة أكراد سوريا على شمالي سوريا ليقيموا شكل من أشكال الإدارة الذاتية آخذة في التطور مع تطور الأزمة السورية، والتعامل مع هذا الواقع الجديد أم إنها في الحالة الكردية السورية الأمر مختلف تماماً ولن تسمح في تجاوز الخطوط الحمر وستسخدم الحكومة التركية كل الخيارات المتاحة أمامها حتى لو كلفها ذلك الدخول في حرب إقليمية قد تتطور مداها؟
معمر فيصل خولي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية