واضح أن وتيرة التصعيد اللفظي بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران ارتفعت في الآونة الأخيرة وأن إجراءات تصنيف «حزب الله» إرهابياً أتت رداً على خطاب السيد حسن نصرالله الذي تحدى فيه السعودية. أتى كل ذلك بالتوازي مع انتخابات إيرانية أسفرت عن تقليم أظافر جبهة المتشددين وعن فوز الوسطيين والإصلاحيين. لهذه النتيجة دلالات من الضروري التوقف عندها لدى رصد ما يحدث وسيحدث في ساحات الحروب بالنيابة من سورية إلى العراق إلى اليمن إلى لبنان، بل أن ملامح القلق منها بدت في مزايدة «حزب الله» على المواقف الإيرانية، وبالذات تلك الآتية من جبهة الاعتدال. فأي خطاب سياسي وأية استراتيجية بعيدة المدى من المفيد لدول مجلس التعاون الخليجي اعتمادها في هذه المرحلة الحرجة من علاقاتها مع إيران وحلفائها الممتدين من منظمات على نسق «حزب الله» إلى دول مثل روسيا وأيضاً الولايات المتحدة؟ وهل هناك أدوار ضرورية على موسكو وواشنطن اعتمادها لترطيب الأجواء السعودية – الإيرانية بل الخليجية – الإيرانية، ولوقف النزيف في ساحات الحرب، وللحؤول دون فتح ساحة جديدة للاستنزاف في لبنان؟
ما جاء في خطاب الأمين العام لـ «حزب الله» هذا الأسبوع أثبت وبرر دوافع القرارات الخليجية بدءاً بالقرار السعودي حجب الهبة للجيش اللبناني وانتهاءً بتصنيف الحزب «إرهابياً». نصرالله طمأن اللبنانيين، مشكوراً، أن قرار النزول إلى الشارع يضبطه هو وليس عائداً إلى حفنة شباب منعهم في خطابه من استقلالية هذا القرار الذي يضرب الاستقرار. وما لبث أن تعهد بضبط الشارع في لبنان حتى أقحم نصرالله لبنان في حرب اليمن معتبراً أن المصلحة القومية اللبنانية تقتضي عدم السكوت عما يحدث في اليمن.
هذا الكلام هو بمثابة اعتراف علني بأن «حزب الله» يحارب في اليمن، كما يتهمه التحالف العربي، وأنه شريك ميداني للحوثيين وللرئيس السابق علي عبدالله صالح كما هو شريك ميداني للرئيس السوري بشار الأسد في الحرب الأهلية السورية التي أسفرت عن مقتل حوالى نصف مليون سوري وشرّدت الملايين.
الأكثر خطورة هو أن نصرالله قرر إقحام لبنان في حرب اليمن عندما تحدث عن «المصلحة الوطنية» في عدم السكوت، بل في المشاركة في هذه الحرب. ما فعله نصرالله هو إعلان استمرار حربه على التحالف العربي في اليمن الذي تقوده السعودية. وهذا الموقف من اليمن هو أحد أهم أسباب الرد الخليجي الذي صنّف الحزب إرهابياً. إنه سيؤدي، على الأرجح، إلى تمسك الدول الخليجية بمنع رعاياها من زيارة لبنان، وإلى عدم عودة السعودية عن إلغاء الهبة للجيش اللبناني – وكلاهما يكلّف اللبنانيين غالياً من ناحية الجمود الاقتصادي كما من ناحية تعزيز قدرات الجيش.
السؤال هو، هل أتى تصعيد نصرالله في مسألة اليمن بقرار إيراني، أو أنه قرار مستقل عن طهران. هذا التصعيد ليس لفظياً فقط، كما قال لنا نصرالله، بل إنه عسكري. مثل هذا التصعيد وإقحام لبنان فيه، يزيل طعم الطمأنة الذي ما كاد اللبنانيون يذوقونه في مطلع إطلالة نصرالله حتى بات مرّاً ومرعباً في آن.
بغض النظر إن كان هذا التطور الخطير إيرانياً بامتياز أو مستقلاً في إطار المبارزة ومعادلة الند التي أطلقها نصرالله، على القيادتين الروسية والأميركية التنبه لهذه الخطورة والتحرك فوراً مع طهران لمنع إقحام لبنان في حرب اليمن عبر بوابة «حزب الله». بل إن هذا هو المكان الذي يمكن للديبلوماسية الأميركية – الروسية أن تفتتح به ما تزعم أن في ودّها القيام به وهو بدء عملية إصلاح العلاقات السعودية – الإيرانية. لبنان اليوم هو المحطة الأولى الضرورية، لا سيما على ضوء إقحامه في موضوع اليمن. فمن الضرورة تحييده جدياً وفرض انتخاب رئيس له. فلا يجوز لـ «حزب الله» أن يرتهن البلد في الفراغ الرئاسي، وأن يحقق لنفسه حرية المشاركة في حروب الغير وجر لبنان إلى تلك الحروب.
من ناحيتها، من الضروري لدول مجلس التعاون أن تقرر إن كانت ستنساق وراء الاستفزاز اللفظي أو أنها ستتبنى استراتيجية متكاملة، بما فيها نحو إيران. المفهوم التقليدي لدى كثيرين من أهل الخليج هو أن «كلهم واحد» في إشارة إلى أقطاب نظام الحكم في طهران من معتدلين ومتشددين وأن هدف إيران يبقى تصدير الثورة إلى الدول العربية وتنفيذ مشاريع الهيمنة الإقليمية. هذا المفهوم، حتى وإن كان دقيقاً، يتطلب المراجعة أمام المعطيات الواقعية على الساحة الإيرانية، بما فيها نتائج الانتخابات التي قد تكون نافذة للتفكير بصورة مختلفة في العواصم العربية الخليجية.
فوز الرئيس المعتدل حسن روحاني بالمقاعد البرلمانية وجّه ضربة مؤلمة إلى الأصوليين و «الحرس الثوري». كذلك أن فوز الإصلاحيين والمعتدلين في مجلس الخبراء الذي يختار أعضاؤه المرشد المقبل، له دلالات مهمة حيث أن الشعب الإيراني صوّت بمعظمه لصالح الاعتدال المتمثل بحسن روحاني والرئيس السابق محمد خاتمي ورئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام، هاشمي رفسنجاني.
المقربين من روحاني أكدوا مراراً أن لديه وأنصاره برنامجاً مختلفاً عن مشاريع الأصوليين في إطار أصابع الأخطبوط الممتدة في الساحات العربية سعياً وراء الهيمنة وكذلك في إطار الحروب بالنيابة مع السعودية. وبحسب مصدر مطّلع، ما قاله الرئيس روحاني لمنظر أوروبي أثناء زيارته الأخيرة هو أن الاستقرار في السعودية مهم لإيران لأن ضرب الاستقرار السعودي يشكل تهديداً لإيران من ناحية تولي «داعش» أو «القاعدة» وأمثالهما ملء الفراغ.
أثناء ندوة في إطار منتدى «فالداي» في موسكو، أتت مداخلة الأستاذ في جامعة طهران، محمد سيد ماراندي، تحريضية ضد السعودية. ولكن، كان لافتاً أن في خضم حملته على السعودية وسياساتها في اليمن، تعمد البروفسور الذي ينطق بلهجة أميركية القول: نحن لا نريد أن نشهد اللااستقرار في السعودية.
هذه المواقف تستحق البناء عليها ضمن استراتيجية متعمدة. فالتكتيك الأفضل هو العمل الجدي باتجاه ترسيخ التعهد الإيراني بعدم التلاعب بالاستقرار السعودي. هذا ممكن إما عبر قنوات مباشرة بالذات مع معسكر الاعتدال المتمثل بالرئيس روحاني خصوصاً بعدما أتت الانتخابات لتقوية يده. وهو ممكن أيضاً عبر القنوات الروسية والأميركية – خصوصاً أن روسيا تريد لعب دور الوساطة بين السعودية وإيران – عبر فسح المجال لهذه الوساطة أن تحصل على التعهدات رسمياً من طهران.
الأمر الثاني هو أن انتكاسة المتشددين يمكن أن تشكل مدخلاً لخطاب سياسي مختلف للدول الخليجية لإعطاء فرصة للاعتدال. هذا لا يمنع الإصرار على المواقف الثابتة، إنما من المفيد الاستفادة من فرصة الانتخابات للتفاعل معها ضمن استراتيجيات مدروسة. فالسياسة الهجومية مفيدة في مكان، إنما قد لا تكون ضرورة في مكان آخر.
هناك من يقول أن الرهان الأميركي على تقوية الاعتدال في إيران نتيجة الاتفاق النووي ورفع العقوبات نجح، وأن الشراكة الأميركية – الروسية في هذا المسعى أسفرت عن تهدئة إيران في طموحاتها النووية، وإزالة ترسانة الأسلحة الكيماوية السورية – وكلاهما مطلب إسرائيلي بالدرجة الأولى. فالدولتان الشريكتان في سورية ونحو إيران اعتمدتا نموذج الاحتواء عبر الاحتضان مع طهران ونموذج الشراكة بدلاً من المنافسة والمواجهة في سورية. كلاهما يقول أن لا حاجة للهلع من العلاقة الاستراتيجية البعيدة المدى لكل منهما مع إيران ويستشهدان بنمو الاعتدال مع طهران بدلاً من التطرف. وهما يستدعيان الدول الخليجية إلى صياغة علاقات مبنية على السياسة الواقعية بعيداً عن الهلع والتجاذبات والاستنزاف.
البعض يتحدث هذه الأيام عن استراتيجيات كبرى تتعلق باليمن والعراق وسورية وليبيا ولبنان. يقولون أن موسكو ليست في علاقة استراتيجية محصورة بإيران والشيعة بل هي في صدد توسيع العلاقة مع السنّة العرب عبر البوابة المصرية والجزائرية مع الإصرار على الانتصار في سورية على الإرهاب وحفظ أولويات المصالح الاستراتيجية منها وتلك المتعلقة بالنفط والغاز.
في ما يتعلق باليمن، أكدت مصادر خليجية رفيعة المستوى أن روسيا مدّت المعونة الاستخبارية للتحالف العربي وليس فقط السكوت. مصادر أخرى غير خليجية تحدثت عن رغبة روسية وأميركية بتوفير الأرضية لاستراتيجية لخروج مشرّف من اليمن يحفظ كلياً أولوية الأمن القومي السعودي.
وفي العراق، هناك كلام عن اعتزام أميركا، وروسيا معها، على إرضاء السُنَّة هناك كي يتمكنوا من سحق «داعش» مقابل ضمانات عدم سحق حقوقهم في العراق.
في ليبيا، روسيا جاهزة لقلب تلك الصفحة التي أطلقت نزعة القومية لديها عندما شعرت أن حلف شمال الأطلسي (ناتو) أهانها وخانها عبر قرار لمجلس الأمن. وتفيد المعلومات أن موسكو لا تعارض تدخلاً أميركياً أوروبياً في عمليات جديدة في الساحة الليبية كي لا يستولي «داعش» أو «القاعدة» على البلاد.
بالنسبة لسورية، تقول مصادر مقربة من التفكير في طهران أن إيران لا ترغب بتقسيم سورية لأن التقسيم يؤدي إلى تقاسم سورية بدلاً من الاستفراد بالنفوذ بعد كل ذلك «الاستثمار». تقول هذه المصادر أيضاً أن طهران في ظل حكم الاعتدال ليست متمسكة ببشار الأسد لكنها لن تهرول إلى إعلان ذلك الآن.
أما الكلام الذي تم التداول به حول التقسيم والفيديرالية والاتحاد فإن ما يمليه هو ما يحدث ميدانياً في سورية. ولعل الكلام عن الفيديرالية يأتي في سياق مفهوم روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأميركية أي بمعنى الولايات ضمن دولة وليس إقامة دولة مستقلة.
راغدة درغام
صحيفة الحياة اللندنية