على الرغم من الانقسامات الداخلية العميقة والتهديد الأمني الخطير الذي يمثله تنظيم «داعش» والانهيار المالي بسبب انخفاض أسعار النفط، إلا أن هناك مؤشرات إيجابية في المسار العراقي تستحق التعاون والدعم من القوى الإقليمية والدولية.
فعلى رغم انهيار وحدات من الجيش العراقي أمام هجوم «داعش» عام 2014، إلا أن وحدات أخرى من الجيش، وبدعم من الشرطة الوطنية ومتطوعين من قبائل الأنبار السنّية، تمكنت من إخراج «داعش» من الرمادي، ما منح الحكومة وقواتها الأمنية ثقة جديدة ومصداقية شعبية، كما منحها بعض النفوذ في مواجهة وموازنة وحدات «الحشد الشعبي».
بدأت الحكومة عملية التخطيط من أجل طرد «داعش» من الموصل وتريد من قوات الجيش والشرطة الوطنية والمقاتلين المحليين من الموصل ونينوى أخذ زمام المبادرة. إلا أن الحكومة قلقة بشأن قوات البيشمركة الكردية وبشأن وجود عسكري تركي في بعشيقة الحدودية. والحكومة العراقية بحاجة إلى دعم التحالف الدولي في التحضير لكسب هذه المعركة ضد «داعش»، كما أنها بحاجة إلى الدعم السياسي من جانب الدول الإقليمية والولايات المتحدة وتركيا وأربيل لضمان أن تكون كل الأطراف الفاعلة موحدة ولتجنب التداخل في ما بينها. وفي حين تشعر الحكومة بثقة تجاه «داعش»، إلا أنها تدرك تماماً أن هزيمة هذا التنظيم من دون إعادة سريعة وإيجابية للنازحين إلى المناطق المحررة ستؤدي إلى خلق موجة جديدة من الأزمات ستكون الحكومة بحاجة ماسة إلى المساعدات الدولية لإزالة العبوات الناسفة من الأراضي المحررة، وإعادة بناء المنازل والمؤسسات المدمرة واستئناف خدمات المياه والكهرباء وتسوية النزاعات المحلية.
إلى ذلك، فإن هزيمة «داعش» في العراق مع بقاء نفوذه عبر الحدود في سورية يبقي تهديده لأمن العراق أمراً قائماً. وفي حين كانت استراتيجية «العراق أولاً» منطقية قبل عام ونصف، إلا أنه من الواضح الآن أن الحرب ضد «داعش» يجب أن تدار على قدم المساواة على جبهتين وعلى وجه السرعة في كل من العراق وسورية.
وكأن الحرب ضد «داعش» لم تكن كافية، فقد كان أيضاً على العراق أن يواجه انهياراً في أسعار النفط، ما يسبب عجزاً حاداً في الميزانية، فلم تعد إيرادات النفط كافية لتغطية رواتب موظفي القطاع العام، التي تصل الى حوالى 4 بلايين دولار في الشهر، بالإضافة إلى تمويل الحرب على الإرهاب، ناهيك عن تكاليف إعادة الإعمار وإعادة توطين السكان النازحين. إن الحكومة تستنزف احتياطاتها، معطية الأولوية لتغطية الرواتب وتمويل الحرب على الإرهاب. كما تجري محادثات مع صندوق النقد الدولي وحكومة الولايات المتحدة وغيرها من المؤسسات المالية للبقاء واقفة على قدميها مالياً.
بطبيعة الحال، فإن الوضع المالي الحالي في العراق ليس نتيجة انخفاض أسعار النفط فحسب ولكن أيضاً نتيجة تفشي الفساد وتضاعف حجم القطاع العام في السنوات الأخيرة. وعد رئيس الوزراء حيدر العبادي بإصلاحات طال انتظارها ولكن هناك الكثير الذي يتعين القيام به. وفي هذه الأثناء، وإلى أن ترتفع أسعار النفط مرة أخرى من مستوياتها المتدنية الأخيرة، فإن الحكومة العراقية تحتاج إلى مساعدة مالية عاجلة لتجنب المزيد من الانهيار ومواصلة الحرب ضد «داعش».
قضية «الحشد الشعبي»
يترقب الكثيرون في العراق التحديات التي ستواجه البلاد بعد التخلص من «داعش»، ومن هذه التحديات مصير وحدات «الحشد الشعبي»، فقد أوضح آية الله السيستاني، الذي أصدر فتوى عام 2014 دعا فيها للتطوع بشكل جماعي لمواجهة «داعش»، أوضح أن وجود هذه القوات هو أمر موقت وطارئ ويجب حل هذه الوحدات بمجرد التخلص من خطر «داعش». لكن الكثيرين في صفوف «الحشد» يريدون أن يصبحوا جزءاً من بنية المؤسسة الأمنية في البلاد وأن يدرجوا بشكل دائم على جداول الرواتب الحكومية.
بعض الجماعات الحزبية ضمن «الحشد الشعبي» يدفع باتجاه جعله أشبه بقوات «الحرس الثوري» في إيران لحماية الدور الشيعي المهيمن في الدولة من أي تهديدات مستقبلية. إنهم يشعرون بأن الجيش لم ولن يستطيع أن يلعب هذا الدور. ولا شك في أن الأخذ بهذا الخيار من شأنه تأجيج التوتر المذهبي.
يدور النقاش الآن حول تفاصيل مشروع قانون الحرس الوطني الذي يقبع في البرلمان، فالحكومة ليس لديها المال لتغطية نفقات إضافية ويشعر كثير من النواب الشيعة بالقلق من تمكين قوة يمكن قادتها منافستهم في الانتخابات المقبلة. وينقسم الساسة الشيعة والسنّة بشأن ما إذا كانت قيادة هذا الحرس الوطني يجب أن تكون على المستوى الوطني أو المحلي. لا بد من التوصل إلى حل وسط بهذا الشأن.
وهناك أيضاً بضعة آلاف من السنّة في صفوف قوات «الحشد الشعبي» وسيتم تجنيد المزيد، استعداداً لمواجهة «داعش» في الموصل. ومن المهم عدم التخلي عن هؤلاء كما تم التخلي سابقاً عن مقاتلي صحوة العشائر.
إن الكثيرين من المقاتلين الشيعة قد يعودون إلى حياتهم المدنية إذا دعاهم السيستاني إلى ذلك ولكن الكثيرين قد يشعرون أنه لم يعد لديهم ما يعودون إليه وسيسعون للبقاء في هذه القوات. وهناك خطر حقيقي من المسارعة إلى فرض حل مفاجئ لهذه القوة الكبيرة من الجماعات المسلحة التي يمكن أن تشكل خطراً أمنياً حقيقياً.
يمكن المجتمع الدولي المساعدة في إيجاد أرضية مشتركة يتم فيها دمج أعضاء من قوات «الحشد» ضمن قوات الأمن الأخرى التابعة للدولة وإضفاء الطابع المؤسسي على الحرس الوطني تحت قيادة الدولة المركزية، والتي يمكن أن تكون عوناً للقوات الأمنية الرئيسية. بينما تساعد في الوقت ذاته على تهدئة مخاوف الشيعة والسنّة بشأن سلامة مناطقهم.
وحدة الدولة
إن التحدي الأكبر الذي يواجه البلاد هو مستقبل الدولة العراقية نفسها بعد التخلص من «داعش». هل يمكن الدولة أن تحافظ على وحدتها وسلامتها أم أن العرب الشيعة والعرب السنة والأكراد سيسعون إلى الانقسام؟
قد يبدو أن القيادة الكردية في أربيل تخلت عن الإطار الاتحادي عندما أعلنت عن نيتها إجراء استفتاء على الاستقلال، على الرغم من أنها ربما لا ترى أي مسار واقعي لإقامة الدولة الكردية، نظراً إلى المعارضة الإيرانية والتركية الشديدة.
إن الزعماء السنّة في حالة ضعف وانقسام بين أولئك الذين يدعون إلى إقامة منطقة سنّية مستقلة لها موازنتها الخاصة وحرسها المسلح، وبين أولئك الذين يدعون إلى صيغة تواجد ضمن الدولة المركزية الواحدة مع تقاسم أكثر إنصافاً للسلطة في بغداد وحيز كبير من اللامركزية الإدارية.
يوجد انقسام أيضاً بين زعماء الشيعة، بين أولئك الذين لم يعودوا يثقون بالأكراد والسنّة العرب ويرضون بدويلة ذات أغلبية شيعية مطلقة من بغداد إلى البصرة، ويقبلون –لا بل يرحبون- بانفصال العرب السنة والأكراد، وبين غيرهم الذين يصرون على أن تقسيم العراق لن يكون سوى صيغة لموجات جديدة من التقاتل على الحدود والموارد الداخلية المتنازع عليها.
في الواقع، فإن مختلف مكونات العراق بحاجة إلى البقاء معاً ضمن إطار الدولة الواحدة، وإلا فستودي بهم محاولات الانفصال إلى أشكال جديدة من الصراع. وهناك قدر كاف من المرونة في الدستور العراقي تسمح بمستويات مختلفة من الحكم الذاتي واللامركزية.
إذا اعتقدت أربيل أنه يمكنها تحقيق الاستقلال، فلتستقلّ! أما إذا لم يكن الأمر كذلك فإنه ينبغي تشجيعها على وقف هذه العملية والعودة إلى العمل الجاد لتسوية الخلافات مع الحكومة المركزية في بغداد. يجدر بالقوى الإقليمية والدولية تشجيع أربيل في هذا الاتجاه والضغط على كل من أربيل وبغداد من أجل تسوية خلافاتهما.
أما بين المكونين العربيين، فمن الأفضل للسنّة والشيعة العرب محاولة التعايش في إطار دولة موحدة مع لامركزية موسعة بدلاً من المزيد من الانقسام الذي سيمزق نسيج العشائر والعائلات العراقية المتداخلة وسيؤدي إلى مزيد من الحروب. وعلى الحكومة العراقية الواقعة تحت الهيمنة الشيعية أن تكون أكثر تقبلاً لتقاسم السلطة بشكل حقيقي وبناء اللامركزية.
ولعل القيادات السنّية والشيعية المحلية التي تعاونت لتحرير الرمادي وتتعاون اليوم لتحرير الموصل، يمكن أن تلعب دوراً هاماً في وضع أسس إعادة الثقة بين المكونين. فعلى الرغم من التوترات والصراعات العديدة التي أصابت العلاقات السنّية– الشيعية في السنوات الأخيرة، فإنه لا بديل ولا أمل إلا بالتعايش في ظل دولة موحدة لامركزية مع مشاركة عادلة في السلطة.
ويجدر بالقوى الإقليمية أيضاً التراجع عن منطق الحرب الإقليمية المدمرة واستخدام نفوذها للتأثير على القيادات الشيعية والسنّية في العراق للقبول بالتعايش والتوافق حول صيغة سياسية وأمنية مشتركة. كما يمكن القوى الدولية وبالتنسيق مع القوى الإقليمية، التعاون والسعي في هذا الاتجاه، ما يمكن أن يساعد القادة في بغداد، من سائر الاتجاهات، في بناء الأرضية المطلوبة.
لقد أظهر العراقيون صموداً منقطع النظير في وجه التحديات الضخمة التي واجهتهم في السنوات والعقود الماضية ويحرزون تقدماً ملحوظاً اليوم في الحرب ضد «داعش»، لكن العراق ما زال بحاجة إلى مساعدة عاجلة لتفادي الانهيار والوصول إلى بر الأمان.
من المفترض أن يكون للعراق مستقبل مشرق في دعم الاستقرار والازدهار في العالم العربي، ولكنْ ما لم تتم مساعدته على التغلب على هذه التحديات اليوم فإن من الممكن أن يغرق تحت ثقل هذه التحديات ولن يمكن إنقاذه مرة ثانية.
بول سالم ورنده سليم
صحيفة الحياة اللندنية